اطبع هذه الصفحة


تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم  

 

** روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ بِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ يَهْلَكُوا فَسَبِيلُ مَنْ قَدْ هَلَكَ، وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا) قَالَ: قُلْتُ أَمِمَّا مَضَى أَمْ مِمَّا بَقِيَ؟ قَالَ: (مِمَّا بَقِيَ) [أحمد وأبو داود وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي]

** وفي رواية مسروق (إن رحى الإسلام ستزول بعد خمس وثلاثين، فإن يصطلحوا فيما بينهم على غير قتال يأكلوا الدنيا سبعين عاما رغدا، وإن يقتتلوا يركبوا سنن من كان قبلهم)

** قوله: (تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ) مثل يريد أن هذه المدة إذا انتهت حدث في الإسلام أمر عظيم يخاف لذلك على أهله الهلاك، يقال للأمر إذا تغير واستحال: "قد دارت رحاه" وهذا والله أعلم إشارة إلى انقضاء مدة الخلافة.

وقوله: (وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ) أي: ملكهم وسلطانهم، والدين: الملك والسلطان، ومنه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] وكان بين مبايعة الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان إلى انقضاء ملك بني أمية من المشرق نحوا من سبعين سنة.

وقال الخطابي في المعالم والشيخ في شرح السنة المراد بدوران رحى الإسلام الحرب والقتال وشبهها بالرحى الدوارة بالحب لما فيها من تلف الأرواح والأشباح انتهى

وقوله: (فَإِنْ يَهْلَكُوا فَسَبِيلُ مَنْ قَدْ هَلَكَ وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا) اعلم أنهم لما اختلفوا في المراد بدوران رحى الإسلام على القولين المذكورين، اختلفوا في بيان معنى هذا الكلام وتفسيره أيضا على قولين:

فتفسير هذا الكلام على قول الأكثرين (فإن يهلكوا) يعني بالتغيير والتبديل والتحريف والخروج على الإمام وبالمعاصي والمظالم وترك الحدود وإقامتها، وقوله: (فسبيل من هلك) أي فسبيلهم في الهلاك بالتغيير والتبديل والوهن في الدين سبيل من هلك من الأمم السالفة والقرون الماضية في الهلاك بالتغيير والتبديل والوهن في الدين، وقوله (وإن يقم لهم دينهم) أي لعدم التغيير والتبديل والتحريف والوهن يقم لهم سبعين عاما.

قال في جامع الأصول: قيل إن الإسلام عند قيام أمره على سنن الاستقامة والبعد من إحداثات الظلمة إلى أن ينقضي مدة خمس وثلاثين سنة ووجهه أن يكون قد قاله وقد بقيت من عمره خمس سنين أو ست، فإذا انضمت إلى مدة خلافة الخلفاء الراشدين وهي ثلاثون سنة كانت بالغة ذلك المبلغ، وإن كان أراد سنة خمس وثلاثين من الهجرة ففيها خرج أهل مصر وحصروا عثمان -رضي الله عنه- وإن كانت سنة ست وثلاثين ففيها كانت وقعة الجمل وإن كانت سنة سبع وثلاثين ففيها كانت وقعة الصفين انتهى

وقال الطحاوي في مشكل الآثار (بتصرف): قوله صلى الله عليه وسلم (تدور أو تزول رحى الإسلام) يريد بذلك الأمور التي عليها يدور الإسلام، وشبه ذلك بالرحى فسماه باسمها، وكان قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد خمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين ليس على الشك ولكن على أن يكون ذلك فيما يشاؤه الله عز وجل من تلك السنين.

فشاء عز وجل أن كان في سنة خمس وثلاثين فتهيأ فيها على المسلمين حصر إمامهم وقبض يده عما يتولاه عليهم مع جلالة مقداره لأنه من الخلفاء الراشدين المهديين حتى كان ذلك سببا لسفك دمه -رضوان الله عليه- وحتى كان ذلك سببا لوقوع الاختلاف وتفرق الكلمة واختلاف الآراء فكان ذلك مما لو هلكوا عليه لكان سبيل مهلك لعظمه ولما حل بالإسلام منه.

ولكن الله ستر وتلافى وخلف نبيه في أمته من يحفظ دينهم عليهم ويبقي ذلك لهم ثم تأملنا ما بقي من هذه الآثار فوجدنا في حديث مسروق منها عن عبد الله (فإن يصطلحوا فيما بينهم على غير قتال يأكلوا الدنيا سبعين عاما رغدا) فإن يصطلحوا بينهم على غير قتال يأكلوا الدنيا سبعين عاما رغدا، ولم يصطلحوا على غير قتال، فتكون المدة التي يأكلون الدنيا فيها كذلك سبعين عاما ثم تنقطع فلا يأكلونها بعدها، ولكن جرت أمورهم على غير ذلك مما لا ينقطع معهم القتال فكان ذلك رحمة من الله لهم وسترا منه عليهم فجرى على ذلك أن يأكلوا الدنيا بلا توقيت عليهم فيه، وقد وجدناهم بحمد الله ونعمته أكلوها بعد ذلك سبعين عاما وسبعين عاما وزيادة على ذلك ودينهم قائم على حاله فعقلنا بذلك أن أصل الحديث في ذلك كما رواه مسروق فيه.

وقيل: إن المقصود بدوران الرحى: الحروب التي تحصل وتقع، ولا شك أن مدة الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله تعالى عنهم كانت خلافة راشدة، وكان الخير عظيماً والإسلام منتشرا،ً وقد حصل بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وتولي علي رضي الله عنه شيء من الاقتتال والاختلاف حيث وجدت الفتن، وحصل اقتتال بين المسلمين، ثم بعد ذلك حصل اجتماع للمسلمين على يدي الحسن بن علي رضي الله عنهما بتنازله لمعاوية وحصول اجتماع الكلمة على معاوية بعدما كانت الفرقة وكان الخلاف قبل ذلك.

وعلى هذا يكون المقصود برحى الإسلام: قوته واستقامته وسلامته، وكونه على منهاج النبوة، وكون الخلافة خلافة نبوة، ويكون بدوران الرحى حصول الخير والنفع، كما أن الرحى إذا دارت على الحب وصار طحيناً ودقيقاً بسبب دوران الرحى حصل بذلك النفع. فيكون معنى هذا: أن الدوران يشبه دوران الرحى بطحن الحب، فيكون في ذلك فوائد للناس.

فعلى هذا يكون المعنى: حصول استقامة وقوة خلافة راشدة، وخلافة نبوة في خمس وثلاثين سنة؛ منها ثلاثون مدة الخلفاء، ومنها خمس هي المدة الباقية من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد قوله ذاك.

قوله: (فإن يهلكوا فسبيل من هلك)، يعني: من الأمم السابقة، والهلاك لا يلزم أن يكون بتلف وذهاب أجسادهم، بل يكون بانحرافهم وحصول فتن وأمور مضلة.

قوله: (وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين سنة)، ولا شك أنه لم يحصل الهلاك، ولكن حصل قيام الدين، وقيام الملك لبني أمية بعد عهد الراشدين، وقد حصل في زمن بني أمية خير ونفع عظيم، وفتحت الفتوحات وبلغت الديار الإسلامية المفتوحة إلى المحيط الأطلسي غرباً، وإلى بلاد السند والهند والصين شرقاً، وفي حديث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: (زُوِيَتْ لِي الْأَرْضُ حَتَّى رَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) [ابن ماجة]، وقد بلغ ملك هذه الأمة في زمن بني أمية مبلغاً وصل إلى حد المحيط الأطلسي غرباً وإلى الصين شرقاً، فصار في ذلك القوة للإسلام وأهله.

ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة) [مسلم وغيره]، والخلفاء الثمانية هم خلفاء بني أمية، وقبلهم الخلفاء الراشدون الهادون المهديون، فهذا فيه بيان أن الإسلام قوي حيث انتشر في هذه المدة، وفتحت الفتوحات، وكثرت الخيرات، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية.

قوله: (وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً)، قيل المقصود به: ملكهم، وقد قام ملك بني أمية هذه المدة من حين بويع معاوية -رضي الله عنه- بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه، فمدة سبعين بعد ذلك فيها قوة، وبعد ذلك حصل الضعف في بني أمية، وحصلت الحروب والاقتتال الذي أدى إلى ظهور بني العباس وتغلبهم على بني أمية وانتزاعهم الملك منهم، فتكون مدة السبعين هي من خلافة معاوية إلى تمام السبعين، وخلافة بني أمية تبلغ تسعاً وثمانين سنة، لكن في آخرها حصل اضطراب وقلاقل وفتن، ولكن مدة السبعين سنة هي مدة الخلفاء الأقوياء

قوله: (قال: قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ قال: مما مضى). يعني: كأن السبعين بعدما مضى.


جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

 
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية