اطبع هذه الصفحة


والعافين عن الناس

محمد بن عبدالله الشمراني


 العفو :

هو كما قال الخليل :(تركُ إنسانٍ استوجب عقوبةً فعفوتَ عنه) وقال الجوهري :يقال:{عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه } وقل الكفوي : {هو كف الضر مع ألقدرة عليه وكل من يستحق عقوبة فتركها فهذا الترك عفو } نظرة النعيم 7/2890 - 2891

وهو من صفات عباد الله المتقين:

هذا الخلق العظيم ذكره الله سبحانه وتعالى في سياق ذكر صفات عباده المتقين فقال:{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدة للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )آل عمران 133ــ134

الثواب المترتب عليه:

• قال تعالى :{وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله انه لا يحب الظالمين } الشورى 40 وهذا من أبلغ الجزاء حيث قال تعالى فأجره على الله فتُِرك الجزاءُ لكرمه سبحانه وتعالى ومن أكرم من الله جل في علاه نسأل الله من فضله. وقال تعالى: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} [التغابن:14].
وقال تعالى: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}[النور: 22] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنْفِذَهُ دعاه الله -عز وجل- على رُءُوس الخلائق حتى يخيِّره الله من الحور ماشاء). [أبو داود والترمذي وابن ماجه].

وهو سبب للعز والرفعة في الدنيا والآخرة:

ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله ) [مسلم 2588]
فالعفو صفة من صفات رب العالمين وهو من صفات الأنبياء والمرسلين و عباد الله الصالحين من الصحابة والتابعين والعلماء الربانيين ومن نهج نهجهم وسار على طريقهم إلى يوم الدين ..

وإليك بيان ذلك:

1- ربّ العزة سبحانه وتعالى:
قال ابن الأثير :{من أسماء الله تعالى {العفو} وقال الغزالي :فالعفو صفة من صفات الله تعالى }
نضرة النعيم 7/2891
وفي صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال :قال النبي صلى الله عليه وسلم :{ما أحد اصبر على أذى سمعه من الله يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم }
البخاري ـ الفتح 13[7378] مسلم [2804] واللفظ له
وكان من الدعاء الذي أرشد اليه النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عني) فعن ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال قولي :[اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني ]
رواه الترمذي[3513 ] وقال هذا حديث حسن صحيح قال الشيخ الألباني : صحيح

2- يعقوب ويوسف عليهما السلام:

فالعفو خلق نبوي كريم كما أسلفنا فهذا يعقوب عليه السلام رغم ما فعله أبنائه به من التحايل عليه وحرمانه ممن تعلق قلبه به وأحبه أشد ما يحب أبٌ ابنه ، فلم يتوعدهم بالقتل أو الضرب أوالويل والثبور ، ولم يقاطعهم أو يقسم أن لا يكلمهم ما داموا على قيد الحياة !!
أبدا لم يفعل شيئاً من ذلك ولا أقل منه وإنما قال : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}
ثم جاءوا إلى أبيهم : {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف : 97] فما كان جوابه إلا أن : {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف : 98] ويوسف عليه السلام ورغم ما عاناه بسبب هذا الفعل من أخوته وبعد أن آثره الله عليهم ما كان منه إلا أن قال:(لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) سبحان الله ليس عفو فحسب ولكن دعاء أن يغفر الله لهم ويتجاوز عنهم.، ففعل كما فعل أبوه من قبل ! وهكذا تكون القلوب الزكية !! ولك أن تتصور هذه القلوب الرحيمة إذا كانت بهذه المثابة مع من ظلمها وآذاها وجرحها !!! فكيف سيكون حالها مع الأخرين !!!!!!

3- محمد صلى الله عليه وسلم :

وقد ضرب نبينا أروع الأمثلة في هذا الباب فيتجلى عفو الرسول صلى الله عليه وسلم حينما ذهب إلى الطائف ليدعو أهلها إلى الإسلام، ولكن أهلها رفضوا دعوته، وسلَّطوا عليه صبيانهم وعبيدهم وسفهاءهم يؤذونه صلى الله عليه وسلم هو ورفيقه زيد بن حارثة، ويقذفونهما بالحجارة حتى سال الدم من قدم النبي صلى الله عليه وسلم. فنزل جبريل -عليه السلام- ومعه ملك الجبال، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في هدم الجبال على هؤلاء المشركين، لكن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنهم، وقال لملك الجبال: (لا بل أرجو أن يُخْرِجُ الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئًا) [متفق عليه].
ومع ما فعل قومه به من الأذى والتشريد ومحاولة القتل والحروب المتعددة فقد مكنه الله تعالى منهم يوم الفتح الأكبر فدخل الكعبة وتجول في نواحيها وكبر وصلى ركعتين ثم خرج وقد احتشدت قريش في المسجد الحرام تنتظر الأمر منه صلى الله عليه وسلم وتترقب نزول العقاب ! فاخذ بعضدتي الباب وقام فخطب خطبة بليغة بيّن فيها كثيراً من الأحكام ثم قال : يا معشر قريش ماذا ترون إني فاعل بكم قالوا : خيرا أخٌ كريم وابن أخٍ كريم قال :( لا تثريب عليكم اذهبوا فأنتم الطلقاء ) لا إله إلا الله أي قلب أنقى وأطهر من هذا القلب صلوات ربي وسلامه عليه .

وتعال إلى موقفه صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي رأس المنافقين الذي قال في حق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المهاجرين في غزوة المريسيع عند المشلل: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول: سمِّنْ كلبك يَأكُلك، يقول هذا في حق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويقول أيضاً ظاناً أن خزائن السماوات والأرض بيده: {لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} [سورة المنافقون: 7] يقول أنتم الذين آويتموهم وأطعمتموهم فلا تنفقوا عليهم من أجل أن يتفرقوا عن بلادكم عن مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويبحثوا عن بلد آخر تؤويهم، ثم قذف النبي صلى الله عليه في عرضه في قصة الأفك ولم يترك سبلا في أذية الرسول صلى الله عليه إلا سلكه، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، لما مات ذهب إلى قبره، وأعطى ابنه قميصه -صلى الله عليه وسلم- ليكفن به، وقام على قبره يستغفر له حتى نهاه الله -عز وجل- عن ذلك، ولما نهاه الله بقوله: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ} يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر لهم لفعلت)) أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-، هذا في رجل لطالما آذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآذى المؤمنين، فهو الذي أفَك الإفك وسعى به، وتولى كبره، واتهم عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبشع تهمة، وقال أقبح القول، ومع ذلك يعفو عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ويصلي عليه، ويدفع قميصه لابنه ليكفن به، ثم يقوم على قبره يستغفر له، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم حاله، وهذا لا يفعله إلا القلوب الرحيمة الكبيرة الواسعة، وليس معنى ذلك تمييع قضية الولاء والبراء فهي أصلٌ ثابت كما ذكرت في أول هذا الكلام، لكن ينبغي أن نفرق بين أمرين بين شأن الولاء والبراء وبين حظ النفس، فالولاء والبراء ثابت في القلب، وأما النفس فدعها خلف ظهرك ولا تنتصر لها ولا تقف عندها؛ فالكبار لا يليق بهم أن يدوروا حول أنفسهم..
من محاضرة قيمة للدكتور خالد السبت بعنوان اخلاق الكبار وقصة صلاته صلى الله عليه وسلم على رأس المنافقين هي في صحيح البخاري1/459الحديث رقم 1300

وموقف أبي سفيان لا يقل عجباً عن هذا الموقف! فمع ما لقيه منه من الأذى يأتي يوم الفتح إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه فيقول: اشفع لي عند رسول الله فيقول أبو بكرٍ رضي الله عنه: ما أنا بفاعل! ثم أتى عمر فأبى وشدد في الكلام ! فأتى علياً فامتنع فقال: أشر علي قال: ادخل عليه وقل تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنّا لخاطئين.. ففعل! ولما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك قال :( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) [يوسف 92]
روضة الأنوار 188

فأنشد أبو سفيان أبياتاً يقول فيها:

لعمرك إني يوم أحمل رايــــــةً --- لتغلب خيل اللات خيل محـــمد
لكلمدلج الحــيران اظــلم ليـــله --- فهذا أواني حين أهــدى فأهتدي
هدابي هادٍ غير نفســــي ونالني --- مع الله من طردت كل مطـــرد
أَصـــُدُّ وأنأى جاهداً عن محمدٍ --- وأدعى وإن لم انتسب من محمد
هــمُ ماهمُ من لم يقل بهواهـــم ُ --- وإن كان ذا رأي يُلَمْ ويفنـــــــّـد
أريد لأرضيهم ولست بلائـــطٍ --- مع القوم ما لم أُهد في كل مقعد
فقــــــل لثقيفٍ لا أريـــد قتالها --- وقل لثقيفٍ تلك غيري أو عـدي
فما كنت في الجيش الذي نال عامر --- وما كان عن جرّا لساني أو يدي
قبائــل جائت من بلاد بعيــــدة --- نزائع جائت من تهامٍ وســــردد


تهذيب سيرة ابن هشام 220

وفي البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يقول رب أغفر لقومي فأنهم لا يعلمون)
رواه البخاري (الفتح 12/6929) ، ورواه مسلم 1792

ومن مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في العفو ما رواه مسلم عن انس ابن مالك رضي الله عنه قال : (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و عليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه من خلفه جبذة حتى رأيت صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أثرت به حاشية البرد من شدة جبذته فقال يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك فالتفت إليه النبي صلى الله عليه و سلم فضحك ثم أمر له بعطاء) رواه مسلم

وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي : هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال : ((قد لقيت من قومي وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرية الثعالب فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت منهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي وقال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بما شئت فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا))
[رواه البخاري ومسلم].

وقد ذكر ابن سعد في الطبقات أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في (غزوة غطفان) أصاب رسول الله وأصحابه مطر، فنزع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثوبيه ونشرهما ليجفا وألقاهما على شجرة واضطجع، فجاء رجل من العدو يقال له دعثور بن الحارث ومعه سيف حتى قام على رأس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من يمنعك مني اليوم؟ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: الله! ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال له: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله! ثم أتى قومه فجعل يدعوهم إلى الإسلام ونزلت هذه الآية فيه:( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون)
(الآية 11من سورة المائدة) ذكرها ابن سعد في الطبقات 2/35 وأصل القصة في صحيح البخاري مختصرة باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة. الحديث رقم (2910) وفي صحيح مسلم باب توكله صلى الله عليه وسلم وعصمة الله له الحديث رقم (6090)

4- أم المؤمنين صفية رضي الله عنها.

قال بن عبد البر: روينا أن جارية لصفية أتت عمر بن الخطاب، فقالت: إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود. فبعث عمر يسألها. فقالت: أما السبت، فلم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة ; وأما اليهود، فإن لي فيهم رحما، فأنا أصلها، ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت ؟ قالت: الشيطان: قالت: فاذهبي، فأنت حرة
" الاستيعاب في معرفة الأصحاب " 13 / 65

5- عمر ابن الخطاب رضي الله عنه:

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً فقال عينه لابن أخيه يأبن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه قال سأستأذن لك عليه قال ابن عباس فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر فلما دخل عليه قال هيه يابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم به فقال له الحر يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الأعراف 199 وان هذا من الجاهلين والله ماجا وزها عمر حين تلاها عليه وكان وقافاً عند كتاب الله .
البخاري الفتح 8\4516،موسوعة نظرة النعيم 7/2907

6- أبو ذَرّ رضي الله عنه وعمر والشاب القاتل:

قال الأتليدي في كتاب أعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس : قال شرف الدين حسين بن ريان : أغرب ما سمعته من الأخبار ، وأعجب ما نقلته عن الأخيار ، ممن كان يحضر مجلس عمر بن الخطاب ، أمير المؤمنين ، ويسمع كلامه قال : بينما الإمام جالس في بعض الأيام ، وعنده أكابر الصحابة ، وأهل الرأي والإصابة ، وهو يقول في القضايا ، ويحكم بين الرعايا ، إذ أقبل شاب نظيف الأثواب ، يكتنفه شابان من أحسن الشبان ، نظيفا الثياب ، قد جذباه وسحباه وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين ، ولبباه . فلما وقفوا بين يديه ، نظر إليهما وإليه ، فأمرهما بالكف عنه . فأدنياه منه وقالا : يا أمير المؤمنين ، نحن أخوان شقيقان ، جديران باتباع الحق حقيقان . كان لنا أب شيخ كبير ، حسن التدبير ، معظم في قبائله ، منزه عن الرذائل ، معروف بفضائله ، ربانا صغاراً ، وأعزنا كباراً ، وأولانا نعماً غزاراً ، كما قيل : لنا والدٌ لو كان للناس مثله . . . أبٌ آخرٌ أغناهم بالمناقب خرج اليوم إلى حديقة له يتنزه في أشجارها ، ويقطف يانع ثمارها ، فقتله هذا الشاب ، وعدل عن طريق الصواب . ونسألك القصاص بما جناه ، والحكم فيه بما أراك الله . قال الراوي : فنظر عمر إلى الشاب وقال له : قد سمعت ، فما الجواب ؟ والغلام مع ذلك ثابت الجأش ، خال من الاستيحاش ، قد خلع ثياب الهلع ، ونزع جلباب الجزع ، فتبسم عن مثل الجمان ، وتكلم بأفصح لسان ، وحياه بكلمات حسان ثم قال : يا أمير المؤمنين ، والله لقد وعيا ما ادعيا ، وصدقا فيما نطقا وخبرا بما جرى ، وعبرا بما ترى ، وسأنهي قصتي بين يديك والأمر فيها إليك : اعلم ، يا أمير المؤمنين ، أني من العرب العرباء ، أبيت في منزل البادية ، وأصبح على أسود السنين العادية ، فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد ، فأفضت بي بعض طرائقها ، إلى المسير بين حدائقها ، بنياق حبيبات إلي ، عزيزات علي ، بينهن فحل كريم الأصل ، كثير النسل ، مليح الشكل ، حسن النتاج ، يمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج . فدنت بعض النوق إلى حديقة قد ظهر من الحائط شجرها ، فتناولته بمشفرها ، فطردتها من تلك الحديقة .
فإذا شيخ قد زمجر ، وزفر ، وتسور الحائط ، وظهر وفي يده اليمنى حجر ، يتهادى كالليث إذا خطر ، فضرب الفحل بذلك الحجر ، فقتله وأصاب مقتله . فلما رأيت الفحل قد سقط لجنبه وانقلب ، توقدت في جمرات الغضب ، فتناولت ذلك الحجر بعينه ، فضربته به ، فكان سبب حينه ، ولقي سوء منقلبه ، والمرء مقتول بما قتل به بعد أن صاح صيحة عظيمة ، وصرخ صرخة أليمة فأسرعت من مكاني فلم يكن بأسرع من هذين الشابين ، فأمسكاني وأحضراني كما تراني . فقال عمر : قد اعترفت بما اقترفت ، وتعذر الخلاص ، ووجب القصاص ، ولات حين مناص . فقال الشاب : سمعاً لما حكم به الإمام ، ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام ، لكن لي أخ صغير ، كان له أب كبير ، خصه قبل وفاته بمالٍ جزيل ، وذهب جليل ، وأحضره بين يدي ، وأسلم أمره إلي ، وأشهد الله علي ، وقال : هذا لأخيك عندك ، فاحفظه جهدك ، فاتخذت لذلك مدفناً ، ووضعته فيه ، ولا يعلم به إلا أنا ، فإن حكمت الآن بقتلي ، ذهب الذهب ، وكنت أنت السبب ، وطالبك الصغير بحقه ، يوم يقضي الله بين خلقه ، وإن أنظرتني ثلاثة أيام ، أقمت من يتولى أمر الغلام ، وعدت وافياً بالذمام ، ولي من يضمنني على هذا الكلام . فأطرق عمر ، ثم نظر إلى من حضر ، وقال : من يقوم على ضمانه والعود إلى مكانه ؟ قال : فنظر الغلام إلى وجوه أهل المجلس الناظرين ، وأشار إلى أبي ذَرّ دون الحاضرين ، وقال : هذا يكفلني ويضمنني . قال عمر : يا أبا ذر ، تضمنه على هذا الكلام ؟ قال : نعم ، أضمنه إلى ثلاثة أيام . فرضي الشابان بضمانة أبي ذرّ وأنظراه ذلك القدر . فلما انقضت مدة الإمهال وكاد وقتها يزول أو قد زال ، حضر الشابان إلى مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر ، وأبو ذرّ قد حضر والخصم ينتظر . فقالا : أين الغريم يا أبا ذرّ ؟ كيف يرجع من فر ، لا تبرح من مكاننا حتى تفي بضماننا . فقال أبو ذَرّ : وحق الملك العلام ، إن انقضى تمام الأيام ، ولم يحضر الغلام ، وفيت بالضمان وأسلمت نفسي ، وبالله المستعان .
فقال عمر : والله ، إن تأخر الغلام ، لأمضين في أبي ذرّ ، ما اقتضته شريعة الإسلام . فهمت عبرات الناظرين إليه ، وعلت زفرات الحاضرين عليه ، وعظم الضجيج وتزايد النشيج ، فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذ الدية واغتنام الأثنية ، فأصرا على عدم القبول ، وأبيا إلا الأخذ بثأر المقتول . فبينما الناس يموجون تلهفاً لما مر ، ويضجون تأسفاً على أبي ذرّ إذ أقبل الغلام ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه أتم السلام ووجهه يتهلل مشرقاً ويتكلل عرقاً وقال : قد أسلمت الصبي إلى أخواله ، وعرفتهم بخفي أمواله وأطلعتهم على مكان ماله . ثم اقتحمت هاجرات الحر ، ووفيت وفاء الحر . فعجب الناس من صدقه ووفائه ، وإقدامه على الموت واجترائه . فقال : من غدر لم يعف عنه من قدر ، ومن وفى ، رحمه الطالب وعفا ، وتحققت أن الموت إذا حضر ، لم ينج منه احتراس ، كيلا يقال : ذهب الوفاء من الناس . فقال أبو ذَرّ : والله ، يا أمير المؤمنين ، لقد ضمنت هذا الغلام ، ولم أعرفه من أي قوم ، ولا رأيته قبل ذلك اليوم . ولكن نظر إلي دون من حضر فقصدني وقال : هذا يضمنني ، فلم أستحسن رده ، وأبت المروءة أن تخيب قصده ، إذ ليس في إجابة القاصد من بأس ، كيلا يقال : ذهب الفضل من الناس . فقال الشابان عند ذلك : يا أمير المؤمنين ، قد وهبنا هذا الغلام دم أبينا ، فبدل وحشته بإيناس ، كيلا يقال : ذهب المعروف من الناس . فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وصدقه ووفائه ، واستفزر مروءة أبي ذرّ دون جلسائه ، واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف ، وأثنى عليهما أحسن ثنائه . وتمثل بهذا البيت :

من يصنع الخير لم يعدم جوائزه . . . لا يذهب العرف بين الله والناس

ثم عرض عليهما أن يصرف من بيت المال دية أبيهما . فقالا : إنما عفونا ابتغاء وجه ربنا الكريم ، ومن نيته هكذا لا يتبع إحسانه مناً ولا أذى .
من كتاب إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس للأتليدي 1/13

7- زين العابدين علي بن الحسين -رضي الله تعالى-:

ريحانة العابدين زين العابدين علي بن الحسين -رحمه الله- من أكابر التابعين، كان في مجلسه وعنده أصحابه من العلماء والأشراف والوجهاء وجميع طبقات المجتمع في مجلس حافل لأنه رجل عالم وهو أبو الفقراء، يصدع للناس في نوائبهم، فكان جالساً وكان بينه وبين بن عم له وهو حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب شيء مما يكون بين الناس، فلم يتمالك حسن بن حسن نفسه، وخرج عن طوره، وجاء يبحث عن زين العابدين، فوجده جالساً مع أصحابه في المسجد، فجاء إليه وما ترك شيئاً إلا قاله في حقه من الشتم وقبيح القول، وعلي بن الحسين ساكت لا يرد بشيء، فلما تشفى منه انصرف، ثم ذهب علي بن الحسين بعد أن أكمل مجلسه إلى بيته، فلما كان الليل ذهب زين العابدين إلى بيت حسن بن حسن، وفي مثل هذه المواقف المتوقع أنه يخفي تحت ثيابه ما يؤدبه به، لكنه لم يفعل شيئاً من ذلك، بل جاء إلى بيته، وطرق عليه الباب، فلما خرج حسن بن حسن قال له: يا أخي إن كنت صادقاً فيما قلت فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، السلام عليكم، وتركه، فهشمت هذه الكلمات العداوة المستحكمة في نفس حسن بن حسن، ولم يتمالك مشاعره، فتحولت مشاعر العداوة والبغض والكراهية والغضب إلى مشاعر أخرى معاكسة، فجعل يتبعه ويجري خلفه، والتزمه من خلفه، وجعل يبكي حتى رثي له، ثم قال: لا جرم لا عدت في أمر تكرهه، فقال له علي بن الحسين: وأنت في حل مما قلت لي.
من محاضرة قيمة للدكتور الفاضل خالد السبت بعنوان أخلاق الكبار والقصة في: (1) تهذيب الكمال 12/380 سير أعلام النبلاء 5/332 تاريخ الإسلام 6/436

8- عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه:

جلس ابن سعود رضي الله عنه في السوق يبتاع طعاما فابتاع ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حُلّت فقال لقد جلست وإنها لمعي فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون اللهم اقطع يد من سرقها فقال عبدالله اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها وإن كان حمله على ذلك الجراءة على الذنب فاجعلها أخر ذنوبه .
موسوعه نضرة النعيم 7\2908 الاحياء 3\196

9- عطاء ابن أبي رباح رضي الله عنه

كان في المسجد الحرام رجل جاء للحج فنام في المسجد فكشفت الريح الثوب عن بطنه فظهر الحزام الذي شده على بطنه وفيه نقوده فمر به أصحابه فخافوا عليه فنزعوها عنه ، فانتبه الرجل فنظر فإذا منطقته (الحزام الذي به نقوده) قد حلت فنظر يمينا وشمالا فلم ير إلا عطاء بن أبي رباح قائما يصلي فسار إليه فأخذ بتلابيبه وضيق عليه، وقال له: يا عدو الله فعلت الذي فعلت بي ثم قمت تصلي فقال له : ما بالك يا هذا قال: منطقتي حللتها وأخذت مابها من نقود وأغلظ له القول، قال له عطاء: وكم فيها ؟ قال: مائتا دينار قال له فسمع بهذا غيرك ؟قال لا ، قال :فاذهب معي حتى أعطيك ما ذهب لك . قال : فذهب فعد له مائتي دينار، فذهب الرجل إلى أصحابه فأخبرهم الخبر فقالوا له : ظلمت والله الرجل، كان من قصتنا كيت وكيت ، ثم حللناها عنك خوفا عليها ، وهاهي هذه . فقاموا إلى عطاء حتى وقفوا عليه فسألوا عنه فقيل لهم هو عطاء بن أبي رباح فقيه أهل مكة وسيدهم ، فاعتذروا إليه وسألوه أن يجعله في حل ويقبل الدنانير ، فقال لهم : هيهات ما كانت بالتي ترجع إلي ، إذهب فأنت في حل وهي لك.
والقصة في كتاب الفرج بعد الشدة للحازمي 4/105
وكتاب المحن للتميمي 331


10- عامر بن عبد القيس :

وقصة عامر بن عبدالله التميمي التابعي رضي الله عنه عندما وجد احد رجال الشرطة يجر معاهدا وهو يقول مستغيثاً أجيروني أجاركم الله أجيروا ذمة نبيكم يا معشر المسلمين فأقبل عامر إليه وقال : هل أديت جزيتك قال نعم أديتها فقال للشرطي ما تريد منه؟! قال :أريد أن يذهب معي فيكسح حديقة صاحب الشرط . فقال عامر للذمي أتطيب نفسك بهذا العمل؟ قال: كلا فقال الشرطي دعه ، فقال: لا ادعه فألقى عامر برداءه على الذمي وقال والله لا تحفر ذمة محمد وأنا حي ثم تجمع الناس وأعانوا عامر على الرجل وخلّصوا الذمي بالقوة فما كان من أعوان صاحب الشرط إلا أن اتهموه بنبذ الطاعة ورموه بالخروج على السنة والجماعة وقالوا: إنه امرؤ لا يتزوج النساء ولا يأكل لحم الحيوانات وألبانها ويتعالى على غشيان مجالس الولاة!
ورفعوا أمره إلى أمير ألمؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فأمر الخليفة واليه على البصرة بان يدعو عامر بن عبدالله إلى مجلسه وان يسأله عما نسب إليه وان يرفع له خبره فاستدعي إلى البصرة عامرا وقال: إن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه أمرني أن أسالك عن أمور نسبت أليك فقال: سل عمّا أمر به أمير المؤمنين .
فقال: مالك تعزف عن السنة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتأبى أن تتزوج ؟ فقال: ما تركت الزواج عزوفاً عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم فانا اشهد أن لا رهبا نية في الإسلام وإنما أنا امرؤ رأى أن له نفساً واحدةً فجعلها لله عز وجل وخشي أن تغلبه الزوجةُ عليها.
فقال: مالك لا تأكل اللحم ؟
فقال: بل أكله إذا اشتهيته ووجدته أمّا إذا لم اشتهيه أو اشتهيته ولم أجده فاني لا آكله .
فقال مالك لا تأكل الجبن؟
فقال: أنا في منطقة بها مجوس يصنعون الجبن هم قوم لا يفرقون بين الميتة والمذبوحة وإني لأخشى أن تكون المنفحة وهي ماده تستخدم من بطن الجدي الصغير وتوضع في الحليب فيصير جبناً التي تصنع بها الجبن من شاة غير مذكاة فما شهد شاهدان من المسلمين على انه جبن صنع بمنفحة شاة مذبوحة أكلته .
فقال : وما يمنعك من أن تأتي الولاة وتشهد مجالسهم ؟ فقال : إن في أبوابكم كثيراً من طلاب الحاجات فأدعهم إليكم .. فأقضوا حوائجهم لديكم .. واتركوا من لا حاجة له عندكم ..
ورفعت أقوال عامر إلى أمير المؤمنين عثمان فلم فيها نبذاً للطاعة أو خروجاً على السنة والجماعة !
غير أن ذلك لم يطفئ نار الشر وكثر القيل والقال حول عامر وكادت تكون فتنة بين أنصار الرجل وخصومه..
فأمر عثمان رضي الله عنه بتسييره إلى بلاد الشام واتخاذها دار إقامة له ..
وأوصى واليه على الشام معاوية بن أبي سفيان أن يحسن استقباله وأن يرعى حرمته .
وفي اليوم الذي عزم فيه عامر على الرحيل عن البصرة خرج خلق كثير من إخوانه وتلاميذه لوداعه وشيعوه حتى بلغوا ظاهر المربد وهو مكان يقال له ظاهر المربد ..
وهناك قال لهم : إني داع فأمنوا على دعائي !!
فأشرأبّت إليه أعناق الناس وسكنت حركتهم وتعلقت به عيونهم ..
فرفع يديه وقال : اللهم من وشى بي وكذب علي ، وكان سبباً في إخراجي من بلدي و التفريق بيني وبين صحبي ..
اللهم إني قد صفحت عنه ، فاصفح عنه وهبه العافية في دينه ودنياه .. وتغمدني وإياه وسائر المسلمين برحمتك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين .. فضج الناس بالبكاء من هذا الموقف الذي لا يمكن أن يصدر إلا من قلب طاهر تربى على القرآن الكريم وجعل الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين هم الأسوة له والقدوة.. ثم توجه إلى الشام..يرحمه الله.
صور من حياة التابعين 1/48 ، الحلية 2/91 ، تريخ ابن عساكر 339 ، تاريخ الأسلام 3/28 ، سير أعلام النبلاء 4/19

11- شيخ الإسلام ابن تيمية

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية إن السلطان لما جلس بالشباك أخرج من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتله واستفتاه في قتل بعضهم ! قال : ففهمت مقصوده وأن عنده حنقاً شديداً عليهم .. قال شيخ الإسلام : فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم وأن هؤلاء لوا ذهبوا لم تجد مثلهم في مملكتك .. أما أنا فهم في حلٍ من حقي ومن جهتي .. وسكنت ما به عليهم !! قال : فكان القاضي زين الدين بن مخلوف - قاضي المالكية – يقول بعد ذلك ما رئينا أتقى من ابن تيمية ، لم نبقي ممكناً في السعي فيه ، ولما قدر علينا عفا عنا .
البداية والنهاية 14/464
الجزاء من جنس العمل 2/95

ولم يقتصر إيذاء أهل البدع لشيخ الإسلام على ذلك بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- انفرد به بعض أهل البدع في ناحية من نواحي القاهرة وضربوه وشتموه، فتسامع الناس بذلك فخرج كثير من الأمراء والقادة والجنود والعامة والوجهاء يبحثون عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فوجدوه في مسجد على البحر وتجمعوا عنده، وتتابع آخرون صاروا يتلاحقون ويتسامعون، فاجتمعوا عنده وقالوا له: يا سيدي قد جاء خلق من الحسينية لو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا، ما قال لهم: نعم.. أنتم الذين تعرفون قدر علمائكم، ولا خير في أمة لا تعرف قدر علمائها، هؤلاء أهل بدع وضلالات أحرقوهم وأريحوا الناس منهم، ما قال هذا الكلام لأن القضية تتعلق بشخصه هو فماذا قال قال لهم: لأي شيء، قالوا: لأجلك، قال لهم: هذا ما يحق، قالوا: نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك - يعني لا نخرب الأحياء بكاملها بل نذهب إلى بيوتهم - فنقتلهم، ونخرب دورهم، فإنهم شوشوا على الناس -ولاحظ الملحظ الآخر الذي جاءوا من أجله-، في البداية الانتصار لشيخ الإسلام فرفض، ثم أعادوا الكرة بثوب آخر أنهم أثاروا فتنة وشوشوا على الناس فقال: هذا ما يحل، فقالوا: فهذا الذي فعلوه لك هل يحل؟، هذا شيء لا نصبر عليه، ولابد أن نذهب إليهم، ونقاتلهم على ما فعلوا، فكان ينهاهم ويزجرهم عن ذلك، فلما أكثروا عليه قال: إما أن يكون الحق لي، أو لكم، أو لله، فإن كان الحق لي فهم في حل، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني، ولم تستفتوني فافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه كيف شاء، فقالوا له: هذا الذي فعلوا بك هل هو حلال؟ قال: هذا الذي فعلوه قد يكونوا مثابين عليه مأجورين فيه، قالوا: فتكون أنت على الباطل، وهم على الحق، كيف تقول إنهم يأجرون على ذلك؟ فقال: ما الأمر كما تزعمون فإنهم قد يكونوا مجتهدين مخطئين، ففعلوا ذلك باجتهادهم، والمجتهد المخطئ له أجر، -أناس يضربونه ويشتمونه ويؤذونه ببدنه، وهم من أهل الضلالات والأهواء والبدع، ويقول: إنهم قد يؤجرون، فأين نحن من مثل هؤلاء؟-، بل خرج عليه رجل من هؤلاء المبتدعة متفقه فانفرد بشيخ الإسلام في محلة وناحية لم يكن هناك أحد، فأساء الأدب إلى شيخ الإسلام وأسمعه ما يكره وشتمه، فعلم الناس بذلك، وبدؤوا يأتون لشيخ الإسلام يريدون الانتصار له، فسمع ذلك الرجل، فبدأ يتلطف ويرسل الوسائط يظن أن شيخ الإسلام سينتصر لنفسه، فكان شيخ الإسلام يرد بعبارة مختصرة يقول: أنا ما أنتصر لنفسي، يعني دعوا هذا الرجل يطمئن ويرتاح، وينام قرير العين، فإني لا أنتصر لنفسي، وهؤلاء قوم يختلف معهم شيخ الإسلام في مسائل تتعلق بالعقيدة والمنهج كما يقال، أما الخلاف في المسائل الفرعية فهذا يكون الحكم فيه كما سبق: سعة الصدر وهو أحرى بذلك وأولى لأن الخلاف في المسائل العلمية الاجتهادية الفرعية أمر سائغ، ولا يلحق المخالف فيه تضليل ولا تبديع، ولا ينسب إلى هوى إذا كان يقصد الحق، والناس طالما اختلفوا في مسائل الاجتهاد، ولكن أصحاب النفوس الصغيرة لربما احتدم النقاش معه فصار يلقاك بوجه آخر، وابتسامة مائلة من شق واحد، يضمر لك ضغينة، ويحمل عليك في نفسه لأنه قد اختلف معك في مسألة من مسائل الفروع.
من محاضرة قيمة للدكتور خالد السبت بعنوان اخلاق الكبار

12- الإمام أحمد ابن حنبل

بدأت الفتنة بالقول في خلق القرآن في آخر خلافة [المأمون بن هارون الرشيد] سابع خلفاء بني العباس وقد كان تلميذا لأبي الهذيل العلاف المعتزلي وكان الداعي لها أحمد ابن أبي دؤاد .. وقد سجن الأمام أحمد بسبب صموده في وجه الفتنة في عهد المأمون .. ثم مرض ومات وأوصى أخاه المعتصم أن يواصل في محنة خلق القرآن ، وكان المعتصم موصوفاً بالجهل .. وقد أمر بضرب الأمام أحمد فضرب حتى خُلعت يداه !! ثم رق له المعتصم وقال : لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك .. ولكن ابن أبي دؤاد كان يخوفه سوء العاقبة إن هو خلى سبيله ثم أطلق في عام 220هـ وبقي سبع سنين طليقاً حتى مات المعتصم .. وتولى بعد المعتصم ابنه الواثق ، ولم يؤثر عنه أنه الحق بالإمام أحمد أذاً أو محنة في الفتنة ، إلا أن ابن دؤاد ما زال يحرك الفتنة حتى كتب الواثق إلى عامله إسحاق ابن إبراهيم ينهى فيه الأمام أحمد عن التحديث واختباء بين داره ودور أصدقائه !! وما زال كذلك حتى هلك الواثق سنة 232هـ
وفي عهد المتوكل (جعفر ابن المعتصم محمد ابن هارون الرشيد ) رفع الله به المحنة وأظهر السنة ، وأفل نجم التجهم والاعتزال وكُتب بذلك إلى الآفاق سنة 234هـ ولما أفلت الفتنة في عهد المعتصم ، كان من سمو نفس الأمام أحمد وعالي خلقه ، وشرف طبعه : إعلانه العفو عن كل من آذاه !! وإنه في حل ، إلا صاحب بدعة . وجعل المعتصم في حلٍ يوم فتح بابل وعمورية .
المدخل المفصل إلى فقه الأمام أحمد بن حنبل 1/ 386

وقال :كل من ذكرني ففي حلّ إلا مبتدعاً ، وقد جعلت أبا إسحاق - يعني المعتصم- في حل ورأيت الله يقول : » وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم « وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر بالعفو في قصة مسطح - ثم قال – وما ينفعك أن يعذِّبَ الله أخاك المسلم في سبيله ؟ »
[مدارج السالكين 2/345 .] .

13- الوزير ابن هبيرة

ذكر ابن رجب في طبقات الحنابلة : أن الوزير ابن هبيرة الوزير الحنبلي العظيم، العالم العابد، كان وزيراً، دخل عليه رجل فأتى هذا الرجل إلى ابن هبيرة , فأعطاه الوزير ابن هبيرة مالاً جزيلاً ومسح على رأسه فقال الناس لـ ابن هبيرة : ما لك مسحت على رأسه؟ قال: عفوت عنه, قالوا: كيف عفوت عنه؟ قال: لما دخل علي عرفني ولم أعرفه، هذا الرجل ضربني ونحن شباب في رأسي، فأذهب عيني، فلا أبصر بها منذ أربعين سنة،
فلما دخل علي عفوت عنه، ليعفي الله عني يوم يجمع الله الأولين والآخرين، فتباكى الناس.

موقف آخر:

وخذ هذا الموقف الآخر العجيب للعالم الوزير ابن هبيرة -رحمه الله-، نال العلم والفقه والوزارة معاً، وكان له مجلس حافل بالعلماء من أرباب المذاهب الأربعة، وبينما هو في مجلسه إذ ذكر مسألة من مفردات الإمام أحمد - يعني أن الإمام أحمد تفرد في هذه المسألة عن الأئمة الثلاثة الشافعي ومالك وأبي حنيفة -، فقام فقيه من فقهاء المالكية يقال له أبو محمد الأشيري فقال: بل قال بهذا الإمام مالك، فقال ابن هبيرة -رحمه الله-: " هذه الكتب " وأحضرها، وإذا هي تنص على أن هذه المسألة من مفردات الإمام أحمد، فقال أبو محمد الأشيري: بل قال بذلك الإمام مالك، فتكلم العلماء الذين حضروا هذا المجلس فقالوا: بل هي من مفردات الإمام أحمد، قال: بل قال بذلك الإمام مالك، فغضب ابن هبيرة وقال: أبهيمة أنت؟، أما تسمع هؤلاء العلماء يصرحون بأنها من مفردات الإمام أحمد، والكتب شاهدة بذلك، ثم أنت تصر على قولك، فتفرق المجلس، (فهب أنك في هذا المجلس، هب أنك أحد الطرفين في مكان ابن هبيرة، أو في مكان الأشيري، ما هو في مجلس علماء، لو كنت أنت وهذا الإنسان وليس معكما ثالث، وقال لك: أبهيمة أنت هل ستلقاه بعدها؟ هل ستأتي إلى مجلسه وتحضر معه؟ ثم لو قال لك ذلك أمام الآخرين هل تنام تلك الليلة؟ هل تفكر بالرجوع إليه؟) فلما انعقد المجلس في اليوم الثاني جاء الفقيه المالكي وحضر كأن شيئاً لم يكن، وجاء ابن هبيرة، وجاء العلماء، فأراد القارئ على عادته أن يقرأ ثم يعلق الوزير ابن هبيرة، فقال له: قف، فإن الفقيه الأشيري قد بدر منه ما بدر بالأمس، وحملني ذلك على أن قلت له ما قلت، فليقل لي كما قلت له، فلست بخير منكم ولا أنا إلا كأحدكم ( فكيف كان أثر هذه الكلمات؟ وهي بالمجَّان لا نخسر عليها شيئاً، تجاوز بس هذه النفس وتغلب عليها)، ضج المجلس بالبكاء، وتأثروا جداً من هذه الأخلاق العالية الرفيعة، وارتفعت الأصوات بالدعاء والثناء؛ وجعل هذا الخصم الأشيري يعتذر ويقول: أنا المذنب، أنا الأولى بالاعتذار، والوزير ابن هبيرة يقول: القصاص القصاص، فتوفق أحد العلماء وقال: يا مولانا إذا أبى القصاص فالفداء، فقال الوزير: له حكمه يحكم بما شاء، احكم بما تريد، فقال هذا الفقيه: نعمك علي كثيرة فأي حكم بقي لي، فقال: قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الافتيات عليك، فقال: عليّ بقية دين منذ كنت بالشام، فقال الوزير ابن هبيرة: يعطى مئة دينار لإبراء ذمته وذمتي، فأحضر له المال، وقال له ابن هبيرة: عفا الله عنك وعني، وغفر الله لك ولي"، فهل نحن كذلك؟ إذا كنا في مجلس وحصلت قضية مثل هذه كيف ستكون نتائجها؟ عداوة إلى يوم الدين، وقلب يتقطع، ونفس حرقاء حراء على هذا الإنسان، نسأل الله العافية، كلمات لم يخسر فيها شيئاً بل ازداد رفعة، نحن نتحدث عنها بعد قرون وبعد مئات السنين، ولو أنه بقي مع نفسه فكيف سيكون حال هذه الصلة والعلاقة..
من محاضرة قيمة للدكتور الفاضل خالد السبت بعنوان أخلاق الكبار والقصة ذكرها ابن الجوزي في كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والامم 10/216 وذكرها ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة 1/227 ونقل ذلك ابن مفلح في الفروع 6/120

14- (الخيزران) زوجة الخليفة العباسي المهدي، وأم الخليفتين الهادي وهارون الرشيد

[ومن عجائب القصص في هذا وطرائفها قصةٌ جَرَتْ في منزل الخيزران وقد روتها زينب بنت سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس زوجة المهدي الأولى فقالت:كنت جالسة عند الخيزران، فدخلت علينا جارية فقالت: إنَّ بالباب امرأة لها جمال وخلقة حسنة وعليها من مظاهر البؤس ما يحزن لها القلب، وهي تستأذن عليك، وقد سألتها عن اسمها فأبت أن تخبرني به، فقالت الخيزران: أدخليها، فدخلت امرأةٌ كأجمل ما ترى العين من النساء، فقعدت إلى جنب عضادة الباب متضائلة ثم قالت: أنا مارية بنت مروان بن محمد الأموي - آخر خلفاء بني أمية - قالت زينب بنت سليمان: فاستويت جالسة وقلت لها قبل أن تجيبها الخيزران: لا حياك الله ولا قرَّبك، و الحمد لله الذي أزال نعمتك وهتك سترك وأذلَّك، أتذكرين يا عدوَّة الله حين أتاك عجائز أهل بيتي يسألنك أن تكلمي صاحبك في الإذن بدفن إبراهيم بن محمد، فأسمعتهنَّ أسوأ الكلام، وأخرجتهن ذليلات حقيرات، قالت: فضحكت مارية بأحسن ثغر برغم بؤسها وقالت: أيْ ابنة عمي، أيّ شيء أعجبك من صنيع الله بي على فعلتي تلك السيئة، وعلى قسوتي وعقوقي، فوالله لو لم يكن من عقاب الله لي إلا ما ترين من حالي لكفى، فهل تريدين الاقتداء بي حتى يصيبك ما أصابني، ثم قامت تهمُّ بالخروج.

هنا غضبت الخيزران وقالت: ليس هذا لك يا زينب، فهذه المرأة قصدتني في داري، وطلبت عوني وجواري، ونادت مارية طالبة منها الجلوس معتذرةً إليها، فرجعت مارية بنت مروان قائلة: والله يا أخيَّة ما جاء بي إلا الضيق والجهد الذي لا يخفى عليك من حالي، فقامت إليها الخيزران فعانقتها، وأمرت جواريها أن يقمن برعايتها والعناية بها، ومنحتها من الملابس والطيب ما يليق بمثلها، ثم أجلستها بجوارها وأمرت لها بالطعام، وطلبت منها أن تقيم معها في بيتها، وأن تعد نفسها في مقام أختها، فاستبشرت مارية ودعت للخيزران بخير، ووافقت على البقاء معها لأنها قد فقدت القريب والصديق بعد زوال الخلافة عن بني أمية، وقتل والدها آخر خلفائهم (مروان بن محمد). قالت زينب: وكنت في غاية الضيق لما صنعت الخيزران بهذه المرأة التي قست علينا ذات يوم، فعزمت على إخبار الخليفة المهدي بالأمر، ورواية الحادثة له، فعله يؤيد موقفي ويؤنِّب الخيزران على ما فعلت، ويا ليتني لم أخبره، فقد ثار غضبه وقال: يا زينب! أهذا مقدار شكرك لله عز وجل على نعمته وقد أمكنك من هذه المرأة على هذه الحالة التي وصفتها، فوالله لولا مكانك من قلبي لحلفت ألا أكلمكِ أبداً فما هذه بأخلاق الكرم يا زينب، والله لا يُرضيني منك إلا الاعتذار منها والإحسان إليها، ثم شكر الخيزران على موقفها الكريم، وامتدحها، ثم تحدَّث إلى مارية بنت محمد بن مروان قائلا: اطمئني فما أنت إلا في بيتك وبين أهلك، وما أنا إلا في موضع أخيك الذي يرعاك ويحرص على راحتك.
قالت زينب: فتعلمت من الخيزران والخليفة المهدي دروسا في العفو عند المقدرة، وراجعت نفسي، وأعلنت توبتي إلى ربي].
من كتاب : طيب المذاق من ثمرات الأوراق للحموي المعروف بابن حجة 1/200

وهكذا يكون العفو عند المقدرة صفة جليلة كريمة، تدلُّ على نقاء القلب، وصفاء النفس، وكرم الطباع، ولا يزيد بها صاحبها إلا عزة ومكانة في الدنيا والآخرة - أذا خلصت النيَّة، وصفت السريرة ..


 

محمد الشمراني
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية