اطبع هذه الصفحة


يا عزيزي كلنا من طين

طارق حسن السقا


أكبر خطأ نقع فيه - أنا وأنت - هو أن نخلع الجانب البشري عن حياة غيرنا من البشر, خاصة أولئك الذين ينتمون للحركات الإسلامية, و يتخذون من الدين مرجعية أساسية في حياتهم , حتى ولو كان هؤلاء من كبار رجال الدين , أو من كبار كبار الدعاة إلى الله , أو من كبار كبار كبار المتصدرين للعمل الدعوي في بلادنا .

والحقيقة التي لا مراء فيها أن كل عباد الله في أرض الله هم محل للخطأ والخطيئة, و لا يوجد من الناس من هو معصوم من ذنب أو خطأ, أو تقصير أو نسيان. بل الخطأ الكبير هو أن نصنع من هؤلاء الإسلاميين- كما يصفهم البعض - ملائكة, أو نضعهم فوق هذا التصور الواقعي, أو نخلع عنهم الجانب البشري في أي من جوانب حياتهم.

سؤال

هذا يجُرُنا إلي أن نطرح سؤالاً اعتقد أنه من المناسب طرحه والبحث له عن إجابات, فالأسئلة الجيدة تخلق حياة جيدة. السؤال هو:
• ما هو دور الدين في حياتنا نحن البشر إسلاميين وغير إسلاميين؟
الحقيقة أن الله عز وجل خلقنا من نفخة علوية وأخرى طينية. هذا الجانب الطيني عندنا هو مجموع ما نتمتع به من غرائز, وشهوات, وطباع, وطموحات, ورغبات, وحب, وبغض ..... الخ. وجاء القرآن الكريم بتوازن وواقعية يبين لنا أن هذه الشهوات والغرائز جزء أصيل من تكويننا و لا حاجة إلى إنكارها، ولا إلى استنكارها . وفي الوقت نفسه جاء القرآن الكريم يبين لنا ويدعونا إلى معرفة طبيعة هذه الشهوات وبواعث هذه الغرائز, ولم يقف عند هذا الحد, ولكنه طلب من المسلم أن يضع هذه الغرائز والشهوات في مكانها الطبيعي في غير استغراق ولا إغراق كما يقول صاحب الظلال رحمه الله . وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعية, غير أنه يعمل على تهذيبها والسمو بها , لا كبتها وقمعها والهبوط بها.

ما بين الترويض والتهذيب

فالدين – كما يقول الدكتور مصطفي السباعي - لا يمحو الغرائز عند بني البشر ولكنه يروِّضها ، وكذلك التربية لا تغيِّر الطباع البشرية ولكنها فقط تهذِّبها. ومن هذه الحقيقة العميقة يجب أن تكون نظرتنا للناس عامة – وللإسلاميين خاصة - من حولنا أيا كانت المكانة أو المكان الذي يتبوؤنه. فمن الخطأ إذا النظر إلي أي من البشر بتلك النظرة الملائكية, فكل عباد الله من حولك هم كائنات بشرية صرفة لا ينخلعوا البتة عن بشريتهم بغرائزها المعهودة وطبعاها المعروفة. ويظل الجميع على هذه الحالة البشرية مهما تمكن الدين من قلوبهم, ومهما تعرضوا لجرعات تربوية في حياتهم .

إفراز طبيعي

والحقيقة إن العثرات أو الأخطاء أو السلوكيات الحادة التي تصدر منا – إسلاميين وغير إسلاميين - هي إفراز طبيعي لمساحة الجانب الطيني في تكويننا . لكن الغير طبيعي هو أن نبالغ في الحكم على الأفراد بالسلب أو الإيجاب, فلا يصح أن نخرج البعض عن بشريتهم ونضعهم في مصاف الملائكة, أو على النقيض نهيل عليهم التراب ونضعهم في مرتبة الكفرة الفجرة. ففي كلتا الحالتين لا يصح أن نخلع عن الإنسان بشريته مهما بدَر منه وصدر.

إنك امرؤ فيك جاهلية

ودعونا نسترجع سريعاً عند يومين من أيامنا الخوالي, علنا نجد في هذه الوقفة ما يعمق البعد الذي أردنا التركيز عليه. فأرجو أن تتذكر ذلك اليوم الذي فيه عَير أبو ذر - رضي الله عنه - رجلاً بأمه فلما علم النبي- صلى الله عليه و سلم - قال لأبي ذر :" أعيرته بأمه, إنك امرؤ فيك جاهلية ". فدل ذلك على أن الرجل– أي رجل - مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض هذه الخصال( الغير طيبة ) المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية , وفي الوقت نفسه لا يوجب هذا ذكر كفره وفسقه كما قال ابن تيمية رحمه الله .

إفشاء سر عسكري

وأرجو أن تسترجع ذلك اليوم الذي فيه اختار رسول - صلى الله عليه وسلم- حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه وأرضاه- ليحضر مجلساً عسكرياً استشارياً أعلى للإعداد لخطة عسكرية لفتح مكة. و معلوم أن مثل هذه المهام لا يشارك فيها إلا أهل الثقة من الصفوة, ومع ذلك خرج حاطب بن أبي بلتعة من غرفة عمليات الجيش المسلم, ليكتب للعدو كتاباً ينقل فيه أخبار المسلمين وأسرارهم العسكرية, وينبئهم بتجهيزات رسول الله لفتح مكة. فهاج وماج من رأى الخطأ حتى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي نظر إلى العثرة بحسه الحاسم, وإيمانه الجازم- قال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. ولكن القيادة كانت هادئة واعية, لم تتأثر بثورة الرأي العام المصدوم من شناعة العثرة ولم يخرجها حجم الخطأ عن وقارها وحكمتها, ولم ينسها الحدث دورها ووظيفتها لاسيما عند الأزمات فوضع العثرة في إطارها الطبيعي . فهو أكثر الناس علماً بطبيعة النفس البشرية, وهو أكثرهم إحاطة بها من جميع جوانبها. فلقد تعامل - صلى الله عليه وسلم- مع الموقف وهو يعلم أن مساحة الجانب الطيني بافرازاته في حياتنا قد تتفاوت من فرد إلى فرد, ولكنها تبقى القاسم المشترك عند جميع البشر حكاماً ومحكومين, دعاة ومدعوين, قادة وجنود, مسئولين وغير مسئولين.

استثمار الأخطاء

وبالتالي فليس المهم التوقف كثيراً عند مرحلة وقوع الأخطاء- فهي واقعة لا محالة - ولكن الأهم هو التوقف أكثر وأكثر عند مرحلة استثمار الأخطاء والاستفادة منها . فلقد مارست القيادة في طريق استثمارها للعثرة مع حاطب دوراً أصيلاً من أدوارها الأساسية ألا وهو: احتضان المخطئ, وعدم تركه لنفسه ولا لهواه ولا لشياطينه, والأخذ بيده , ومساعدته في النهوض من عَثرتِهِ, وعدم مطاردته بها , أو السماح لأحد بمطاردته بها. وهذا ما لا يجب أن يغيب عن أذهاننا .

ونحن أيضا

لقد كانت القيادة تدرك – ونحن أيضا لابد وأن ندرك - أن النفس البشرية لابد وأن تتعرض للحظات من الضعف البشري, وقد تصاب ببعض من منحنيات النفس البشرية العجيبة مهما بلغ من كمالها و قوتها, فلا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها . لذلك عند وقوع الأخطاء أو حدوث العثرات يجب أن نتذكر جميعا - قادة وجنود ورأي عام - أن من هم أشرف منا وأفضل عند الله أدركتهم لحظة ضعف بشرية طارئة وهم من القلة المختارة والصفوة المستشارة. ولكن تبقى مرحلة استثمار العثرات والهفوات والأخطاء كواجب من واجبات القيادة الحكيمة في كل زمان ومكان .


طارق حسن السقا
alsaqa22@hotmail.com

 

طارق السقا
  • الفرد المسلم
  • الأسرة المسلمة
  • المجتمع المسلم
  • الحكومة المسلمة
  • أستاذية العالم
  • أعداء الأمة
  • الصفحة الرئيسية