اطبع هذه الصفحة


العجلة المحمودة والمذمومة في حياة المسلم (2)
استعجال إجابة الدعاء

د.محمد بن إبراهيم النعيم -رحمه الله-

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:

يقول الحق تبارك وتعالى في سورة الأنبياء {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ } الأنبياء: 37]. فقوله تعالى { خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ } أي أن الإنسان خلق عجولاً وهي صفة مبالغة للعجلة التي فيه، كما يقال للرجل الذكي هو نار تشتعل، فالإنسان من شأنه العجلة ومطبوع عليها فكأنه خلق من العجلة، وقال تعالى في سورة الإسراء {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً } [لإسراء: 11]، أي أن العجلة وُجدت في الإنسان وأصبحت من طبعه، ولا يعني أنه لا يؤاخذ عليها، فالعجلة والاستعجال صفة مذمومة في ابن آدم ولذلك حذر الشرع الحكيم من العديد من الخصال التي يستعجل فيها الإنسان ولا يدرك عواقبها وفي المقابل حث على أمور وأمر بالمبادرة إليها.

فدعونا نتحدث عن العجلة المحمودة والمذمومة في حياة المسلم، لنعرف ما هو مذموم وما محمود، والسبب أن بعض الناس قلبوا بعض الأمور فعجلوا ما طُلب تأجيله، وأجلوا ما طُلب تعجيله.

فمن الخصال المذموم الاستعجال فيها: استعجال إجابة الدعاء: فكثير من الناس يدعون الله تعالى فإذا لم يجب الله دعائهم في الحال تركوا الدعاء قانطين من الإجابة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر حيث روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ) قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: (يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ) رواه مسلم. فكن على حذر أن تقول: دعوت ودعوت فلم يستجب لي، فتمل الدعاء وتركن إلى اليأسِ والقنوط.

والمسلم إذا دعا ربه فهو مأجور على كل حال غير خاسر؛ لأن الدعاء عبادة جليلة يحبها الله عز وجل، ومن دعا الله تعالى يكسب أحد ثلاثة أمور إما أن يحقق الله مراده أو يصرف عنه من السوء قدر دعائه أو يدخر له ثواب ذلك الدعاء في الآخرة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ، ولا قطيعة رحم ؛ إلا أعطاه بها إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)، قالوا: إذا نكثر، قال: (الله أكثر)، رواه الإمام أحمد.

كما ينبغي العلم بأن لإجابة الدعاء شروط من أهمها المطعم الحلال، فقد يكون عدم إجابة الدعاء سببه أن العبد اكتسب أموالاً بطرق غير مشروعة، وقد روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ) رواه مسلم.

ومن العجلة المذمومة في الدعاء أن بعض الناس قد يدعو الله تعالى أن يعجل له العقوبة في الدنيا كي لا يعذب في الآخرة استناداً لما رواه أَنَسٍ بن مالك رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه الترمذي، فتراه يدعو على نفسه أن تعجل له عقوبته في الدنيا وهذا منهي عنه، فقد عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه المرضى رضي الله عنهم فرآه يوشك على الهلاك فماذا قال له؟
روى أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ) قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (سُبْحَانَ اللَّهِ لَا تُطِيقُهُ، أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ، أَفَلَا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ؟ قَالَ: فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ) رواه مسلم.

ومن العجلة المذمومة في الدعاء عدم الثناء على الله تعالى في أول الدعاء وعدم ختمه بالصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقد روى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قال: بَيْنَما رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدْ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَصَلِّ عَلَيَّ ثُمَّ ادْعُهُ) قَالَ ثُمَّ صَلَّى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أَيُّهَا الْمُصَلِّي ادْعُ تُجَبْ) رواه الترمذي.

واعلموا أن الله تعالى قد يؤخر إجابة الداعي لأنه يحب الملحين في الدعاء ويحب المتضرعين، فقد يبتلي الرب جل وعلا عبده بل قد يبتلي شعباً كاملاً لأنه يريد منه الدعاء والتضرع، قال الله تعالى { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]، وقال تعالى { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]، وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94]، وقال تعالى {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43].
فهذه سنة الله تعالى فلنفهمها ولا نسيء الظن بالله عز وجل، ولنكثر من الدعاء والتضرع.

جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


------------------------------------
كتب للمؤلف :
(1) كيف تطيل عمرك الإنتاجي ؟
(2) كيف ترفع درجتك في الجنة ؟
(3) كيف تحظى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ؟
(4) كيف تنجو من كرب الصراط ؟
(5) أمنيات الموتى .
(6) كيف تملك قصورا في الجنة ؟
(7) أعمال ثوابها كقيام الليل .
(8) كيف تثقل ميزانك ؟
(9) كيف تفتح أبواب السماء ؟
(10) كيف تجعل الخلق يدعون لك ؟
(11) كيف تنجو من عذاب القبر؟
(12) ذنوب قولية وفعلية تكفرها الصدقة.
(13) أعمال أكثر منها النبي صلى الله عليه وسلم .
(14) كيف تسابق إلى الخيرات؟




 

د.محمد النعيم
  • مقالات
  • المؤلفات
  • الصفحة الرئيسية