صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







قدّم لنفسك خيرا

د.محمد بن إبراهيم النعيم -رحمه الله-

 
بسم الله الرحمن الرحيم

 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يحكى أن ملكا استدعى وزراءه الثلاثة ، وطلب منهم أمرا غريبا .
طلب من كل وزير أن يأخذ كيسا ويذهب إلى بستان القصر، وأن يملأ هذا الكيس للملك من مختلف طيبات الثمار والزروع، كما طلب منهم أن لا يستعينوا بأحد في هذه المهمة، و أن لا يسندوها إلى أحد آخر، استغرب الوزراء من طلب الملك، وأخذ كلُ واحد منهم كيسا وانطلق إلى البستان لينفذ الأوامر، فأما الوزير الأول: فقد حرص على أن يرضي الملك، فجمع من كل الثمرات من أفضل وأجود المحصول، وكان يتخير الطيب والجيد من الثمار حتى ملأ الكيس، وأما الوزير الثاني: فقد كان مقتنعا بأن الملك لا يريد الثمار ولا يحتاجها لنفسه، وأنه لن يتفحص الثمار، فقام بجمع الثمار بكسل وإهمال فلم يتحر الطيب من الفاسد، حتى ملأ الكيس بالثمار كيفما اتفق، أما الوزير الثالث: فلم يعتقد أن الملك سوف يهتم بمحتوى الكيس أصلا، فملأ الكيس بالحشائش والأعشاب وأوراق الأشجار.

وفي اليوم التالي أمر الملكُ أن يؤتى بالوزراء الثلاثة مع الأكياس التي جمعوها،
فلما أجتمع الوزراء بالملك، أمر الملك جنوده بأن يأخذوا الوزراء الثلاثة ويسجنوهم
كل واحد على حدة مع الكيس الذي معه لمدة شهر، في سجن بعيد لا يصل إليهم فيه أحد، وأن يمنع عنهم الطعام والشراب.

فأما الوزير الأول، فبقي يأكل من طيبات الثمار التي جمعها حتى انقضت المدة، وأما الوزير الثاني، فقد عاش تلك الفترة في ضيق وقلة حيلة، معتمدا على ما صلح فقط من الثمار التي جمعها، وأما الوزير الثالث فقد مات جوعا؛ لأنه لم يجمع في الكيس ما يصلح للأكل.
فيا عبد الله من أي الوزراء الثلاثة أنت؟ فأنا وأنت الآن في بستان الدنيا، لك كامل الحرية أن تجمع من الأعمال الطيبة أو الأعمال السيئة، ولكن غدا عندما يأمر ملك الملوك سبحانه وتعالى أن تدفن في قبرك في ذلك المكان الضيق المظلم لوحدك، ماذا تعتقد سوف ينفعك غير طيبات الأعمال التي جمعتها في حياتك الدنيا.

فلنقف الآن مع أنفسنا ولنقرر ماذا سنفعل غدا في سجننا؟ في ذلك القبر الموحش، فلن يؤنسنا سوى عملنا الصالح، لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أحوال الميت المسلم وغير المسلم وهو في قبره، فحينَ يُفْسَحُ للمؤمن فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، ثُمَّ يَأْتِيهِ آتٍ حَسَنُ الْوَجْهِ طَيِّبُ الرِّيحِ حَسَنُ الثِّيَابِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِكَرَامَةٍ مِنْ اللَّهِ وَنَعِيمٍ مُقِيمٍ فَيَقُولُ وَأَنْتَ فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ مَنْ أَنْتَ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ كُنْتَ وَاللَّهِ سَرِيعًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ بَطِيئًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ الْجَنَّةِ وَبَابٌ مِنْ النَّارِ فَيُقَالُ هَذَا كَانَ مَنْزِلَكَ لَوْ عَصَيْتَ اللَّهَ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ هَذَا فَإِذَا رَأَى مَا فِي الْجَنَّةِ قَالَ رَبِّ عَجِّلْ قِيَامَ السَّاعَةِ كَيْمَا أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي فَيُقَالُ لَهُ اسْكُنْ ، وأما الكفار فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين يُسأل في قبره ولا يجيب، يُفرش له من النار ويُفتحُ لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلاعُهُ، وَيَأْتِيهِ آتٍ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِهَوَانٍ مِنْ اللَّهِ وَعَذَابٍ مُقِيمٍ فَيَقُولُ وَأَنْتَ فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِالشَّرِّ مَنْ أَنْتَ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ كُنْتَ بَطِيئًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ سَرِيعًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَجَزَاكَ اللَّهُ شَرًّا ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ أَبْكَمُ فِي يَدِهِ مِرْزَبَةٌ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ كَانَ تُرَابًا فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً حَتَّى يَصِيرَ تُرَابًا ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ)

فالدنيا ليست بدارٍ لنا، ونحن راحلون عنها كما رحل عنها مَنْ قَبلنا، والعيش الدائم والمستقر لن يكون هنا، فماذا قدمنا لدار البقاء الحقيقي؟ أين متاجرتنا بالحسنات؟ أين مسابقتنا للطاعات؟
إن من الغبن أن تمرَّ علينا السنة تلو السنة، ونحن قد زادت أعمارنا، وما زادت طاعاتنا، ونحن قد ترقينا في وظائفنا، وما ترقينا في درجات الجنة التي بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض!
غبنٌ أن تكثر أموالنا، ولا تكثر حسناتنا، وغبنٌ أن نُعمِّرَ قصورَ الدنيا وننسى عمارة قصور الآخرة، وغبنٌ أن نتنافس في كل شيء، وننسى التنافس في أمر الآخرة والقرب إلى الله تعالى، وقد قال الله تعالى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}.

ستمضي الأيام، وستغلق صحائف الليل والنهار، وسينتهي عمرك، وستشرق الشمس يوماً ما، ونحن في القبور, وحينها سيفرح الموفقون، وسيندم المفرطون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

لَعِبَتْ بـك الأيــامُ يا مغرورُ ---- العمرُ يفنى والزمان قصيرُ
قدم لنفسك إن أردت صلاحها --- واعلم بأنـك ميت مقبور

قال صلى الله عليه وسلم : (يَقِي أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ أَوْ النَّارِ وَلَوْ بِتَمْرَةٍ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاقِي اللَّهَ وَقَائِلٌ لَهُ مَا أَقُولُ لَكُمْ: أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ مَالاً وَوَلَدًا؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَيْنَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ؟ فَيَنْظُرُ قُدَّامَهُ وَبَعْدَهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ لا يَجِدُ شَيْئًا يَقِي بِهِ وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ، لِيَقِ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) رواه الترمذي والطبراني.

فيا عبد الله انتبه من غفلتك، ونافسْ في كلِّ خَيرٍ، وزَاحِمْ نَحْوَ كلِّ مَعروفٍ، واضرِبْ بسَهْم في كلِّ بر، كُنْ من أهلِ الصلاة إذا نُودي إليها، ولازمْ نوافلَ الصيام وواظبْ عليها، أقبلْ على تلاوة القرآن، تلذَّذْ ببرِّ الوالدينِ وصلةِ الأرْحَام.

اِغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْل خَمْس، شَبَابك قَبْل هَرَمك، وَصِحَّتك قَبْل سَقَمك، وَغِنَاك قَبْل فَقْرك، وَفَرَاغك قَبْل شُغْلك، وَحَيَاتك قَبْل مَوْتك، أَلا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لا خَطَرَ لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلأْلأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، فِي مَقَامٍ أَبَدًا.

جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه) رواه الطبراني.
فكل عمل تعمله الآن ستجازى عليه، ولذلك قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ).

ولقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن الناس سيمرون على الصراط الذي فوق جهنم على قدر أعمالهم، فمنهم من سيمر عليه كالبرق، ومنهم كالريح ومنهم الماشي، حتى يمر آخرهم يتلبَّط – أي يتقلب- على بطنه فيقول: يا رب لِمَ بطَّأت بي؟ فيقول: إني لم أُبطئ بك، إنما بطَّأ بك عملك.

ولذلك فليعلم كلُّ مفسد في المجتمع يحب الفساد ويسعى لتطبيعه ونشره: قل ما شئت، واصنع ما شِئت، فإنك مجزي به ومحاسب عليه، وتذكَّرْ أنَّ عليك كرامًا كاتبين، يسجلون عليك ما تفعل، قال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}.

ولنعلم بأن العبد سيتمنى الهروب من سيئاته إذا رآها يوم القيامة، وذلك مما يفهم من سياق قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ}، قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية: يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير وشر، كما قال تعالى {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدَّم وأخَّر} فما رأى من أعماله حسنا سرَّه ذلك وأفرحه، وما رأى من قبيح ساءه وغصه، وود لو أنه تبرأ منه، وأن يكون بينهما أمد بعيد؛ كما يقول لشيطانه الذي كان مقرونا به في الدنيا، وهو الذي جرَّأه على فعل السوء: {يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} اهـ.

فقدم لنفسك خيرا، تجده عند الله يوم القيامة هو خيرا وأعظم أجرا، قدم لنفسك لأنك لن ترى إلا ما قدمت، قال صلى الله عليه وسلم : (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ( متفق عليه.

ألا تعلموا أن أمنية أهل النار أن يعودوا للدنيا ليعملوا صالحا؟!
قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}.
فهذا العمل الصالح الذي يتمنى أهل النار فعله، بعد أن ضيعوا حياتهم في لهو وغفلة هو الآن سهل وميسر أمامنا، فهل نستيقظ من غفلتنا؟

أسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويبصرنا بعيوبنا، وأن يوفقنا لصالح القول والعمل ويجنبنا الزلل.... وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. 
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.محمد النعيم
  • مقالات
  • المؤلفات
  • الصفحة الرئيسية