صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ ([1])

 

محمد بن ابراهيم بن سعود السبر

  

الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَجَدَنَا مِنَ الْعَدَمِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْنَا النِّعَمَ، وَالصَّلَاَةُ وَالسَّلَاَمُ عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْأَنَامِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ أفْضَلُ رَسُولٍ وَخَيرُ إمَامٍ، كانتْ رَاحَتُهُ وَقُرَّةُ عِيْنَهِ فِي الْخُشُوعِ وَالْقِيَامِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَوَلِي النُّهَى وَالْأحْلَاَمِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ حَشْرِ الْأَنَامِ.

أمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاعْلَمُوا أَنَّ الْغَايَةَ مِنْ خَلْقِ الْخَلْقِ عِبَادَهُ اللهِ وَحَدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ قَالَ تَعَالَى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾، وَالْعِبَادَةُ هِيَ غَايَةُ الذُّلِ وَالْخُشُوعِ مَعَ غَايَةِ الْحُبِّ وَالْخُضُوعِ.

وَقَدْ أَثْنَى اللهُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَخُلَّصِ أَوْلِيَائِهِ؛ فَقَالَ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾. فَهُم يُبادِرُونَ في طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَدْعُونَهُ رَغَبَاً وَطَمَعَاً فِي رَحْمَتهِ، وَرَهَبَاً وَخَوْفاً مِنْ عَذَابِهِ، ﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾: أَيْ مُتَذَلِّلِينَ مُتَوَاضِعِينَ، لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِنَا وَدُعَائِنَا.

﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ قَدِ انْكَسَرَتْ قَلُوبُهُمْ للهِ، وَسَكَّنَتْ عَنِ الْاِلْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ؛ فَإِذَا خَشَعَ الْقَلْبُ خَشَعتْ الْجَوَارِحُ كُلَّهَا تَبِعَاً لِخُشُوعِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: «اللَّهُمَّ لكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي وَعَصَبِي». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

إِنَّ أَعْظَمَ مَا تَقَرَّبَ بِهِ الْمُتَقَرِّبُونَ، وَأَجَّلَ مَا ذَاقَ حَلَاَوَةَ طَعْمِهِ الْمُؤْمِنُونَ، هُوَ عَيْشُهُم للهِ خَاشِعِينَ، وَفِي رَحْمَتِهِ طَامِعِينَ، وَمِنْ عَذَابِهِ مُشْفِقِينَ.

وَلَقَدْ امْتَدَحَ اللهُ طَائِفَةً مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ كَانتْ عَلَى الْحَقِ قَائِمَةً، وَللهِ خَاشِعَةً؛ فَقَالَ: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ﴾.

وَأهْلُ الْعِلْمِ هُمْ أهْلُ الْخُشُوعِ ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعَاً﴾.

الْخُشُوعُ الدَّائِمُ وَصْفُ خَوَاصِ الْمُؤْمِنِينَ يَنْشَأُ مِنْ كَمَالِ مَعْرِفَةِ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ وَمُرَاقِبَتِهِ، وَقَدْ عَاتَبَ اللهُ أَوْلِيَاءَهُ بِقُولِهِ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾. أَيْ: تَلِيَنَ عِنْدَ الذِّكْرِ وَالْمَوْعِظَةِ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ، فَتَفْهَمُهُ وَتَنْقَادُ لَهُ وَتَسَمَعُ لَهُ وَتُطِيعُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: إِنَّ اللهَ اسْتَبْطَأَ قَلُوبَ الْمُهَاجِرِينَ فَعَاتِبِهِمْ عَلَى رَأْسِ ثَلاثَ عَشْرَةَ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ.

وَالدُّعاءُ عِبَادَةٌ يَظهَرُ فِيهَا الخُشُوعُ وَافتقارُ القَلبِ وَانكِسارُهُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ أَيْ: تَذَلُّلَاً وَاسْتِكَانَةً لِطَاعَتِهِ.

الْخُشُوعُ لَهُ أمَارَاتُ يَتَعَرَّفُ بِهَا الْإِنْسَانُ عَلَى حَالِ قَلْبِهِ، وَأَعْظَمُ مَقَامَاتِهِ: حُبُّ الصَّلَاَةِ، وَالْمُسَارَعَةُ إِلَيْهَا، وَالتَّعَلُّقُ بِالْمَسَاجِدِ، فَالصَّلَاَةُ خَفِيفَةٌ عَلَى الْخَاشِعِينَ تَشْرَحُ الصَّدْرَ وَيُطَمْئِنُ لَهَا الْقَلْبُ، ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾.

الْخَاشِعُونَ جُعَلَتْ قَرَّةُ أَعَيُنِهِمْ فِي الصَّلَاَةِ فَاسْتَرَاحُوا بِهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ»، وَيَقُولُ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاَةِ». وَمَنْ قَرَتْ عَيْنَهُ بِاللهِ قَرَتْ بِهِ كُلُّ عَيْنٍ، وَمَنْ لَمْ تَقْرَ عَيْنُهُ بِاللهِ تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسْرَاتٍ، وَإِنَّمَا يَقْوَى الْعَبْدُ عَلَى حُضُورِهِ فِي الصَّلَاَةِ وَاشْتِغَالِهِ فِيهَا بِرَبِّهِ إِذَا قَهَرَ شَهْوَتَهُ وَهَوَاَهُ.

الْخُشُوعُ لَبُ الصَّلَاَةِ وَرُوْحُهَا، فَلَا يَعْرُفُ عَظْمَةَ الصَّلَاَةِ مَنْ لَمْ يَذُقِ الْخُشُوعَ فِيهَا، وَعَلَى قَدْرِ الْخُشُوعِ يُكَوُنُ الْأَجْرُ، ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِم ْخَاشِعُونَ﴾.

الْخُشُوعُ عِنْدَ ذِكْرِ اللهِ وَتِلَاوَةِ آيَاتِهِ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَيْنَ: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾.

الْخُشُوعُ فِي الصَّبْرِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ وَتَلَقِّيِهَا بِالرِّضَى وَالْاِحْتِسَابِ ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَهْدِ قَلْبَهُ لِلْيَقِينِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ.

وَمِمَّا ذَكْرَ اللهُ مِنْ صِفَاتِ الْخَاشِعِينَ: الْخَوْفُ مِنَ اللهِ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ اِسْمِهِ، وَالْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَتِهِ، وَعِنْدَ سَمَاعِ كِلَاَمِهِ، وَالتَّفَكُّرُ فِي خَلْقِهِ، وَتَعْظِيمُ شَعَائِرِ اللهِ، وَالْيَقِينُ بِمُلَاَقَاةِ اللهِ تَعَالَى، وَالْمُسَارَعَةُ فِي الْخَيْرَاتِ، وَدُعَاءُ اللهِ رَغَبَا وَرَهَبَاً.

وَحَتَّى تُسْقَى الْقُلُوبُ الْمُجْدِبَةُ بِالْخُشُوعِ؛ فَلابُدَ مِنَ التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ، فقدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِ ﷺ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْخَاشِعِينَ وَالْبَاكِينَ خَشْيَةً لَكَ وَحُبَاً وَتَقَرُّبَاً اليِكَ، يَارَبَ الْعَالِمِينَ.

أقوُلُ قَوْلِي هَذَا، واسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلكُم ولسَائرِ المُسلِمينَ مِنْ كُلِ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِرُوهُ، إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَحِيمُ.

الخُطبَةُ الثَّانيةُ:

الحمْدُ للَّهِ وكَفَى، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الذينَ اصْطَفَى، وَبَعدُ؛ فَاتقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسَكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاحْذَرُوا الْمَعَاصِيَ؛ فَإِنَّ أَجْسَامَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ قَدْ تَخَطَّاكُمْ إِلَى غَيْرِكُمْ، وَسَيَتَخَطَّى غَيْرَكُمْ إِلَيْكُمْ، فَخُذُوا حِذَّرَكُمْ، ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾.

اللَّهُمُّ أعزَّ الإسْلامَ وَالمُسلمينَ، وَاجْعَلْ هَذَا البلدَ آمِنَاً مُطمئنًا وسائرَ بلادِ المُسلمينَ، وَأعذْنَا مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهِرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

اللَّهُمُّ آمَنَا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلَحِ أئِمَّتِنَا، وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَوفقْ خَادَمَ الحَرَمَينَ الشَرِيفَينَ، وَوَليَ عَهدِهِ لمَا تُحبُ وَترضَى، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ.

عِبَادَ اللَّهِ: اذكُرُوا اللَّهَ ذِكرًا كَثِيرًا، وَسَبّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلًا، وَآخِرُ دَعوَانَا أَنِ الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.


 


([1]) للشيخ محمد السبر، قناة التلغرام https://t.me/alsaberm

 

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
 
  • خطب دعوية
  • مقالات دعوية
  • تحقيقات وحوارات صحفية
  • الصفحة الرئيسية