اطبع هذه الصفحة


عبادة التفكر

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم  

 

لقد كان فضل الإسلام على البشريّة عظيماً حين جاء بحقائق تبيّن أن الكون في خدمة الإنسان وليس عدوّاً له، وأن كل شيء مسخر لخدمة هذا المخلوق المكرم، قال تعالى:

- {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم] .

- وقال: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)} [الجاثية] .

فعلاقة الإنسان بالكون علاقة تلازم وتناغم تتمثل في الاستكشاف المعرفي والانتفاع المادي متنوّع الأوجه والأشكال، كما تعني الاستلهام الجمالي، وهو ما لفت الله تعالى أنظارنا إليه في كثير من آي القرآن الكريم، قال تعالى:

{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)} [النحل] .

وهكذا يجمع الإسلام بين الإشباع الحسّي والوجداني وحاجات الإنسان المادية ليرتقي به ماديا ونفسيا ويحدث التوازن في شخصيته وحياته.

فالكون في رؤية الإسلام مصدر للمعرفة العلميّة والمعرفة الإيمانيّة، ولقد أجرمت الحضارة الغربيّة في حق الدين والعلم والإنسان حين ألغت الدلالات الغيبيّة لآيات الكون وقصرت التعامل على المعرفة الماديّة فقط، ونسيت أن هناك علاقة ترابط وانسجام بين الإنسان والكون، قال تعالى:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)} [النور]

وقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)} [الأنبياء]

وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)} [سبأ].

- عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ أُحُدًا، فَقَالَ: (هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ).

وفي رواية: نَظَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أُحُدٍ، فَقَالَ: (إِنَّ أُحُدًا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ). [البخاري ومسلم]

- وعَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حَدَّثَهُمْ؛ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَعِدَ أُحُدًا، فَتَبِعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمُ، فَقَالَ: اسْكُنْ، نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وشهيدان) [البخاري]

- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: جُمْدَانُ، فَقَالَ: (سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ، قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ). [مسلم]

فكأن هنا للجبال عواطف نسجت شبكةً من التجاوب بينها وبين عباد الله الصالحين ملؤها الحب والتعاضد في تمجيد الله تعالى، قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الحشر] .

وليس الجبال فقط بل كل شيء في الكون، فالنار تحسن معاملة إبراهيم عليه السلام فبدل أن تحرقه كانت برداً وسلاماً عليه. قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء]

والبحر يحتضن موسى عليه السلام وهو رضيع فارق أمّه وأهله ويحفّه بالرعاية حتّى يبلغ مأمنه، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)} [القصص]

والكهف الموحش –وهو مظنّة الهلاك– يؤوي الفتية المؤمنين الفارّين بدينهم فيجدون فيه السكينة الّتي افتقدوها في الدور القصور بين أهلهم الكافرين، قال تعالى: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)} [الكهف]

والريح تسارع بحمل البشرى إلى يعقوب عليه السلام قبل أن يصله قميص يوسف بأنّ ابنه المفقود حيّ يرزق، قال تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)} [يوسف]

ويرفق البحر والحوت معا بيونس عليه السلام فيخرج من المحنة العجيبة سالما لم يغرقه الماء ولم يأكله الحوت وإنّما ابتلعه فحسب، قال تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:142-144] .

بل إن الكون يصطفّ مع المسلمين في معركتهم الفاصلة ضدّ اليهود فينادي الشجر والحجر المسلم ويدلّه على مخبأ اليهوديّ ليخلّص الأرض من رجسه وظلمه، فعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (تُقَاتِلُكُمُ الْيَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَقُولُ الْحَجَرُ يَا مُسْلِمُ، هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فاقتله) [البخاري]

إن الكون كتاب مفتوح جعله الله تبارك وتعالى ليُقرَأ بكل لغة وبكل لسان، ويدرك بكل الحواس وبأي وسيلة للوقوف على صنع الله الذي أتقن كلّ شيء، والذي أعطى كل شيء خلقة ثم هدى.

لكن كثير من المسلمين يفهمون عبادات الجوارح، وأعمال اللسان، لكنهم قليلاً ما يفهمون «عبادات القلب»، ويسهل عليهم استيعاب أعمال اللسان وعباداته، وكذلك الشعائر التعبدية التي تقوم بها الأعضاء، لكنهم يصعب عليهم فهم «أعمال القلب»، ثم إذا فهموا ذلك فقليل منهم من يعمل به.. ومن العبادات القلبية العظيمة التي غفل عنها الكثيرون هي: «عبادة التفكر والتأمل»

فمن جميل خصائص التفكُّر أَن توجِّه الأمر به إلى مساحات فسيحة ودوائر متعددة لا تترك مجالاً يتسلل منه الملل للقلوب، ولا منفذًا يتسرب منه الخمول للعقل، وما ترك بابًا يوصل لحقيقة الإيمان إلا طَرَقه؛ فالأمر به اتسع ليشمل المحسوس والمعنوي.

هذا الإبداع الرباني الذي ينطق بعظمة الخالق جل وعلا؛ السماء وارتفاعها واتساعها وما فيها من مجرّات دائرة وكواكب نيرة ونجوم زاهرة، والأرض وانبساطها وانخفاضها وما فيها من جبال وبحار وثمار وأشجار وأنهار وإنسان وحيوان، تجعل القلب ينطق قبل اللّسان، قال تعالى:

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. [البقرة:163-164]

 

لقد أمر الله سبحانه بالتفكُّر والتدبر في كتابه العزيز، وأثنى على المتفكِّرين بقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191]

وقال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3]

ونعى سبحانه على الغافلين عن النظر والتدبر في كونه، فقال عز وجل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، وقال سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105]

 

إن التعرُّف على الله تعالى هو المقصود الأسمى والمطلوب الأهم من عبادة التفكُّر، وهو الغاية الجامعة لما سواها من غايات التفكُّر، وما سلك العابدون طريقًا إلى ربهم أسرع ولا أرحب من التفكُّر.

ولقد كانت عبادة التفكر دأب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منذ تحنثه وهو شاب في غار حراء، وظل ذلك ديدنه حتى لحق بالرفيق الأعلى، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما كان ليلة من الليالي قال: يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي، قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما سرك قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا. لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، ثم قرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190-191]. [ابن حبان]

- وعَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- بِسَبْعِ خِصَالٍ، فَلَنْ أَدَعَهُنْ حَتَّى أَلْقَاهُ، أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَمُجَالَسَتِهِمْ، وَأَنْظُرُ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي، وَلاَ أَنْظُرُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَلاَ أَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا، وَأَنْ أَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي، وَأَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي، وَأَنْ أَقُولَ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ أَمَرَّ مِنَ الصَّبْرِ، وَلاَ تَأْخُذُنِي فِي الله لَوْمَةُ لاَئِمٍ، وَأَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله. [المشكاة وفي إسناده نظر] .

- قال أبو سليمان الداراني: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله فيه نعمة ولي فيه عبرة.

- ولما سئلت أم الدرداء عن أفضل عبادة أبي الدرداء قالت: التفكر والاعتبار.

- وعن طاووس قال: "قال الحواريون لعيسى ابن مريم: يا روح الله، هل على الأرض اليوم مثلك؟ فقال: نعم من كان منطقه ذكرًا، وصمته فكرًا، ونظره عبرة فإنه مثلي".

- وكان لقمان يطيل الجلوس وحده فكان يمر به مولاه فيقول: يا لقمان إنك تديم الجلوس وحدك! فلو جلست مع الناس كان آنس لك, فيقول لقمان: إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة.

- وقال وهب بن منبه: "ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم, وما علم امرؤ قط إلا عمل".

وذلك لأن استدامة التفكُّر الذي يجمع بين وعي العقل وحضور القلب تصل بصاحبها إلى حُسْن الفهم عن الله، المورِّث للعلم الحقيقي الذي هو قناعة العقل واطمئنان القلب وانقياد الجوارح، فهو فَهْمٌ موصل لعلم، وعلم محفِّز لعمل، حلقة متشابكة يوصل بعضها لبعض بلا انقطاع.

- قال عمر بن عبد العزيز: "الفكرة في نعم الله عز وجل من أفضل العبادة".

- قال عبد الله بن المبارك يوماً لسهل بن علي -ورآه ساكتا متفكراً-: أين بلغت؟ قال: الصراط.

- قال الفضيل: "الفكر مرآة تُريك حسناتك وسيئاتك" .. لأن مرآة التفكُّر تعكس بنور البصيرة خبايا النفوس وعيوبها.

- وعن ابن عباس: "ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب".

- وعن محمد بن كعب القرظي قال: "لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ (إذا زلزلت) والقارعة لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إلى من أن أهذّ القرآن ليلتي هذًا ـ أو قال: أنثره نثرًا.

 

من آثار التفكر الطيبة في حياة المؤمن:

1/ التفكر في الكون يكشف عن عظمة الخالق في خلقه، ويجعل المرء يقر بوحدانية الله تعالى، ويتواضع لعظمته، فيزداد إيماناً وصفاء.

قال سفيان بن عيينة: "الفكرة نور يدخل قلبك". وذلك لأن التفكُّر بمعناه الواسع ودوائره المتعددة، يُعدُّ في وسائل التزكية وخطوات التربية وسيلةً هامة وخطوة كبيرة لبناء نَفْس مزكَّاة، وبدونه تتحول النفوس إلى نسيج هشٍّ، والعقول إلى مستودعات خاوية، وتغيب عن القلب حقيقة العبودية.

- جاء رجل للإمام الشافعي وسأله...يا إمام ما الدليل على وحدانية الله عز وجل، عندما رد الإمام ماذا كان ردة؟!: سبحان الله. الإمام لم ينظر إلى الفلك ومدراها وهي دليل على وحدانية الله وقدرته في الخلق، ولم ينظر إلى الجبال ورسوخها وشموخها، ولم ينظر إلى الأرض واتساعها،ولم ينظر إلى الشمس وشعاعها، بل قال الدليل على وحدانية الله تعالى ورقة التوت، فسأله الرجل كيف يا إمام؟. أجاب: الدودة تأكل الورقة فتخرج حريرا طريا، والنحل يأكل الورقة فتخرجها عسلا شهيا, والشاة تأكل الورقة فتخرجها لبن نديا، والغزال يأكل الورقة فيخرجها مسكا نقيا, المادة واحدة والصنعة مختلفة فمن الصانع.

- فتأمل – أيها العاقل – وسل نفسك: مَنْ علم الأسد إذا مشى وخاف أن يقتفى أثره ويطلب، عفى أثر مشيته بِذَنَبِه، ومن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه، فينفخ في منخريه، لأن اللبوة تضعه جرواً كالميت، فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه فيفعل به ذلك ! ومن ألهم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها، وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع!.

- ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنا وقت ولادتها أن تأتي إلى الماء فتلد فيه، لأنها دون الحيوانات لا تلد إلا قائمة، لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان، وهي عالية، فتخاف أن تسقطه على الأرض فينصدع أو ينشق، فتأتي ماء وسطاً تضعه فيه يكون كالفراش اللين والوطاء الناعم .

- ومن علم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون الآخر !.

- ومَنْ علم الكلب إذا عاين الظباء أن يعرف المعتل من غيره، والذكر من الأنثى، فيقصد الذكر مع علمه بأنّ عدوه أشد وأبعد وثبة، ويدع الأنثى على نقصان عدوها؛ لأنّه قد علم أن الذكر إذا عدا شوطاً أو شوطين حقن ببوله، وكل حيوان إذا اشتد فزعه فإنه يدركه الحقن، وإذا حقن الذكر لم يستطع البول مع شدة العدو، فيقل عدوه، فيدركه الكلب، وأما الأنثى فتحذف بولها لسعة القبل وسهولة المخرج، فيدوم عدوها!.

- ومَنْ علمه أنه إذا كسا الثلج الأرض أن يتأمل الموضع الرقيق الذي قد انخسف، فيعلم أن تحته جحر الأرانب، فينبشه، ويصطادها علماً منه بأن حرارة أنفاسها تذيب بعض الثلج فيرق!.

- ومن علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نوباً بين عينيه، فينام بإحداهما، حتى إذا نعست الأخرى نام بها، وفتح النائمة! حتى قال بعض العرب:

ينام بإحدى مقلتيه ويتقي *** بأخرى المنايا فهو يقظان نائم

- ومَنْ علم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث، فلا يبقى عصفور بجوارها حتى يجيء، فيطيرون حول الفرخ، ويحركونه بأفعالهم، ويحدثون له قوة وهمة وحركة، حتى يطير معهم!.

- ومن علم العنكبوت أن تنسج تلك الشبكة الرفيعة المحكمة، وتجعل في أعلاها خيطاً ثم تتعلق به، فإذا تعرقلت البعوضة في الشبكة تدلت إليها فاصطادتها!.

- ومن علم اليربوع أن يحفر بيته في سفح الوادي حيث يرتفع عن مجرى السيل ليسلم من مدق الحافر ومجرى الماء، ويعمقه ثم يتخذ في زواياه أبواباً عديدة، ويجعل بينها وبين وجه الأرض حاجزاً رقيقاً، فإذا أحس بالشر فتح بعضها بأيسر شيء، وخرج منه، ولما كان كثير النسيان لم يحفر بيته إلا عند أكمة أو صخرة علامة له على البيت، إذا ضل عنه!.

- ومن علم الفهد إذا سمن أن يتوارى لثقل الحركة عليه حتى يذهب ذلك السمن، ثم يظهر!.

- ومن علم الأيل إذا سقط قرنه أن يتوارى، لأنّ سلاحه قد ذهب، فيسمن لذلك، فإذا كمل نبات قرنه تعرض للشمس والريح، وأكثر من الحركة ليشتد لحمه، ويزول السمن المانع له من العدو .

 

2/ التفكر يفتح آفاق المعرفة والتعلم، فحينما يتفكر المرء في الكون يكتسب معارف جديدة وعلوم نافعة يستفيد منها في جميع أمور حياته .

قال أحد العلماء يبتدئ خطبته: الحمد لله رب المشارق والمغارب، خلق الإنسان من طين لازب، ثم جعله نطفه بين الصلب والترائب، خلق منه زوجه وجعل منها الأبناء والأقارب، تلطف به فنوع له المطاعم والمشارب، وحمله في البر على الدواب وفى البحر على القوارب، نحمده تبارك وتعالى حمد الطامع في المزيد والطالب، ونعوذ بنور وجهه الكريم من شر العواقب، وندعوه دعاء المستغفر الواجل التائب، أن يحفظنا من كل شر حاضر أو غائب، واشهد أن لا اله إلا الله القوى الغائب، شهادة متيقن بأن الوحدانية لله أمر لازم لازب، أرأيت الأرض في دورانها كيف تمسكت بكل ثابت وسائب، أرأيت الشموس في أفلاكها كيف تعلقت بنجم ثاقب، أرأيت الرياح كيف سخرت فمنها الكريم ومنه المعاقب، أرأيت الأرزاق كيف دبرت وهل في الطيور زارع أو كاسب، أرأيت الأنعام كيف ذللت فجادت بألبانها لكل حالب، أرأيت النحل كيف رشف رحيق الزهور فأخرج الشفاء الشارب، أرأيت النمل كيف خزن طعامه وهل للنمل كاتب أو حاسب، أرأيت الإنسان كيف ضحك أرأيت كيف تثائب، أرأيت نفسك نائما وقد ذهبت بك الأحلام مذاهب.

إذا أرأيت هذا كله فاخشع فلا نجاه للهارب، واشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسول الملك الواهب، ما من عاقل إلا وعلم أن الإيمان به حق واجب، سل العدوان وسل هل عابه في الحق عائب، سل الشهداء عنه هل كانت له في الدنيا مآرب، سل صناديد قريش في قليب بدر من الصادق ومن الكاذب، سل السيوف سل الرماح هل حملها مثله محارب، سل الغار عن الحمامة حيث باضت فأغشت أعينا كانت تراقب، سل سراقة عن قوائم حصانه كيف ساخت في الصخر حتى المناكب، سل أم العبد كيف سقاها اللبن والشاه مجهده وعازب، سل الشمس سل القمر عن نوره إذ الكل غارب، سل النجوم متى صلت وسلمت عليه في المسارب, سل المسجد الأقصى عن قرآنه والرسل تسمع والملائكة مواكب، سل الزمان متى توقف وسل المكان كيف تقارب، سل السموات السبع هل وطئها قبله راجل أو راكب، سل أبوابها كيف تفتحت ومن استقبله على كل جانب، سل الملائكة أين اصطفت لتحيته كما تصطف الكتائب، سل الروح الأمين لماذا توقف عند الحجاب ومن الحاجب، سل العشاق عن حبهم والناس فيما يعشقون مذاهب.

 

3/ التفكُّر يحيي القلوب ويُورِثها رقةً وإخباتًا لما ينطبع فيه من مشاهد العَظَمَة والقدرة والقهر التي تطرد دواعي الكبر والعُجْب، وتستنبت بذور الذل والتواضع، ومن مشاهد العفو والرحمة والإحسان والجود ما يستمطر أسباب الحياء والشكر؛ فيندفع مع كل مشهد من مشاهد التفكُّر وكل جَوْلة من جَولاته باعث من بواعث الشر ويستجلب باعثًا من بواعث الخير، ولا يزال القلب في ميدان التفكُّر يدافع الشر ويستجلب الخير حتى يبلغ من الرقة ما يكون معه على حال كريمة قريبًا من الله تعالى قريبًا من رحمته.

 

4/ التفكُّر يكشف للقلب ما حُجب عنه بسبب الذنوب من معاني الإيمان، ويجلب كلُّ نوع من أنواع التفكُّر للقلب مشهدًا من مشاهد الإيمان وحقيقة من حقائقه؛ فتظل معاني الإيمان وحقائقه: من يقين وخشية وحب ورجاء وتوكُّل وإنابة تلوح للقلب في جَوْلات التفكُّر، وكلما كان التفكُّر في حضرة من القلب وحضور من العقل كانت حقائق الإيمان أكثر وضوحًا وأشد تأثيرًا.. قال الحسن: عن عامر بن عبد قيس قال: "سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقولون: "إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكُّر".

 

5/ التفكر يورث الحكمة ويغرس في القلوب الخوف والخشية من الله عز وجل، ولو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل.. إن التفكُّر في عَظَمَة الله وواسع قدرته وعظيم بطشه وشديد انتقامه يُورِث القلب خوفًا مزعجًا وخشية تحول بينه وبين شهوات نفسه وأهوائها؛ فالأثر النوراني لهذا التفكُّر يعرقل عمل الشهوات في القلب ويدفع أهواءها على حسب قوة الوارد من أنوار التفكُّر؛ فتُسْلَب الشهوة من عاجل لذتها فما يتبقى منها إلا سوء عاقبتها.. قال بِشْر الحافي: "لو تفكَّر الناس في عَظَمَة الله تعالى ما عصوه"

 

من أقوالهم في التفكر

- يقول الإمام ابن القيم حين يصف التفكُّر وعظيم شرفه: "تفكُّر ساعة خير من عبادة سنة؛ فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة..."

- التفكُّر سياحة نورانية ورياضة إيمانية؛ ينطلق فيها القلب في وعي، والعقل في يقظة معًا بعيدًا في ساحات الإيمان بلا قيد من جواذب الأرض وقيود الشهوات؛ ليجتمعا على التقاط الحكمة والمعرفة وتحقيق معاني الإيمان والترقي في درجات العبودية.

- التفكُّر فرصة عظيمة لاكتشاف مساحة بعيدة شديدة العمق في النفس الإنسانية تصل إلى حقائق العبودية بما فيها من ضَعْف وعَجْز وذلة وعَوَز، ومشاهدة كمالات الربوبية بما فيها من: كمال وجمال وجلال.

- التفكر يبدأ بعمليات سهلة بسيطة؛ يلتفت فيها القلب إلى عظيم الآيات المبهرة وعظيم قدرة الله في خَلْقه، وجلاله في فِعْلِه وتدبيره، في عملية يسيرة لا تحتاج لكبير مجاهدة، يرى فضل المنْعِم من وراء النعم، ويشاهد عظيم قدرة الله في كل حركة وسكنة في الكون، ويجمع من عجائب آيات الكون والنفس وعظيم حكمة الشرع؛ فينصب من جميعها شواهد على جلال أسماء الله وصفاته وعظيم قدرته وحكمة تقديره.

- فوات عبادة التفكُّر يحدث شَرْخا واسعٍا في حقيقة العبودية.


جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

 
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية