اطبع هذه الصفحة


ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم  

 

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

{إِنَّ} للتوكيد {اللَّهَ اصْطَفَى} لما قدم قبل: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران:31] ويليه {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:32] وختمها {فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} ذكر المصطفين الذين يجب اتباعهم، فبدأ أولاً بآدم أولهم وجوداً وأصلهم، وثنى بنوح عليه السلام إذ هو «آدم الأصغر» ليس أحد على وجه الأرض إلاَّ من نسله، ثم أتى ثالثاً بآل إبراهيم، فاندرج فيهم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، المأمور باتباعه وطاعته، وموسى عليه السلام، ثم أتى رابعاً بآل عمران، فاندرج في آله: مريم وعيسى عليهما السلام، ونص على آل إبراهيم لخصوصية اليهود بهم، وعلى آل عمران لخصوصية النصارى بهم، فذكر تعالى جعلَ هؤلاءِ صفوة، أي مختارين نقاوة. والمعنى أنه نقاهم من الكدر. وهذا من تمثيل المعلوم بالمحسوس.

{آدَمَ} واصطفاء آدم بوجوه: فهو أبو البشر، خلقه الله تعالى بيده خلقاً مستقلاً، وجعله خليفة في الأرض، وإسجاد الملائكة له، واسكانه جنته، إلى غير ذلك مما شرّفه به.

وآدم أبو البشر، خلقه الله تعالى خلقاً مستقلاً وليس متطوراً من جنس آخر أو من نوع آخر قبله كما يقول أهل الإلحاد. ومن ادعى ذلك فقد كفر بالله؛ لأن الله تعالى أخبر في كتابه في عدة مواضع أن الله خلق آدم من تراب، من صلصال كالفخار، من طين خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته. فمن زعم غير ذلك فهو كافر مصدق لغير الله مكذب الله -والعياذ بالله- مع العلم بأنه لن يأتي أحد بكلام عن آدم وابتداء خلقه وكيفية خلقه غير مستند في ذلك إلى الوحي فإن قوله غير مقبول، لأنه لم يشاهده، قال الله تعالى: {ما أَشْهَدتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف:٥١]، وقال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ} [إبراهيم:9]، فمن ادعى علم شيء ممن سبق فهو كاذب إلا ببرهان، وآدم كما نعلم بيننا وبينه أزمنة طويلة جدا، فلا يمكن أن نقبل قولاً فيه إلا عن طريق الوحي الصحيح.

وظاهر القرآن أن الله أسماه بهذا الاسم من قبل خروجه من جنة عدن، وقيل: سُمي آدم لأدمته، يعني لونه ليس الأبيض الشاهق ولا الأسود الحالك، لكنه بين ذلك، وخلقه الله عز وجل على صورته -أي على صورة الله عز وجل- تكريماً له، ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا)

وفي الأدب المفرد للبخاري ومسند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ، وَلَا يَقُلْ: قَبَّحَ اللهُ وَجْهَكَ، وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَكَ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ) [حسنه الألباني]

وفي مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ).

ولا يلزم من كونه على صورة الله أن يكون مماثلاً له؛ لأن الله تعالى يقول: {ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١]، فعلينا أن نؤمن بالنصوص كلها، نؤمن بأنه خلقه على صورته، ونؤمن بأنه ليس كمثله .

فإن قلت: كيف يكون على صورته وليس مثله؟

فالجواب: يمكن هذا في المخلوق فما بالك في الخالق فلقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) [البخاري].

ومن المعلوم أنه لا يلزم التماثل؛ يعني ليس صورتهم كصورة البدر تماماً، بل من حيث الجمال والبهاء والنور كالقمر ليلة البدر. ثم إن القرآن والسنة لا يكذب بعضهما بعضا.

وآدم عليه الصلاة والسلام أوحي إليه كما في القرآن الكريم. ولا شك أنه أوحي إليه أيضاً من الناحية العقلية، وذلك لأنه لا يستقل بعبادة الله؛ أي لا يمكن أن يعرف كيف يعبد الله إلا بوحي من الله وهو مخلوق للعبادة.

فدل السمع والعقل على أنه موحى إليه، ولكن هل كان رسولاً؟ لا، ليس برسول بدلالة الكتاب والسنة. أما الكتاب ففي قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كما أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:١٦٣]، فجعل النبيين من بعد نوح. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَبَ} [الحديد:٢٦]، وفي الحديث الصحيح -حديث الشفاعة الطويل-: أن الناس يأتون إلى نوح ويقولون له: (أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض)

وعليه فآدم نبي أوحي إليه بشرع وتعبد الله به، وبقي الناس على هذا الشرع لأنهم قلة، ولم يحصل منهم اختلاف، فلما اختلفوا بعث الله النبيين كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:٢١٣]

{وَنُوحًا} ذكره الله عز وجل بعد ذكر آدم؛ لأنه الأب الثاني للبشرية، فإن نوحاً لما كذبه قومه إلا القليل أهلكهم الله تعالى بالغرق، فجعل الله ذريته هم الباقين كما في سورة الصافات: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:۷۷]، فصار الأب الثاني للبشرية .

واصطفاء نوح عليه السلام بأشياء، منها: قولهم أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر ذوي المحارم، وأنه أب الناس بعد آدم وغير ذلك.

{وَآلَ} الآل: رهط الرجل وقرابته {إِبْرَاهِيمَ} أبناؤه وحفيده وأسباطه، والمقصود تفضيل فريق منهم، واصطفاء آل إبراهيم -عليه السلام- بأن جعل فيهم النبوّة والكتاب.

{وَآلَ عِمْرَانَ} هو عمران بن ماثان، وكان من أحبار اليهود، وصالحيهم، وأصله بالعبرانية عمرام بميم في آخره. أبو مريم البتول أم عيسى عليه السلام، وهو من نسل هارون أخي موسى، وقيل من ولد سليمان بن داود. وليس المراد هنا عمران والد موسى وهارون.

{عَلَى الْعَالَمِينَ} ضمنه معنى فضل، فعداه بـ «على». ولو لم يضمنه معنى فضل لعدى بـ «من». قيل: والمعنى على عالمي زمانهم.

{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} بعضها من بعض في الآداب والأخلاق والديانات.

{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ختمها بالسمع والعلم إشارة إلى أن كل ما يقوله هؤلاء المصطفون أو يفعلونه فإنه معلوم عند الله، فهو يسمع ما يقولون، ويعلم ما يفعلون، بل هو يعلم ما لا يفعلون مما يكون في قلوبهم، بل يعلم ما سيفعلونه وإن لم يكن في قلوبهم؛ لأن الله يعلم ما كان وما يكون لو كان كيف يكون.

وقال ابن عاشور: والغرض من ذكر هؤلاء تذكير اليهود والنصارى بشدة انتساب أنبيائهم إلى النبي محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فما كان ينبغي أن يجعلوا موجب القرابة موجب عداوة وتفريق. ومن هنا ظهر موقع قوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع بأقوال بعضكم في بعض هذه الذرية: كقول اليهود في عيسى وأمه، وتكذيبهم وتكذيب اليهود والنصارى لمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

** وفيه: أن التفاضل كما يكون في الأعمال يكون في الأعيان، وكما يكون في الأعمال والأوصاف يكون كذلك في الأشخاص، ولهذا نقول: إن جنس العرب أفضل من غيرهم من الأجناس، لكن هذا الجنس الفاضل إذا اجتمع معه التقوى صار له الفضل المطلق، وإن تخلفت التقوى صار معدنه طيباً وعمله خبيثاً؛ فيزداد خبثاً لكون أصله طيباً ثم ارتد بنفسه إلى الخبث؛ لأن من أصله طيباً ثم نزل بنفسه إلى المستوى الأدنى صار أكثر لوماً ممن لم يكن كذلك.

ولذلك لو زنت الحرة لجلدت مائة جلدة إن كانت غير محصنة، ورجمت إن كانت محصنة، ولو زنت الأمة لم ترجم ولو كانت متزوجة، ولم تجلد مائة جلدة بل تجلد خمسين؛ لأن هناك فرقاً بين إنسان أصله كريم وشريف ثم يضع نفسه موضع الوضيع، وبين شخص كان في الأصل على خلاف ذلك.

ويدل لهذا -أي: أن الناس يختلفون في أجناسهم- قول الله في كتابه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:١٢٤]، وقد جعلها الله تعالى في العرب في محمد، فإذا كان محمد أطيب الخلق وأشرفهم لزم أن يكون جنس العرب أطيب الأجناس وأفضلها وأشرفها، وهو كذلك.

وفي مسند أحمد عن أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ، إِذَا فَقِهُوا) [صحيح على شرط مسلم]

وفيه أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (النَّاسُ مَعَادِنُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ، إِذَا فَقِهُوا) [صحيح على شرط مسلم]

فإن قال قائل: ما الجواب عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:١٣]

فالجواب أن نقول: إن الله تعالى أراد أن يمحو ما كان أهل الجاهلية يعتادونه من الفخر بالأحساب، حيث يقول: أنا من القبيلة الفلانية، أنا من القبيلة الفلانية. فبين الله أن هذه الشعوب والقبائل جعلها الله من أجل التعارف لا التفاخر، وأن فخركم لا يقربكم إلى الله، فالذي يقربكم إلى الله هو التقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وهذا لا ينافي أن يكون جنس العرب أفضل من غيرهم كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، في: «اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم».

{إِذْ قَالَتِ} اذكر إذ قالت، وفيه تعظيم هذه القصة؛ لأن الله أمر رسوله أن يبينها ويرويها للناس.

{امْرَأَتُ عِمْرَانَ} اسمها: حَنَّةُ بِنْتُ فَاقُوذَا، وهو اسم عبراني، جدة عيسى عليه السلام. مات زوجها وتركها حبلى فنذرت حبلها ذلك محررا أي: مخلصا لخدمة بيت المقدس.

{رَبِّ} منادى حذفت منه «ياء» النداء، وأصله: «يا رب» ولكن تحذف ياء النداء في مثل هذا التركيب اختصاراً لكثرة استعماله، وحذف منه ضمير المتكلم «الياء» تخفيفاً، وأصله: «ربي».

{إِنِّي نَذَرْتُ} لم تكتف حَنَّةُ بنية النذر حتى أظهرته باللفظ، وخاطبت به الله تعالى، وقدّمت قبل التلفظ بذلك نداءها له تعالى بلفظ الرب. الذي هو مالكها ومالك كل شيء، والنذر هو استدفاع المخوف بما يعقده الإنسان على نفسه من أعمال البر.

{لَكَ} اللام فيه لام السبب، وهو على حذف التقدير: لخدمة بيتك، أو للاحتباس على طاعتك.

{مَا} وأتى بلفظ: ما، دون: من، لأن الحمل إذ ذاك لم يتصف بالعقل.

{فِي بَطْنِي} جزمت النذر على تقدير أن يكون ذكراً، أو لرجاء منها أن يكون ذكراً.

** وفيه: جواز النذر في الأمر المجهول؛ وينبني على ذلك أن يقول القائل: لله علي نذر أن أتصدق بما في بطن هذه الشاة أو هذه الناقة، وينفذ النذر .

{مُحَرَّرًا} عتيقاً من كل شغل من أشغال الدنيا، فهو من لفظ الحرية. أو محررا من خدمتي ليكون خادماً للمسجد الأقصى، وإطلاق المحرر على هذا المعنى إطلاق تشريف لأنه لما خلص لخدمة بيت المقدس فكأنه حرر من أسر الدنيا وقيودها إلى حرية عبادة الله تعالى.

وكان من عادتهم أن يفعلوا ذلك؛ أي أن الإنسان منهم ينذر ولده ليكون قائماً بخدمة المسجد الأقصى تعظيماً له.

** وفيه: أن الولد يخدم والده من أم أو أب؛ لأنها قالت: {محررا} يعني محرراً من الخدمة بحيث لا أستخدمه ولا أستغل حياته .

{فَتَقَبَّلْ مِنِّي} هذا النذر .. دعت الله تعالى بأن يقبل منها ما نذرته له، والتقبل أخذ الشيء على الرضا به، وأصله المقابلة بالجزاء.

** وفيه: طرد الإعجاب بالنفس؛ وذلك بأن الإنسان إذا عمل عملاً لا يُدِلُّ به على الله يقول: أنا عملت وأنا عملت، بل يشعر أنه مفتقر إلى الله عزّ وجل في قبول ذلك العمل، ونظيره قول إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:١٢٧]، والإنسان إذا علم أنه مفتقر إلى ربه عز وجل في العمل وفي قبول العمل زال عنه الإعجاب، وإذا زال عنه الإعجاب صار حريا بأن الله تعالى يقبل منه ويثيبه.

{إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} جملة استئنافية للتعليل؛ يعني أني سألتك أن تتقبل
مني لأنك السميع العليم.

وختمت بهذين الوصفين لأنها اعتقدت النذر، وعقدته بنيتها، وتلفظت به، ودعت بقبوله. فناسب ذلك ذكر هذين الوصفين. وذكرت «العلم» هنا لأن الإنسان قد يسأل الشيء وليس من صالحه حصوله، فيسند الأمر إلى علم الله عز وجل.

وذكر المفسرون سبب هذا الحمل الذي اتفق لامرأة عمران فروي أنها كانت عاقراً، وكانوا أهل بيت لهم عند الله مكانة، فبينا هي يوماً في ظل شجرة نظرت إلى طائر يذق فرخاً له، فتحركت به نفسها للولد، فدعت الله تعالى أن يهب لها ولداً. فحملت.

ومات عمران زوجها وهي حامل، فحسبت الحمل ولداً فنذرته لله حبيساً لخدمة الكنيسة أو بيت المقدس، وكان من عادتهم التقرب بهبة أولادهم لبيوت عباداتهم، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وأحبارهم، ولم يكن أحد منهم إلاَّ ومن نسله محرر لبيت المقدس من الغلمان، وكانت الجارية لا تصلح لذلك، وكان جائزاً في شريعتهم، وكان على أولادهم أن يطيعوهم، فإذا حرر خدم الكنيسة بالكنس والإسراج حتى يبلغ، فيخير، فإن أحب أن يقيم في الكنيسة أقام فيها، وليس له الخروج بعد ذلك، وإن أحب أن يذهب ذهب حيث شاء، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلاَّ ومن نسله محرر لبيت المقدس.

{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} فيه أن الأم تتكلف الحمل كما يشعر به كلمة {وضعتها} أنها حاملة لها، وهو كذلك لا شك أنها تتكلف الحمل، وإذا قدرنا أن هذا الطفل الذي في بطنها سيبقى تسعة شهور وهي حاملة له في بطنها، في أرق ما يكون من البدن، قائمة وقاعدة ومستيقظة ونائمة، فماذا نتصور من التعب؟

ولهذا قال الله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهَا} [الأحقاف:١٥]، وقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:١٤]، ثم مع ذلك هذا الطفل في البطن يتحرك وهي تحس به، ولولا لطف الله بعباده ما استطاعت أن تحمل هذا ولكن الله عز وجل يعينها. فيتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى وهي :«عظم حق الأم على ولدها»؛ لأن من أحسن إليك وأتعبته كان أحق الناس ببرك، ولهذا جعلها النبي عليه الصلاة والسلام أحق الناس بحسن الصحبة.

{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} خاطبت الله تعالى بذلك على سبيل الاعتذار، والتنصل من نذر ما لا يصلح لسدانة البيت، إذ كانت الأنثى لا تصلح لذلك في شريعتهم.

وقيل: كانت مريم أجمل نساء زمانها وأكملهنّ.

{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} جملة معترضة.. قرأ ابن عامر، وأبو بكر، ويعقوب: بضم التاء: {وَضَعْتُ}، ويكون ذلك وما بعده من كلام أمّ مريم، وكأنها خاطبت نفسها بقولها: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ}.

ولم تأت على لفظ: رب، إذ لو أتت على لفظه لقالت: وأنت أعلم بما وضعت. ولكن خاطبت نفسها على سبيل التسلية عن الذَكر، وأن علم الله وسابق قدرته وحكمته يحمل ذلك على عدم التحسر والتحذر على ما فاتني من المقصد، إذ مراده ينبغي أن يكون المراد، وليس الذكر الذي طلبته ورجوته مثل الأنثى التي علمها وأرادها وقضى بها.

ولعل هذه الأنثى تكون خيراً من الذَكر، إذ أرادها الله، سلت بذلك نفسها.

وتكون: الألف واللام في: الذَكر، «تعريف العهد» للمعهود في نفسها، فيكون مقصودها ترجيح هذه الأنثى التي هي موهوبة الله على ما كان قد رجت من أنه يكون ذكراً.

ويحتمل أن تكون الألف واللام في: الذكر، «تعريف الجنس» لما هو مرتكز في نفوس الناس من الرغبة في مواليد الذكور، أي ليس جنس الذكر مساويا لجنس الأنثى.

ويكون مقصودها أنه ليس كالأنثى في الفضل والدرجة والمزية، لأن الذكر يصلح للتحرير، والاستمرار على خدمة موضع العبادة، ولأنه أقوى على الخدمة، ولا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالرهبان والناس ولا تهمة.

وبدأت بذكر الأهمّ في نفسها، وإلاَّ فسياق الكلام أن تقول: وليست الأنثى كالذكر، فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها، وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد.

وقرأ باقي السبعة: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}، بتاء التأنيث الساكنة على أنه إخبار من الله بأنه أعلم بالذي وضعته، فالكلام من الله. أي: بحالها، وما يؤول إليه أمر هذه الأنثى، فإن قولها: وضعتها أنثى، يدل على أنها لم تعلم من حالها إلاَّ على هذا القدر من كون هذه النسمة جاءت أنثى لا تصلح للتحرير، فأخبر تعالى أنه أعلم بهذه الموضوعة، فأتى بصيغة التفضيل المقتضية للعلم بتفاصيل الأحوال، وذلك على سبيل التعظيم لهذه الموضوعة، والإعلام بما علق بها وبابنها من عظيم الأمور، إذ جعلها وابنها آية للعالمين.

قال ابن عاشور: والمقصود منه: أن الله أعلم منها بنفاسة ما وضعت، وأنها خير من مطلق الذكر الذي سألته، فالكلام إعلام لأهل القرآن بتغليطها، وتعليم بأن من فوض أمره إلى الله لا ينبغي أن يتعقب تدبيره.

وقرأ ابن عباس: بما وضعتِ، بكسر تاء الخطاب، خاطبها الله بذلك أي: إنك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة، وما علمه الله تعالى من عظم شأنها وعلوّ قدرها.

{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} أما على قراءة: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} فالظاهر أن كونه من كلام الله أرجح؛ لأن قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} من كلام الله، أما على قراءة {والله أعلم بما وَضَعْتُ} فإن كونه من كلامها أرجح لئلا تتشتت الجمل.

** وفيه أنه لا يستوي الذكور والإناث لا في الطبيعة ولا في الأخلاق ولا في المعاملة، بل ولا في الأحكام في بعض الأحيان؛ فالذكر ليس كالأنثى، وإذا كان الذكر ليس كالأنثى، فالأنثى أيضاً ليست كالذكر.

{وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} مريم في لغتهم معناه: «العابدة»، أرادت بهذه التسمية التفاؤل لها بالخير، والتقرب إلى الله تعالى، والتضرّع إليه بأن يكون فعلها مطابقاً لاسمها، وأن تصدّق فيها ظنها بها.

ألا ترى إلى إعاذتها بالله وإعاذة ذريتها من الشيطان؟ وخاطبت الله بهذا الكلام لترتب لاستعاذة عليه، واستبدادها بالتسمية يدل على أن أباها عمران كان قد مات، كما نُقل أنه مات وهي حامل، على أنه يحتمل من حيث هي أنثى أن تستبدّ الأمّ بالتسمية لكراهة الرجال البنات غالبا.

** وفيه: تسمية المولود حين يولد؛ لقولها: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} وهذا هو السنة، أن يسمّى الإنسان حين يولد إلا إذا لم يتهيأ الاسم فإنه يسمى في اليوم السابع، وبهذا تجتمع الأدلة، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما ولد إبراهيم قال: (وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ) [مسلم عن أنس]. وفي حديث العقيقة قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُحْلَقُ وَيُسَمَّى) [أبو داود] فيكون الجمع أن من كان مهيأ الاسم قبل الولادة فالأفضل أن يسميه حال الولادة، ومن لم يهيأ فالأفضل أن يؤجله إلى اليوم السابع.

{وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا} بناءً على الأصل والغالب أن الأنثى تتزوج ويكون لها ذرية، ولكن الله عز وجل أراد لهذه المرأة شيئاً آخر.

وتكرر التأكيد في {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا} {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} لزيادة التأكيد: لأن حال كراهيتها يؤذن بأنها ستعرض عنها فلا تشتغل بها، وكأنها أكدت هذا الخبر إظهارا للرضا بما قدر الله تعالى، ولذلك انتقلت إلى الدعاء لها الدال على الرضا والمحبة.

{مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} والشيطان هو أبو الجن كما قال الله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف:٥٠]

والشيطان من «شطن» أي بَعُدَ، يعني بعد من رحمة الله. والرجيم: بمعنى المرجوم وأصل الرجم القذف بالحجارة؛ ومنه: رجم الزاني، أي مطرود مبعد عن رحمة الله عز وجل.

وأتى خبر: «إن» مضارعاً وهو: أعيذها، لأن مقصودها ديمومة الإستعاذة، والتكرار بخلاف: وضعتها، وسميتها، فإنهما ماضيان قد انقطعا.

وقدّمت ذكر المعاذ به على المعطوف على الضمير للاهتمام به، ثم استدركت بعد ذلك الذكر ذريتها.

ومناجاتها الله بالخطاب السابق إنما هو وسيلة إلى هذه الاستعاذة، كما يقدّم الإنسان بين يدي مقصوده ما يستنزل به إحسان من يقصده، ثم يأتي بعد ذلك بالمقصود.

روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا) ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}

{فَتَقَبَّلَهَا} تفريع على الدعاء مؤذن بسرعة الإجابة .. وتقبل أبلغ من قبل، وذلك أن الغالب أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ففيها شدة العناية والمبالغة.

ومعنى تقلبها: تقبل تحريرها لخدمة بيت المقدس، أي أقام الله مريم مقام المنقطع لله تعالى، ولم يكن ذلك مشروعا من قبل.

{رَبُّهَا} الربُّ: تأني بمعنى الخالق المالك، المدبر، فإذا أضيفت الربوبية لله فهذا معناها، أنه الخالق فلا خالق غیره، والمالك فلا مالك غيره، والمدبر فلا مدبر غيره، وهذا النفي باعتبار الإطلاق فلا خالق على سبيل الإطلاق إلا الله، وإذا أضيف الخلق إلى غيره فإنما هو باعتبار «التغيير والتصيير» لا باعتبار الأصل. فخلق الباب من الخشبة ليس أصلياً بل هو تغيير وتصيير، صير الخشبة باباً فقال: خلقه، لكن أصل هذا الخشب إنما خلقه الله عز وجل، ولا يستطيع أحد من الخلق أن يخلق خشبة واحدة بل ولا غصن شجرة.

فالمالك على الإطلاق هو الله، وإضافة الملك لغير الله إضافة جزئية، وإلا فقد قال الله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُمْ} [المؤمنون:6]، فأضاف الملك إلى الإنسان، وقال تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَفَاتِحَهُ} [النور:٦١]، فأضافه أيضاً إلى الإنسان؛ لكن هذا ملك مقيد غاية التقييد.

والمدبر كذلك، فالتدبير على إطلاقه هو لله عز وجل، أما الإنسان فإنه وإن أضيف إليه التدبير فهو تدبير خاص محصور على كل حال.

وربوبية الله نوعان: عامة، وخاصة. العامة مثل قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم:٦٥]، والخاصة مثل قوله: {رَبِّ مُوسَى وَهَرُونَ} [الأعراف:۱۲۲]، وهنا {رَبُّهَا} من الخاصة.

واعلم أن كل خاص من الربوبية والمعية والسمع والبصر وما أشبه ذلك مما قال العلماء إنه ينقسم إلى عام وخاص، أن الخاص يتضمن العام ولا عكس. فكل من كان الله ربه على وجه الخصوص فهو ربه على وجه العموم، وكل من كان الله معه على وجه الخصوص فهو معه على وجه العموم، وكل من سمعه الله على وجه الخصوص فقد سمعه على وجه العموم، وهلم جرا. وهنا أضاف الربوبية إلى مريم؛ لأنه عزّ وجل تقبلها هذا القبول الحسن.

{بِقَبُولٍ حَسَنٍ} رضي بها في النذر مكان الذكر كما نذرت أمها، وسنى لها الأمل في ذلك، وقبل دعاءها في قولها: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، ولم تقبل أنثى قبل مريم في ذلك.

والقبول الحسن من الله أنه -سبحانه وتعالى- يسرها لليسرى وسهل أمرها وجعلها من خيرة نساء العالمين، حتى ألحقها بالرجال في صلاحها، فقال: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:١٢]، وتأمل أنه قال: {من القانتين}، ولم يقل: من القانتات؛ لأنه كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري: عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَال رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ)

وقال ابن عاشور: الباء فيه للتأكيد، وأصل نظم الكلام: فتقبلها قبولا حسنا، فأدخلت الباء على المفعول المطلق ليصير كالآلة للتقبل فكأنه شيء ثان، وهذا إظهار للعناية بها في هذا القول، وقد عرف هذا القبول بوحي من الله إلى زكريا بذلك، وأمره بأن يكفلها زكريا أعظم أحبارهم، وأن يوحي إليه بإقامتها بعد ذلك لخدمة المسجد، ولم يكن ذلك للنساء قبلها، وكل هذا إرهاص بأنه سيكون منها رسول ناسخ لأحكام كثيرة من التوراة؛ لأن خدمة النساء للمسجد المقدس لم تكن مشروعة.

{وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} قد يعود إلى المعنى، وقد يعود إلى الحس، فالمعنى: أنبتها نباتاً حسناً يعني في كمال الآداب والطاعة والعفة والحشمة وغير ذلك، وقد يكون أنبتها نباتاً حسناً باعتبار الجسم؛ يعني أنه نماها تنمية جيدة، لم يتعثر فيها جسمها، حتى إن بعضهم قال -ولعلها من الإسرائيليات-: "كانت تنمو في العام ما ينموه غيرها في عامين"، والله أعلم.

قال ابن عباس: لما بلغت تسع سنين صامت من النهار وقامت الليل حتى أربت على الأحبار.

وقيل: لم تجر عليها خطيئة.

وقال قتادة: حُدِّثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب كما يصيب بنو آدم.

{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} كاهن إسرائيلي، جاءته النبوءة في كبره. وقرأ الجمهور: {وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا} بتخفيف الفاء من كفلها أي تولى كفالتها، وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف: {وَكَفَّلَهَا} بتشديد الفاء أي أن الله جعل زكريا كافلا لها.

وإنما كفلها زكريا لأن أمّها هلكت، وكان أبوها قد هلك وهي في بطن أمّها. وكان زكريا قد تزوج أخت أم مريم إمشاع ابنة عمران بن ماثان فكان يحيى وعيسى ابني خالة.. فتنازع كفالتها جماعة من أحبار بني إسرائيل حرصا على كفالة بنت حبرهم الكبير، واقترعوا على ذلك، وإنما جعلت كفالتها للأحبار لأنها محررة لخدمة المسجد فيلزم أن تربى تربية صالحة لذلك.

قال ابن إسحاق: إن زكريا كان تزوّج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين، ولدت امرأة زكريا يحيى، وولدت امرأة عمران مريم.

قال أبو عبيدة: ضمن القيام بها، ومن القبول الحسن والنبات الحسن أن جعل تعالى كافلها والقيم بأمرها وحفظها نبياً.

وأوحى الله إلى داود عليه السلام: إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً.

وقال ابن عاشور: عد هذا في فضائل مريم، لأنه من جملة ما يزيد فضلها لأن أبا التربة يكسب خلقه وصلاحه مرباه.

فهذا أيضاً من التيسير أن الله يسر لها من يكفلها من الرسل، ولا شك أن الإنسان إذا كان عنده كافل مستقيم صالح كان هذا من أسباب صلاحه واستقامته، وإذا كان عند فاسق كان بالعكس. ولهذا قال العلماء: لا يجوز أن يترك الطفل المحضون بيد شخص لا يصونه ولا يصلحه.

روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة! فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم، وصاحب قربانهم، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها. فقالوا: لا، حتى نقترع عليها. فانطلقوا، وكانوا سبعة وعشرين، إلى نهر. قيل: هو نهر الأردن وهو قول الجمهور. وقيل: في عين ماء كانت هناك، فألقوا فيه أقلامهم، فارتفع قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها.

وقال عكرمة: ألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا عكس جرية الماء.

وقيل: عامت مع الماء معروضة، وبقي قلم زكريا واقفاً كأنما ركز في طين.

{كُلَّمَا} كل وقت دخول زكريا عليها.. تقتضي التكرار، وعلى كثرة تعهده وتفقده لأحوالها.

{دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} مِفْعال من الحرب، وهو مكان العبادة، وسمّي بذلك لأن المتعبد فيه يحارب الشيطان.

وليس المحراب هو طاق القبلة كما هو عند عامة الناس، وفي بعض المساجد مكتوب على قوس طاق القبلة: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ}، يجعلون الإمام مريم وهم لا يشعرون، ويخطئون أيضاً في المعنى؛ لأن المحراب مكان العبادة سواء كان طاقاً أو مربعاً أو حجرة، ولهذا قال الله تعالى في قصة داود: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:۲۱]

ثم أطلق المحراب عند المسلمين على موضع كشكل نصف قبة في طول قامة ونصف يجعل بموضع القبلة ليقف فيه الإمام للصلاة. وهو إطلاق مولد، وأول محراب في الإسلام محراب مسجد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صنع في خلافة الوليد بن عبد الملك، مدة إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة.

{وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} ما يقوم به البدن مما تأكله ليقوم بدنها وتحفظ حياتها .. يقال في بعض الإسرائيليات: كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء.

وأَبْعَدَ من فسر الرزق هنا بأنه فيض كان يأتيها من الله من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي، فسماه «رزقاً».. قال الراغب: واللفظ محتمل، انتهى، وهذا شبيه بتفسير الباطنية.

{قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} أنَّى، سؤال عن الكيفية وعن المكان وعن الزمان، والأظهر أنه سؤال عن الجهة، فكأنه قال: من أي جهة لك هذا الرزق؟ ولذلك قال أبو عبيدة: معناه من أين؟ ولا يبعد أن يكون سؤالاً عن الكيفية، أي كيف تهيأ وصول هذا الرزق إليك؟ وظاهره أنه كان يسأل كلما وجد عندها رزقاً.

خاطبها بقوله: {يَا مَرْيَمُ}، إشارة إلى أنها في حال لا تقتضي أن يكون عندها ذلك؛ لأنها امرأة لا تكتسب منقطعة للعبادة، والمنقطع للعبادة ولو كان ذكراً لا يتيسر له الرزق. ولهذا ناداها باسمها قال: يا مريم؛ يعني انتبهي أيتها الأنثى كيف يجيئك هذا الرزق.

{قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} لم يأت به آدمي ألبتة، بل هو رزق يتعهدني به الله تعالى. فعند ذلك يستريح قلب زكريا بكونه لم يسبقه أحد إلى تعهد مريم، وبكونه يشهد مقاماً شريفاً، واعتناءً لطيفاً بمن اختارها الله تعالى بأن جعلها في كفالته.

{إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ} الرزق بمعنى العطاء، والعطاء ينقسم إلى قسمين: عطاء كوني، وعطاء شرعي.

فالعطاء الكوني: ما يرزق الله به الإنسان والحيوان الحلال والحرام، لا يختص بالمؤمنين ولا بالطيب من الرزق.

والعطاء الشرعي: وهو ما يعطاه المؤمن من الرزق الحلال فهو الرزق الخاص الذي ليس فيه تبعة، ويشمل أيضاً العطاء الشرعي ما ثبت إعطاؤه بمقتضى الشرع كإعطاء الفقراء من الزكاة مثلاً، وإعطاء الغانمين من الغنيمة، فهذا عطاء وإيتاء شرعي.

{مَنْ يَشَاءُ} فالرزق لا يكون إلا بمشيئة الله، وهي مربوطة بالحكمة، يعطي من يشاء لحكمة، ويمنع من يشاء الحكمة، والدليل على أن كل ما أثبت الله فيه المشيئة فهو مقرون بحكمة، قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:٣٠]

{بِغَيْرِ حِسَابٍ} بمعنى الحصر لأن الحساب يقتضي حصر الشيء المحسوب بحيث لا يزيد ولا ينقص، فالمعنى إن الله يرزق من يريد رزقه بما لا يعرف مقداره لأنه موكول إلى فضل الله.

أي بغير مكافأة، يُطعِم ولا يُطْعَم، يرزق ولا يُرْزَق، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات] بخلاف البشر فإنه قد يُعطِي ليُعطَى.

والظاهر أنه من كلام مريم، وقال الطبري: ليس من كلام مريم، وأنه خبر من الله تعالى لمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.


جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

 
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية