صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







طاعة الرئيس، والخروج على السلطة، في النظام الديمقراطي

إبراهيم بن عمر السكران
@iosakran


الحمد لله وبعد،،

هذان المفهومان (طاعة ولي الأمر بالمعروف) و (تحريم الخروج على ولاة الجور) يبدو لي أنهما أُشبِعا طرحاً وبحثاً ومجادلة حول واقعهما في السياسة الشرعية والموروث السياسي الإسلامي، ولكن لم يمر بي بحث حول مفهومي "الطاعة والخروج" في النظام الديمقراطي المعاصر، وكيف تعامل منظرو التشريع والسياسة الغربيين مع هذين المفهومين؟

ولمست لدى بعض المتجادلين في هذه الموضوعات شيئاً من الضباب حول واقع هذين المفهومين في النظام الديمقراطي المعاصر، ولذلك سأضع على منضدة القارئ بعض المواد والمعطيات، وسنحاول سوياً في نهاية العرض قراءة بعض أبعادها ودلالاتها:
 

أولاً:حدود الطاعة في النظام الديمقراطي


1- في أشهر كتاب معاصر في "الفلسفة السياسية" على الإطلاق، وهو كتاب المفكر الأمريكي جون رولز (ت2002م) الذي سماه "نظرية العدالة" (1971م)، والذي هيمن كنص مرجعي ليبرالي، عقد رولز فصلاً سماه: (واجب الامتثال للقانون غير العادل). وجاء فيه قوله:

(السؤال الحقيقي هاهنا هو: تحت أي ظروف، وإلى أي مدى، نحن ملزمون بطاعة تنظيمات "غير عادلة"؟ يقال أحياناً هذه الأيام أننا غير مطالبين البتة بالطاعة في مثل هذه الحالات، ولكن هذا خطأ، فبصورة عامة، فإن الشرعية القانونية للقانون كما حددها الدستور مبرر كافٍ للسير عليه بما يفوق لا عدالة القانون كمبرر لعدم الالتزام به).

[Rawls, Theory of Justice, Harvard University Press, 1999, p.308].


ويشير رولز إلى علاقة هذا المبدأ –أي وجوب طاعة القانون غير العادل- بمفهوم الديمقراطية في حكم الأغلبية حيث يقول: (حين يتبنى الأطراف "مبدأ الأغلبية" فإنهم يوافقون على تحمُّل قوانين غير عادلة حسب شروط محددة)[Ibid., p.312].

2- من المعروف أن المدرسة المهيمنة اليوم في الفكر القانوني في الديمقراطيات الغربية هي "المدرسة الوضعية" (Legal positivism)، ويصور أحد الباحثين موقف المدرسة الوضعية من هذه المسألة بقوله : (هل الشخص عليه التزام قانوني بطاعة "القانون غير العادل"؟ بحسب المدرسة الوضعية فإن الجواب بالإيجاب بكل وضوح، فمادام أن هذا القانون غير العادل ساري المفعول فعلى الفرد التزام قانوني بطاعته).

[Hill R., Legal validity and legal obligation, YLJ, Vol. 80: 47, 1970, p.47].

3- برغم أن مدرسة القانون الطبيعي (Natural law) لم تعد هي المدرسة المهيمنة في الفكر القانوني في الديمقراطيات الغربية، إلا أن الرمز الأشهر لمدرسة القانون الطبيعي اليوم جون فينيس (و1940م-)، عقد فصلاً بعنوان "القوانين غير العادلة" (Unjust Lawz)، واحتج فيه لطاعة "القانون غير العادل" حيث يقول:

(الالتزام المطلوب بالقانون "غير العادل" ليس تابعاً لفحوى وغرض التشريع في هذه القوانين، ولكن مثل هذه المستوى من الطاعة هو فقط باعتباره ضرورياً لتجنب إدخال القانون كمنظومة في حالة من الامتهان).

[Finnis R., Natural Law and Natural Rights, Oxford University Press, 2ed , 2011, p.361]

4- يلخّص البروفيسور الأمريكي في فلسفة التشريع "كنت جرينولت" موقف عدد من المنظّرين المعاصرين لمدرسة القانون الطبيعي فيقول: (ثلاثة من نظريات الواجب الطبيعي لطاعة القانون، وهي نظرية توني هونور في واجب الالتزام باعتبار الضرورة، ونظرية فيليب سوبر في واجب إظهار الاحترام للقانون، ونظرية جون ماكي في الالتزام المستقل بطاعة القانون، ثلاثتها يدّعي مناصروها أنها تشمل طاعة القوانين "غير العادلة" والنظم غير العادلة. أما نظرية رولز فتتصل فقط بالنظم الدستورية العادلة، لكنها تشمل طاعة القوانين "غير العادلة" داخل هذه الأنظمة).

[Greenawalt K., The Natural Duty to Obey the Law, Mich. L. Rev., vol.84:1, 1985-1986, p.38]

حسناً، هذه عينات كافية الآن لنجعلها شريط البداية في النقاش، ومصدر كفايتها أنها عينات تملك وزن تمثيلي معتبر في الداخل القانوني في النظم الديمقراطية الغربية، فهي نماذج متنوعة وتغطي اتجاهات كبرى في فلسفة القانون والسياسة.

فالشعور الذي يمكن أن يسري في روح بعض القراء هو شيء من سيل هذه التساؤلات: هل يمكن أن يكون هذا صحيحاً؟ هل يمكن في هذه النظم الديمقراطية وثقافة الحرية الليبرالية أن يكون المواطن مُكرهاً على طاعة القانون "غير العادل"؟ فأين الحرية وأين الديمقراطية؟

فنحن الآن بحاجة لتفسير مغزى هذه الأحكام التي يرددها كبار رجال القانون وفلسفة السياسة في الفكر الغربي، وكيف يقولون أنه "يجب طاعة القانون غير العادل"؟

لا يمكن توضيح هذه الأحكام دون عبور على السياق الظرفي الذي شكّلها، فيمكن القول باختصار شديد أن هناك تيارين كبيرين يقتسمان فلسفة التشريع في الفكر الغربي، وهما مدرسة القانون الطبيعي (Natural law)، والمدرسة الوضعية (Legal positivism).

مدرسة القانون الطبيعي ذات تقليد تاريخي عريق جداً منذ الفكر التشريعي الإغريقي، وجوهر تصورها أن هناك نظام عدالة معطى مسبقاً في بنية الطبيعة البشرية، ووظيفة العقل الإنساني هي استكشاف هذا القانون المودَع في الطبيعة البشرية، والقواعد القانونية الصناعية تستمد مشروعيتها في مدى مطابقتها لهذا القانون الطبيعي المسبق، وبسبب هذا التصور أصبحت مدرسة القانون الطبيعي تربط بشكل متطابق بين القانون والأخلاق، فإذا لم توافق القوانين الصناعية الأخلاق صارت مخالفة للقانون الطبيعي.

ثم تراجع حضور مدرسة القانون الطبيعي، وهيمن منذ القرن الماضي في الفكر الغربي المدرسة الوضعية، وهي مدرسة حديثة لا يتجاوز عمرها المائتي سنة، ومن أهم رموزها المبكرين جون أوستن (ت1859م)، وأما رمزها المعاصر الكاسح فهو فيلسوف القانون البريطاني هربرت هارت (ت1992م)، وأصحاب هذه المدرسة يفخمون أمره جداً، حتى اعتبر بعض المؤرخين للفكر القانوني أن كل المدرسة الوضعية ليست سوى شروحات وتعليقات على كتاب هارت (مفهوم القانون)، ويعتقد أصحاب هذه المدرسة أن القانون ليس مرتبطاً بأي "محتوى مسبق"، بل القانون مرتبط بمصدره، فالقانون هو ما تصدره الجهة المخولة بإصداره، بغض النظر عن علاقته بأية مسبقات مفهومية، ولذلك يقرر أصحاب المدرسة الوضعية بكل وضوح انفصال القانون عن مبحث الأخلاق، وهناك اليوم من يجادل منهم لدحض هذه الصورة التقلدية عن هذا التيار.

ومن المسائل الرئيسة التي تدرسها فلسفة القانون أو النظرية القانونية مبحث "العلاقة بين القانون والأخلاق"، وبشكل أخص "العلاقة بين القانون والعدالة"، وهو مبحث قديم حديث، وذلك تحت السؤالين الأساسيين: ما هو الأساس النظري لطاعة القانون؟ وإلى أي مدى تصل طاعة القانون، بما يعني: هل يطاع القانون العادل فقط أم يجب أيضاً طاعة القانون غير العادل؟

فأما أصحاب مدرسة القانون الطبيعي فلديهم شعار (slogan) قديم مشهور يتداولونه بينهم بكثافة منسوباً إلى اللاهوتي الكاثوليكي المشهور توما الأكويني (ت 1274م) وينص هذا الشعار على ما يلي (القانون غير العادل ليس بقانون أصلاً).

ويقابل هذا الشعار شعار آخر لدى المدرسة الوضعية يذكره بعضهم وهو (لا رابطة ضرورية بين القانون والأخلاق).

وليس من العسير على القارئ أن يلاحظ النزعة "المعيارية" لدى المدرسة الطبيعية حيث تركز على محتوى القانون، والنزعة "الوصفية" لدى المدرسة الوضعية حيث تركز على صدور القانون من مصدر مخوّل، وتغض الطرف عن مسألة أخلاقية أو عدالة محتواه.

ولكون الوضعانيين لا يربطون القانون بمحتواه الأخلاقي، بل بمصدره الشرعي، فقد صار مألوفاً لديهم أنه يجب طاعة "القانون غير العادل" طالما أنه صادر من مؤسسة دستورية أو قضائية مخولة بإصدار القواعد القانونية أو المصادقة عليها.

ولكن اللافت في الأمر أن الطبيعانيين تحول كثير منهم عن موقفهم التقليدي القديم، وصار كثير من رموزهم يقرر أيضاً طاعة القانون "غير العادل"، كما نقلنا آنفاً عن أحد أشهر منظّريهم اليوم وهو جون فينيس وغيره.

فكيف تحوّل الطبيعانيون وقد كانوا يرون أن القانون الصناعي يجب أن يطابق القانون الطبيعي وإلا كان ليس بقانون أصلاً؟ الحقيقة أنهم لم يغيروا مبدأهم الأصلي هذا، ولكنهم برروا موقفهم الجديد باعتبارات وحجج مختلفة عن حجج الوضعانيين، ومن أشهر حججهم أنه: حتى وإن كان القانون غير العادل ليس بقانون في حقيقته، ولكن عدم طاعة القانون غير العادل سيكون ذريعة لتهديد النظام القانوني ككل، فيطاع القانون غير العادل للضرورة أو لمصلحة بقية الأجزاء العادلة في النظام القانوني.

والعجيب حقاً أن الطبيعانيين كانوا سابقاً يبطلون القانون غير العادل مطلقاً، ثم صاروا يفرّقون بين الالتزام القانوني والالتزام الأخلاقي، فيقولون: القانون غير العادل يطاع كالتزام قانوني لا كالتزام أخلاقي، وكان هذا أشبه بالمخرج، ثم صار بعضهم مؤخراً يقول إن طاعة القانون غير العادل لمصلحة حفظ بقية القوانين العادلة هو بوجهٍ ما التزام أخلاقي أيضاً، فرجعوا إلى موقف أشد من موقف الوضعيين، وصارت المحصلة عند هؤلاء أن طاعة القانون "غير العادل" هو التزام قانوني والتزام أخلاقي.

لاحظ كيف يشرح أحد رؤوس الطبيعانيين اليوم، جون فينيس (و1940م-) تحليله لهذه الإشكالية في كتابه الأشهر "القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية" حيث يقول:
(إنه من المحتمل حين يشاهدني مواطن آخر وأنا أعصي القانون، أو أستخف به، فإن فعالية بقية القوانين، والاحترام العام من قبل المواطنين لسلطة دستور أو حاكم مرغوب عموماً، فإنها من المحتمل أن تقود إلى توهينها، مع عواقب سيئة محتملة بما يتعلق بالخير العام في المجتمع، ولكن أليست هذه الحقيقة الملازمة تخلق التزام أخلاقي؟)

[Finnis R., Natural Law and Natural Rights, Oxford University Press, 2ed , 2011, p.361]

عددٌ من دراسي أطروحات فينيس رأوا أنه في الحقيقة تمسك ظاهرياً بنظرية القانون الطبيعي لكنه مضمونياً انتقل إلى جزء من النظرية الوضعية، حتى أنه في العام 2003م كتبت الدكتورة تان هون بحثاً بهذا الخصوص بعنوان (الشرعية والالتزام في نظرية القانون الطبيعي: هل اقترب فينيس جداً من الوضعية؟)

[Tan S., Validity and Obligation in Natural Law Theory: Does Finnis Come Too Close to Legal Positivism? Regent University Law Review, Vol. 15, 2003, p.195]

وخلصت الباحثة إلى خلط فينيس لطبيعانيته بشيء من الوضعية في إيجابه لطاعة القانون "غير العادل".

من المهم هنا التأكيد بصورة واضحة أنه برغم أن المدرسة الوضعية، الصريحة في طاعة القانون غير العادل، هي المسيطرة اليوم على التفكير القانوني في الديمقراطيات الغربية، إلا أن هذا لا يعني عدم وجود مفكرين ينقدون هذا التيار الغالب، وهذا شأن الفكر الغربي بصورة عامة، ففي كل مدرسة غالبة في أي حقل، تجد لها نقّاداً، وفي الكتاب الصادر حديثاً المخصص لـ(فلسفة القانون والنظرية القانونية) والمنشور بهذا العنوان، يشرح بروفيسور القانون الأمريكي برايان بيكس في المبحث الخاص به هذه الحالة فيقول:
(على الرغم من أن الوضعانية القانونية في بعض الدوائر الآن تظهر باعتبارها المنهج المهيمن في طبيعة القانون، ولكن هذه الهيمنة لا تعني البتّة بأن هذا المنهج بلا نقّاد).

[Golding M. & Edmunson W.(eds), Philosophy of Law and Legal Theory, Blackwell Publishing, 2005, p.29 ].

ولكن ياترى ما هو النقد الذي يشير له برايان بيكس والذي وجّه للمدرسة الوضعية في القانون؟ سرد بيكس عدداً من هذه الانتقادات، وكان منها قوله:
(المدرسة الوضعية القانونية هوجمت باعتبارها تتسبب في جعل رجال القانون منصاعون جداً للحكومة بما يجعلهم في غاية الاستعداد لطاعة حتى القوانين غير العادلة)[Ibid., p.31]

هكذا إذن، يرى نقاد الوضعيين، أن المدرسة الوضعية المهيمنة حين فصلت البحث الأخلاقي في محتوى القانون، وشرّعت وجوب طاعة القانون غير العادل طالما صدر من جهة مخوّلة، فإنه كما يرى هؤلاء النقاد أن هذا يقود إلى حالة من الخنوع أمام الحكومة في النظام الديمقراطي.

وملاحظة بيكس هذه مفيدة في حمايتنا من الوقوع في فخ التعميم، فمع أن كثيراً من منظّري القانون في الديمقراطيات الغربية يؤصّلون لطاعة القانون "غير العادل"، لكن هذا لا يعني التعميم، فهناك نقّاد لهذا الاتجاه.

والحقيقة أن تبنّي رولز لجزء من التصور الوضعاني في طاعة "القانون غير العادل" ساهم بصورة داهمة في شيوع هذا الرأي بسبب المنزلة والتأثير الاستثائي لكتاب رولز، فيكاد يتفق المتخصصون في فلسفة السياسة في الفكر الغربي أن أحد أهم الأحداث في هذا الحقل في العقود الأخيرة هو صدور كتاب المفكر الأمريكي جون رولز (1921-2002م)، "نظرية العدالة" (1971م) وما لحقه من أعمال وشروحات وتنقيحات للنظرية.

حيث سيطر كتاب رولز كمنبع نظري ليبرالي واسع التأثير بمحاججاته وأسسه التي اقترحها للأنماط الليبرالية، وجسّد نقطة انطلاق في كل المناقشات التي أعقبته، مؤازرة ومناوأة واستلهاماً، حتى أن بعض الباحثين المتخصصين شبّه أثر كتاب رولز في فلسفة التشريع والسياسة بأثر ثورة كوبرنيكوس في علم الفلك التي قلبت مركز التفكير، كما يقول (أحدث –رولز- نوعاً من الثورة الكوبرنيكية في تاريخ فلسفات العدالة)[فريدمان وهارشر، فلسفة القانون، ترجمة محمد وطفة، المؤسسة الجامعية، 1423هـ، ص:28].

وللتدقيق في النظرية التي قدّمها رولز في طاعة القانون "غير العادل"، فإنه في الحقيقة لم يتبنّ كامل الأطروحة الوضعية في حدودها القصوى، بل إنه اشترط شرطين: أن يكون القانون غير العادل صدر من مؤسسة ديمقراطية، والثاني أن يكون ظلمه خفيفاً لم يصل لمستويات الظلم الشنيع، كما يقول رولز في كتابه آنف الذكر:
(حين تكون البنية الأساسية للمجتمع عادلة بشكل معقول، فإن علينا أن نسلّم بإلزامية قوانين غير عادلة بشرط أن لا تتجاوز مستويات محددة من اللاعدالة)
.

[Rawls, Theory of Justice, Harvard University Press, 1999, p.308].

فالذي نفهمه من رولز هنا هو التفصيل بين (الظلم الخفيف) و(الظلم الشنيع)، فيجب –بحسب رولز- طاعة القانون الظالم إذا كان ظلمه خفيفاً وصادراً من مؤسسة ديمقراطية.

لكن رولز في تبريره لطاعة القانون غير العادل لا يأخذ بحجج الوضعيين في قولهم بأنه لا عبرة بمحتوى القانون وإنما مصدره، بل يأخذ رولز بحجة تشبه حجة الطبيعانيين الجدد، وهي مصلحة النظام ككل، كما يقول رولز (على الرغم من ذلك، فإن واجبنا الطبيعي بتعزيز المؤسسات العادلة، يلزمنا بطاعة القوانين والسياسات غير العادلة)[Ibid., p.311].

والذي نفهمه من هذا المبرر الذي يذكره رولز هو أنه يجب طاعة الظلم المحدود دعماً للمؤسسات الديمقراطية.

وهناك أيضاً حجة أخرى يذكرها هؤلاء، وهي حجة صعوبة التمييز وإدراك الخط الفاصل بين القانون العادل وغير العادل.

وقد يتساءل القارئ هاهنا فيقول: ولكن المؤسسات الديمقراطية والمسؤولين الديمقراطيين لا ينتجون قوانين وسياسات غير عادلة؟

وهذا إشكال جيد، يقودنا لتأمل المسألة بشكل أعمق، فحين نعيد استحضار أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية، فهذا يعني احتمال أن تنتج الأكثرية الديمقراطية وممثلوها قوانين غير عادلة بشأن الأقليات، وهذا ليس استنتاج شخصي، بل هذا احتمال طرحه وعالجه رولز نفسه، حيث يقول: (واجب الطاعة يمثل معضلة بالنسبة للأقليات الدائمة التي عانت من المظالم سنوات عديدة)[Ibid, p.312].

وقول رولز هاهنا أن هذه المسألة معضلة أو إشكالية (Problematic) يوحي بأن رولز كأنما يشعر بالحرج من هذه المسألة لكن ليس لديه حل لها، بل يصرح بكل وضوح أن هذا أمر لا يمكن الفكاك منه، كما يقول (حين يتبنى الأطراف "مبدأ الأغلبية" فإنهم يوافقون على تحمُّل قوانين غير عادلة حسب شروط محددة)[Ibid., p.312].

وإذا كنا نعرف أن الرئيس والوزراء يعبرون عن الأكثرية، وهم الذين يصدرون القواعد القانونية والقرارات السياسية، فهذا يعني –بحسب رولز- أن يجب على الأقلية طاعة الأوامر الظالمة للرئيس والوزراء في النظام الديمقراطي، طالما كان الظلم فيها ظلماً خفيفاً، أي أنه يحق قانونياً للأكثرية أن تظلم الأقلية إذا كان هذا الظلم في حدود مقبولة.

وقد يقول قائل أن هذا الطرح يتعلق بالقوانين العامة وليس بالقرارات والأوامر الفردية؟ ولكن هذا يزيد الأمر تعقيداً من جهة أخرى، فطاعة (القانون الظالم) أشد من طاعة (الأمر الظالم)، لأن الأمر الظالم هو ظلم "فردي"، والقانون الظالم ظلم "جماعي".

دعنا الآن ننتقل إلى أمثلة عملية تختلف فيها الأنظار، وهل الظلم فيها خفيف يوجب الطاعة أم شنيع يسوغ العصيان، حيث يعرض رولز هذه الحزمة من الأمثلة للرفض الضميري الفردي للقانون، ويقول:
(الأمثلة النموذجية هي: رفض المسيحيين الأوائل أداء طقوس معينة تلزم بها دولة وثنية، ورفض جماعة "شهود يهوة" لأداء تحية العلم. ومن الأمثلة الأخرى: نفور السلميين من الخدمة في القوات المسلحة، أو مطالبة الجندي بطاعة أمر يعتقد أنه مناقض بكل وضوح لأخلاقيات الحرب. أو، كما في حالة "ثورو"، رفض دفع الضريبة على أساس أنها ستجعله أداة للأذى البالغ على الآخرين)
[Ibid., p.324].

على أية حال، لعلك لاحظت أن رجال القانون والسياسة في النظام الديمقراطي يقسّمون القانون الصادر عن مؤسسة ديمقراطية إلى: قانون عادل وقانون غير عادل، فأما القانون العادل فلا إشكال في طاعته والامتثال له، كما يقول رولز (إنه من الواضح جداً أنه ليس ثمة أي صعوبة في تفسير: لماذا يتوجب علينا طاعة القوانين العادلة؟)[ibid, p.308].

ولكن الإشكال كان في طاعة "القانون غير العادل" كما يكمل رولز بقوله (السؤال الحقيقي هاهنا هو: تحت أي ظروف، وإلى أي مدى، نحن ملزمون بطاعة تنظيمات "غير عادلة"؟).

وسبق نقل موقف كثير من المنظّرين الغربيين في النظم الديمقراطية ذوي الوزن المعتبر في فلسفة التشريع والسياسة، وهم يقررون بكل وضوح وجوب طاعة القانون غير العادل، بتفصيلات وقيود سبقت.

ومن المهم هاهنا أن نتنبّه إلى أن فرض طاعة القانون غير العادل لم تنشأ بمجرد تقرير هؤلاء المنظّرين، فهؤلاء مجرد مفسرين للواقع، ولا يملك لا رولز ولا هارت ولا فينيس ولا أضرابهم أن يلزم المجتمع بأي مبدأ قانوني، أي أن هذه الآراء التي نقلناها عنهم هي في جوهرها مجرد عقلنة قانونية وتنظير سياسي للواقع القانوني/السياسي في النظام الديمقراطي، فهم رأو المؤسسات الديمقراطية الغربية لا تقبل البتة عصيان قانون صادر من مؤسسة مخولة بحجة أنه قانون غير عادل، وهؤلاء المنظّرين في جوهر عملهم يقدمون تفسيرات وتعليلات للواقع القانوني والسياسي بغية تقديم أفضل أساس وهيكل نظري له.

لا بأس، سنعود لعقد مقارنات أخرى بعد استعراض موقف النظام الديمقراطي من فكرة "الخروج على السلطة".
 

ثانياً: حق الدولة في قمع التمرد والخروج في النظام الديمقراطي


الخروج على السلطة –كما يتداوله الناس اليوم- هو رفع السلاح في مواجهتها إما للاحتجاج على وضع قائم يرونه غير مشروع أو للاستيلاء على السلطة أو نحو ذلك.

وقد فوّض الدستور الأمريكي الدولة باقتراض الديون لأجل قمع المتمرد على السلطة (suppressing Insurrections)، وأنه لا يجوز الاعتراض على ديونها هذه، كما ينص على ذلك الدستور الأمريكي في التعديل الرابع عشر:
(لا يجوز الطعن في صحة دين عام على الولايات المتحدة أجازه القانون، بما في ذلك الديون الناشئة عن دفع معاشات ومكافآت عن خدمات قدمت لقمع تمرد أو عصيان).
[US. Const. amend. XIV, §4]

واعتنى الدستورُ الأمريكيُ بسلخ الخارجيّ المتمرد من كل حقوقه السياسية وحقوق العمل الحكومي، كما ينص الدستور الأمريكي:
(لا يجوز لأي شخص أن يصبح شيخاً أو نائباً في الكونغرس، أو ناخباً للرئيس، أو أن يشغل أي منصب، مدنياً كان أو عسكرياً، تابعاً للولايات المتحدة أو تابعاً لأية ولاية، إذا سبق له أن أقسم اليمين كعضو في الكونغرس، أو كموظف لدى الولايات المتحدة كعضو في مجلس تشريعي لأية ولاية، أو كموظف تنفيذي أو عدلي في أية ولاية، بتأييد دستور الولايات المتحدة، واشترك بعد ذلك في أي تمرد أو عصيان ضدها). [US. Const. amend. XIV, §3].

وبناءً على هذه المادة الدستورية تم حرمان جيفرسون ديفيس من تولي المنصب الفدرالي لمشاركته في تمرد 1861م، كما سيأتي الإشارة إليه.

ولا يتم إعادة اعتبار هذا الخارجي المتمرد لوضعه الطبيعي في الحصول على حقوقه إلا بموافقة ثلثي أعضاء الكونجرس.

وتم تفويض الكونجرس بوضع أحكام "قمع التمرد" (suppressing Insurrections) كما في المادة الأولى من الدستور الأمريكي: (وضع أحكام دعوة المليشيا إلى تنفيذ قوانين الاتحاد، وقمع التمرد، وصد الغزو)
[ U.S. Const. art. I, §8].

ولكن المبدأ القانوني الفيدرالي الذي فوض الرئيس بقمع التمرد تم تأسيسه قانونياً على المادة الدستورية التي تجعل من التزامات الرئيس "واجب مراعاة تنفيذ القانون"[US. Const. art.II §3 ]، حيث نص القانون الفيدرالي على أن للرئيس "حق استخدام القوات المسلحة كلما رأى ذلك ضرورياً لفرض النظام وقمع التمرد"[10 U.S. Code § 332].

ولذلك فإنه في عهد الرئيس الأمريكي "جورج واشنطن" حين وقع تمرد الفلاحين في ولاية بنسلفانيا على الضرائب التي اقترحها وزير الخزينة ألكساندر هاملتون، وهو تمرد شهير في التاريخ القانوني الأمريكي يسمى (Whiskey Rebellion)، استخدم الرئيس "جورج واشنطن" هذه الجملة من الدستور في الاحتجاج بمشروعية قمع التمرد، وحرك ميليشيا قوامها (13,000) جندي، حيث قال في رسالته إلى الوزير هاملتون "إن واجبي في رعاية تنفيذ القوانين لا يجيز تركهم يمرغونها ويفلتون من العقوبة"
[Sparks J., The Writings of George Washington,1836, vol.x, p.292].

وفي عهد الرئيس الأمريكي "جون تايلور" حين وقع "تمرد توماس دور" (Dorr Rebellion) في ولاية رود آيلاند، وتضمن التمرد حينذاك المطالبة بتوسيع المشاركة الديمقراطية وإصلاح النظام الانتخابي، وكان من ضمن مطالبهم إزالة الشرط العقاري لحق الانتخاب الذي يقصره على ملاك الأرض، وكانوا يقولون أن أي شخص يقيم في أمريكا لمدة سنة فيحق له الانتخاب، ويطالبون بإعطاء الوزن المتساوي للمدن بغض النظر عن عدد سكانها، وقاد التمرد المحامي الإصلاحي "توماس دور"، فأعلن حاكم الولاية حالة الأحكام العرفية، وطلب المجلس التشريعي للولاية نشر قوات فدرالية لقمع التجمع اللاقانوني (lawless assemblages)، وأُعلِن عن مكافأة مالية للقبض على "دور"، وأدين قضائياً بتهمة الخيانة، وصدر بحقه حكم بالسجن الانفرادي مدى الحياة مع الأشغال الشاقة، ثم أُفرِج عنه لاحقاً لأسباب صحية، وبرغم المصير البائس الذي تعرض له دور إلا أنه كان مؤمناً بعدالة تمرده، ونقل عنه المؤرخ الأمريكي د.شابوت، وهو متخصص في السيرة الذاتية لدور، كيف يؤمن بهذه المسائل الديمقراطية كعقيدة وكيف يعتبر الحزب الديمقراطي كنيسته!

[Chaput E., The People's Martyr: Thomas Wilson Dorr and His 1842 Rhode Island Rebellion, University Press of Kansas, 2013, p.208]

وللدكتور شابوت، بالمناسبة، محاضرة مسجلة –أيضاً- عن "تمرد توماس دور"، وكيف تم قمعه.

وفي عهد الرئيس أبراهام لينكولن،
وفور إعلان فوزه، أعلنت سبع ولايات أمريكية الانفصال عن الولايات المتحدة، وتكوين دولة جديدة، عاصمتها مونتغمري، وصاغوا دستوراً جديداً خاصاً بهم، وعينوا أول رئيس خاص بهم وهو (جيفرسون ديفيس)، واستمر رئيساً طوال السنوات الأربع التي بقي فيها الانفصال، فأعلن الرئيس الأمريكي لينكولن الحرب عليهم، على أساس أن الدستور الأمريكي يخوّله قمع الانفصال والتمرد، وشكّل جيشاً من الولايات المتبقية، وقُتِل في هذه الحرب أكثر من نصف مليون أمريكي، واستعاد أخيراً خضوع الولايات السبع المنفصلة لدولة الولايات المتحدة الأمريكية، وأعادها إلى بيت الطاعة.

وفي عهد الرئيس جورج بوش الأب،
وفي العام 1992م، وقع تمرد "روندي كينج" في ولاية كاليفورنيا، وتم قمعه بعدة أجهزة أمنية من ضمنها المارينز، حيث انتشر مقطع فيديو حينذاك وفيه ضابط أبيض يَضرِب ويُهين أمريكياً من أصول أفريقية، ثم صدر قرار بتبرئة الضابط، وفور صدور القرار اندلع التمرد والغضب والاحتجاج في لوس أنجلوس وماوالاها، وكانت الوقائع وتطوراتها حديث الصحافة المكثف حينها، ويذكر أصحاب موسوعة الشغب العرقي الأمريكي في تفصيلهم للقصة أنه اعتقل فيها أكثر من عشرة آلاف شخص.

[Rucker W. & Upton J., Encyclopedia of American Race Riots, Greenwood Publishing Group, 2007, vol.1, p.376]

حسناً، هذه نماذج منتخبة لموقف النظام الديمقراطي الأمريكي من الخوارج والمتمردين، من حيث أسسه القانونية، ووممارساته الفعلية، وفي "تاريخ الديمقراطية الغربية" نماذج أخرى أيضاً، وليس المراد الاستقصاء، بل المراد التمثيل فقط.

ومن اللافت أن كثيراً من حركات التمرد في تاريخ الديمقراطية التي قُمِعت في حينها، وتم تأسيس قمعها بالقانون الديمقراطي نفسه، نجد أنه لاحقاً وقع إقرار تشريعات تمثل مطالب تلك الحركات التمردية تماماً، فلا يمكن أن يقال أن مطالب تلك الحركات التمردية والخارجية كانت غير مشروعة حينها، لأنه وقع الاعتراف بما يطابق أو يقارب ذات مطالبها لاحقاً بعد تطور التفكير القانوني والسياسي، كما أنه لا يمكن إنكار أنها قُمِعت بالمؤسسات الديمقراطية ذاتها، لأن هذا ما وقع تاريخياً، فلم يبق إلا أن يقال أنها حركات تمرد وثورة ذات مطالب شرعية وقُمعت بالوسائل الديمقراطية ذاتها، وهذا موضع إشكال يحتاج لتأمل ودراسة، وسننتقل الآن إلى مداولة بعض التحليلات.


ثالثاً: مقارنات واستنتاجات


1- المقارنة بين مبدأ طاعة القانون غير العادل ومبدأ الطاعة في المعروف:

حين نتذكر تقسيم المنظّرين الغربيين في النظام الديمقراطي القانون إلى قانون عادل وغير عادل، وإيجابهم طاعة النوعين، بتفصيلات وقيود سبق ذكرها، فإن هذا لابد أن يستدعي للذهن تقسيم السياسة الشرعية أوامر السلطة إلى أمر بمعروف وأمر بمنكر.

فالذي نلاحظه في كامل (التراث السياسي الإسلامي) أن الفقهاء بالإجماع اتخذوا موقفاً مخالفاً لهذا المبدأ في النظام الديمقراطي، فالفقهاء مجمعون على أن أوامر السلطة التي تتضمن ظلماً لا يجوز طاعتها، ولا يطاع إلا الأمر بالعدل.

كما قال أبو جعفر الطبري (الأخبار الواردة بالسمع والطاعة لهم ما لم يكن خلافا لأمر الله وأمر رسوله، فإذا كان خلافا لذلك فغير جائز لأحد أن يطيع أحدا فى معصية الله ومعصية رسوله، وبنحو ذلك قال عامة السلف)[شرح ابن بطال8/214]

وقال ابن عبد البر (أجمع العلماء على أن من أمر بمنكر لا تلزم طاعته)[التمهيد:23/277]

ومثل هذه الإجماعات كثيرة جداً، وهي مسألة بدهية لا حاجة للاستكثار من برهنتها، والأساس العلمي الذي ولّد هذا الإجماع هو النصوص التي يبلغ القدر المشترك فيها حد التواتر المعنوي القطعي الذي لا يتصور فيه خلاف، ومن هذه النصوص على سبيل المثال: قوله صلى الله عليه وسلم (لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف)[البخاري:7257]، وقوله (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة)[مسلم:1839]، والنصوص في هذا المعنى كثيرة.

ومن المعلوم أن العدل كله من الشرع، والظلم كله مخالف للشرع، كما قال الإمام ابن تيمية (كل ما نهى الله عنه راجع إلى الظلم، وكل ما أمر به راجع إلى العدل)[الفتاوى:18/157].
وهذه القاعدة التي أجمع عليها الفقهاء في التراث السياسي الإسلامي، في عدم طاعة الظلم، تشمل النظام الشوري، والنظام غير الشوري.

والمراد أن الذي نستنجه من هذه المقارنة أن النظام الديمقراطي أكثر محافظة سياسية في موضوع الطاعة، حيث يميل إلى إيجاب طاعة العدل والظلم، كليهما، طالما أن الأمر صادر من مؤسسة ديمقراطية، بينما السياسة الشرعية والتراث السياسي الإسلامي تبدو أكثر تحرراً واستقلالاً في موضوع الطاعة، فلا يجيز الفقهاء بإجماعهم إلا طاعة العدل، وأما الظلم فلا يجوز طاعته بحال.

ويتضح لي –أيضاً- أن هذا المفهوم في التراث السياسي الإسلامي وهو مبدأ "الطاعة في المعروف" يربي في نفس الفرد شموخاً وحصانة ذاتية، ويشعر أن هناك مبدأً عدلياً فوق الجميع يجب أن تخضع له الدولة وإلا فقدت أوامرها الشرعية، بينما في النظام الديمقراطي الذي يوجب طاعة القانون العادل وغير العادل فإن الفرد يشعر أنه مكبل وراضخ، وتربّي فيه التبعية لقوانين قد يكون في غاية القناعة أنها مجانبة للعدل والفطرة، وهذا فيما يبدو هو المعنى الذي أشار له نقاد المدرسة الوضعية:

(المدرسة الوضعية القانونية هوجمت باعتبارها تتسبب في جعل رجال القانون منصاعون جداً للحكومة بما يجعلهم في غاية الاستعداد لطاعة حتى القوانين غير العادلة)

[Golding M. & Edmunson W.(eds), Philosophy of Law and Legal Theory, Blackwell Publishing, 2005, p.31 ].


2- المقارنة بين الخروجَين في الديمقراطية والسياسة الشرعية:

كنا لاحظنا في المحور الثاني لهذه الورقة كيف أسس النظام الديمقراطي الأمريكي لقمع المتمردين والخوارج، في الدستور، وفي القانون الفدرالي، وكيف تعامل الرؤساء الأمريكيون فعلاً خلال التاريخ مع كل حركات التمرد والخروج عن سلطة الدولة.

وحين تأملت الفرق بين الخروج في النظام الديمقراطي، والخروج في السياسة الشرعية، تبيّن لي أن كلا النظامين يتفقان في وجود حالات يمنع فيها الخروج على الدولة، وحالات يسوغ فيها الخروج، فليس الاختلاف بين النظامين في أصل وجود المشروعية والمنع، وإنما الخلاف في الأسباب المسوّغة للخروج:

ففي النظام الديمقراطي لا يسوغ الخروج إلا بوجود ظلم "مادي" شنيع لا يمكن تغييره بالطرق الديمقراطية فتشرع حينذاك الثورة، وأما وجود أبشع أنواع الكفر والفواحش فإن هذا لا يجيز البتة الثورة على الديمقراطية، بل لا يجيز معصية قوانين الدولة الديمقراطية حينذاك.

وأما في النصوص الشرعية فلا يجوز الخروج على الدولة إلا في حالة واحدة هي حالة "الكفر البواح"، والكفر هو ارتكاب ناقض من نواقض الإسلام، والبواح قيد أخص من مطلق الكفر، يشمل أمرين: البواح في أصل الناقض بأن لا يكون من الصور التي يدخلها الاجتهاد في الحكم بكفرها أو عدمه، والبواح في ظهوره للناس بأن لا يكون ناقضاً تتستر به السلطة.

وأما وقوع السلطة في الظلم المادي في معايش الناس، فهذا لا يسوّغ "شريعة المنابذة بالسلاح" ولكن يجب معه شريعة أخرى، وهو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وجعل الشارع التضحية في هذا المجال يوجب شرف السيادة في الشهادة، وهو معنى أخص من مطلق الشهادة.

ومع ذلك كله فهناك أمر آخر لاحظته، وهو أن الاتجاهات الديمقراطية كثيرة الذم لرفع السلاح في التغيير، وكثيرة المدح للتغيير السلمي والسلمية، بينما في السياسة الشرعية فرفع السلاح للتغيير في حالة الكفر البواح أمر مشروع بكل وضوح، وليس مذموماً، وهو مفهوم "المنابذة بالسيف" الوارد في صحيح مسلم [1855] وله شروط مذكورة في كتب الفقه ليس هذا موضع بسطها.

وإذا قارنّا نفرة الاتجاهات الديمقراطية من التغيير المسلّح، في مقابل موقف الشريعة الواضح من التغيير المسلح في حالة الكفر البواح، فإنه يتضح لي أن السياسة الشرعية أكثر ترحيباً بالمحتوى الثوري من النظام الديمقراطي.

ومن الشواهد التي يمكن أن نلمسها في الواقع، ويمكن أن تكون قرينة تعزز هذه النتيجة، أنك تلاحظ أن الاتجاهات الجهادية التي تستحضر نصوص المنابذة بالسيف عند الكفر البواح، تزدري اتجاهات الديمقراطية في قولهم بالتغيير السلمي، وترى أن هذه الاتجاهات الديمقراطية اتجاهات خنوع وتكريس لسلطة الطواغيت.

3- تفسير اختلاف النتائج:

لعلك لاحظت أنني خلصت في التحليلات السابقة إلى استنتاجين: النتيجة الأولى: أنه في موضوع "الطاعة" فالنظام الديمقراطي يبدو أكثر محافظة سياسية من التراث السياسي الإسلامي، وفي موضوع "الخروج المسلح" يبدو التراث السياسي الإسلامي أكثر ترحيباً بالمحتوى الثوري من النظام الديمقراطي.

وهاتان النتيجتان فيما أظن يخالفان ما يطرحه كثير من المشاركين في هذه الموضوعات، فما سبب اختلاف النتائج؟

أرى أن عدم الدقة في النتائج الشائعة في هاتين المسألتين يعود لأمرين: الخلل في تعادل أساس المقارنة، ونقص التصور عن فلسفة التشريع في الفكر الغربي.

فأما الخلل في أساس المقارنة فإن من يريد المقارنة بين النظام الديمقراطي والسياسة الشرعية مخيّر بين مسارين: إما أن يقارن النظرية بالنظرية، أو يقارن التطبيق بالتطبيق، أعني أن يقارن النظرية الديمقراطية كما هي في دساتيرها وتنظيراتها، بالقواعد العلمية للسياسة الشرعية كما هي في مصادرها التقعيدية الأصيلة، أو أن يقارن التطبيق بالتطبيق، فيقارن الواقع التاريخي للديمقراطية في الدول الغربية، بالواقع التاريخي للسياسة الشرعية كما هي في واقع الخلفاء الراشدين، فمن قارن مراعياً هذه القواعد المنهجية خرج بنتائج علمية.

لكن الحقيقة أن كثيراً من المشاركين في هذه الموضوعات يقارن بطريقة فيها انتخاب تحكّمي ينتج صوراً مغلوطة، حيث يلتقط أكثر المواضع عدلاً في النظرية الديمقراطية المعاصرة، ويقارنها بأكلح الصور التعيسة في النظم العربية الفاسدة اليوم، ثم يوحي بنسبة النتيجة إلى السياسة الشرعية ونتاج الموروث السياسي الإسلامي، وهذه عملية مزيفة بالكامل، سواءً كان الشخص يمارسها بوعي أو بغير وعي.

فالنماذج المنتخبة في المقارنات تتلاعب بالنتائج، والواجب -كما سبق- المقارنة بين نظام ونظام في مستواهما النظري، أو نظام ونظام في مستواهما التطبيقي، ولا يوجد أي مبرر لجعل النظم العربية المظلمة اليوم ممثلاً للسياسة الشرعية، ثم تقارن بالثقوب المضيئة في النظرية الديمقراطية، فهذا إجراء غير معرفي، بل هو غالباً لأغراض تعبوية تتعلق بالمناكدات التياريّة.

وأما العامل الثاني للنتائج المغلوطة في المقارنة بين الديمقراطية والسياسة الشرعية فهو: نقص التصور حول فلسفة القانون في الفكر الغربي، فكثير ممن يناقش في قضايا القانون والسياسة يكون تكوينه الفكري الأساس من خلال ما يراه أو يسمعه في المحطات الفضائية والحوارات الشبكية، ولم تتوفر له فرصة الاطلاع المنظم على الأعمال المتخصصة في فلسفة التشريع والقانون الدستوري والفلسفة السياسية ونحوها، أو قد يكون اطلع على أعمال "تاريخية" لا "موضوعية"، أي عن تاريخ الفكر السياسي، لا نصوصاً أصليةً تناقش هذه القضايا ومحاججاتها موضوعياً، والواقع أن كتب التاريخ الثقافي تعطي القارئ دليل سائح عن الأرض لا معول فلاح فيها.

ثم مع كثرة سماعه وإلفه للدعاوى المغلوطة حول السياسة الشرعية والتراث السياسي الإسلامي تتحول عنده لبدهيات برغم كونها غير مفحوصة أصلاً، وما أكثر ما تعده الأذهان حقائق لا بسبب تواطؤ المعلومات، ولكن بسبب كثرة الطرق..

بقيت هناك موضوعات تستحق المعالجة، ومنها: إشكالية "قانونية" العصيان المدني، ومفهوم الإرهاب الثوري، وعلاقة القوة بنجاعة النظرية السياسية العادلة وامتناعها على التوظيف، ونحوها، ولكن الورقة طالت على القارئ، فلذلك لعله يكون للحديث صلة بإذن الله، وأسأل الله أن يهيّء لأمتنا نظماً سياسية شرعية ترفع هذه المظالم الخانقة في العقائد والأخلاق والمعايش..

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه

أبو عمر
العاشر من شعبان 1435هـ
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
إبراهيم السكران
  • كتب ورسائل
  • مقالات
  • مراجعة كتب
  • الصفحة الرئيسية