صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







(العبادة بين السلوك الخارجي والرصيد الوجداني)

د.محمد بن عبدالله الشمراني



أجمع السلف الصالح على أن: (الإيمان قول وعمل واعتقاد) ([1]).

 فالقول: هو الإقرار باللسان: فمثلاً الصلاة تقرُّ بلسانك بأنها فريضة فرضها الله تبارك وتعالى، وركن من أركان الإسلام.

والعمل: هو السلوك الخارجي: بأن تؤدي هذه الصلاة بجوارحك فتقوم وتركع وتسجد وتعمل أعمال الصلاة الظاهرة.

والاعتقاد: هو الرصيد الوجداني المفاهيمي القيمي في أعماق القلب لهذا العمل، الذي ينبع من محبة الله تبارك وتعالى والخضوع لأمره سبحانه.

فكل الأعمال الظاهرة لها رصيد وجداني في أعماق القلب يتفاوت هذا الرصيد الوجداني في قوته وضعفه من شخص لآخر، وهذا الرصيد الوجداني عليه مدار الصلاح والتقوى، والأجر والثواب، وعليه مدار درجات الناس ومنازلهم عند ربهم في الدنيا والآخرة، فكلما كان الرصيد الوجداني النابع من محبة الله والخضوع لأمره مرتفعاً في القلب كان العمل السلوكي الخارجي مثمراً محموداً عند الله تبارك وتعالى.

ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:

المثال الأول: قيمة ([2]) الصدق:

يتفاوت الناس فيها تفاوتاً كبيراً، فمن الناس من يكون الرصيدُ الوجدانيُ لقيمة الصدق في نفسه النابع من محبة الله تبارك وتعالى ضعيف جداً، وقد يصل الضعفُ به إلى أن يرى أن الصدق صفةٌ ذميمةٌ فهو صفة الضعفاء الدراويش الذين لا يحسنون التعاون بالدهاء والفطنة، ويسمونه أحياناً كذب أبيض، أو سياسة، ونحو ذلك، وهذا الصنف من الناس إنما أوصلهم إلى هذا المفهوم المنحرف للصدق ضعف الرصيد المفاهيمي الوجداني لقيمة الصدق في نفوسهم.
ومن الناس من يكون الرصيدُ الوجدانيُ لقيمة الصدق في نفسه مرتفعاً نوعاً ما؛ فتراه يحب الصدق ويتعامل به فيما لا يتعارض مع مصالحه الشخصية فإذا تعارضت مصالحه مع الصدق تخلى عنه، مع شيء من تأنيب الضمير الذي يكون بسبب ذلك الرصيد المفاهيمي الوجداني لقيمة الصدق في أعماق النفس، وتختلف درجة ذلك التأنيب بحسب درجة ذلك الرصيد.
ومن الناس من يكون الرصيدُ الوجدانيُ لقيمة الصدق في نفسه مرتفعاً جداً، نابعاً من محبة الله والخضوع لأمره، فتراه يحب الصدق ويتعامل به ولا يتخلى عنه أبداً سواء تعارض مع مصالحه الشخصية أو توافق معها، حتى يصل الأمر بالبعض ممن أكتمل في أعماق وجدانه الرصيد المفاهيمي لقيمة الصدق إلى عدم التخلي عن الصدق أبداً مهما تعارض ذلك مع مصالحة؛ وما ذلك إلى بسبب اكتمال الرصيد الوجداني لقيمة الصدق في أعماق نفسه.

المثال الثاني: قيمة صلة الرحم:

كذلك يتفاوت الناس فيها تفاوتاً كبيراً، فمن الناس من يكون الرصيدُ الوجدانيُ لقيمة صلة الرحم في نفسه ضعيف جداً، وقد يصل الضعفُ به إلى أن يرى أن صلة الرحم صفةٌ ذميمةٌ؛ فهي صفة لا تجني منها إلا الخسائر المادية، وضياع الوقت فيما لا يرى له أي نفع يعود عليه في حياته، وهذا الصنف من الناس إنما أوصلهم إلى هذا المفهوم المنحرف لقيمة صلة الرحم ضعف الرصيد المفاهيمي الوجداني لهذه القيمة في نفوسهم.
ومن الناس من يكون الرصيدُ الوجدانيُ لقيمة صلة الرحم في نفسه مرتفعاً نوعاً ما فتراه يحب صلة الرحم ويتعامل بها فيما لا يتعارض مع مصالحه الشخصية، فإذا تعارضت مصالحه مع صلة الرحم تخلى عنها، مع شيء من تأنيب الضمير أيضاً الذي يكون بسبب ذلك الرصيد المفاهيمي الوجداني لقيمة صلة الرحم في أعماق النفس، وتختلف درجة ذلك التأنيب بحسب درجة ذلك الرصيد.
ومن الناس من يكون الرصيدُ الوجدانيُ لقيمة صلة الرحم في نفسه مرتفعاً جداً؛ فتراه يحب صلة الرحم ويتعامل بها ولا يتخلى عنها أبداً، سواء تعارضت مع مصالحه الشخصية أو توافقت معها، حتى يصل الأمر بالبعض ممن أكتمل في أعماق وجدانه الرصيد المفاهيمي لقيمة صلة الرحم إلى صلة رحمه حتى وإن قطعته أو ظلمته أو أساءت إليه؛ وما ذلك إلى بسبب اكتمال الرصيد الوجداني لقيمة صلة الرحم في أعماق نفسه.
وهكذا بقيةُ الأعمال الصالحة.
ولهذا السبب كان الصحابة رضي الله عنهم أفضل من غيرهم لما في قلوبهم من الرصيد الوجداني العالي جداً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه.
وكما قال أبو بكر بن عياش: والله ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن سبقكم بشيء وقر في قلبه.
ولما دَعى النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الصدقة جاء أبو بكر بكل ماله فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ماذا تركت لأهلك يا أبا بكر قال: تركت لهم الله ورسوله). ([3])
فلاحظ الأثر الواضح بين السلوك الخارجي للعمل والرصيد المفاهيمي الوجداني له في أعماق أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

ملاحظة مهمة:

ومما تجدر الإشارةُ إليه أنه في بعض الأحيان قد يكون ظاهر العمل زكياً فاضلاً، ويكون العامل له من المجتهدين فيه أشد الاجتهاد، ولكن الرصيد المعرفي الوجداني في أعماق قلبه النابع من محبة الله والخضوع له سبحانه وتعالى ضعيفٌ جداً.
فمثلاً قد تجد من الناس من يحافظ أشد المحافظة على الصلاة في المسجد بل ربما يكون من المسابقين إلى الصف الأول ولكن الرصيد المعرفي الوجداني في أعماق قلبه النابع من محبة الله والخضوع له سبحانه وتعالى ضعيفٌ جداً.
وعلامة ذلك أن تجده منتهكاً لمحارم الله تبارك وتعالى واقعاً في حدوده؛ فتراه قاطعاً لأرحامه عاقاً لوالديه يأتي الفواحش والمنكرات نسأل الله تبارك وتعالى السلامة والعافية.

وهنا محل إشكال لا بد من الجواب عليه وهو:

كيف يكون الرصيد الوجداني عنده ضعيف جداً وهو من المسابقين إلى أعمال الخير كالمحافظة على الصلاة، أو قراءة القرآن، ونحو ذلك، وما هو الدافع له للمحافظة على تلك الأعمال الصالحة إن لم يكن ذلك بسبب قوة الرصيد الوجداني في قلبه؟!
والجواب:
أنه ليس كل من يعمل عملاً صالحاً يكون ذلك دليلاً قاطعاً على أنه نابعٌ من قوة الرصيد الوجداني المنبعث من محبة الله تبارك وتعالى والخضوع لأمره، بل قد يكون ذلك العمل نابعٌ من حبّ ثناء الناس، أو لمصلحة من مصالح الدنيا ونحو ذلك، كما في الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره عن شُفيّ الأصبحي: (أنَّهُ دخلَ المدينةَ، فإذا هوَ برجُلٍ قدِ اجتمعَ عليْهِ النَّاسُ، فقالَ: مَن هذا؟ فقالوا: أبو هُريرةَ، فدنوتُ منْهُ حتَّى قعَدتُ بينَ يديْهِ، وَهوَ يحدِّثُ النَّاسَ ، فلمَّا سَكتَ وخلا، قلتُ: أنشدُكَ بحقٍّ وحقٍّ لمَّا حدَّثتني حديثًا سمعتَهُ مِن رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ عقلتَهُ وعلمتَهُ، فقالَ أبو هريرةَ: أفعلُ، لأحدِّثنَّكَ حديثًا حدَّثنيهِ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ وعلِمتُهُ، ثمَّ نشغَ أبو هريرةَ نَشغةً، فمَكثَ قليلًا، ثمَّ أفاقَ، فقالَ: لأحدِّثنَّكَ حديثًا حدَّثنيهِ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ في هذا البيتِ ما معَنا أحدٌ غيري وغيرُهُ ، ثمَّ نَشغَ أبو هريرةَ نشغةً أخرى ، فمَكثَ بذلِكَ ، ثمَّ أفاقَ ومسحَ وجْهَهُ قالَ: أفعلُ لأحدِّثنَّكَ بحديثٍ حدَّثنيهِ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، وأنا وَهوَ في هذا البيتِ ما معنا أحدٌ غيري وغيرُه ، ثمَّ نشغَ أبو هريرة نشغةً شديدةً، ثمَّ مالَ خارًّا علَى وجْهِهِ أسندتُهُ طويلًا، ثمَّ أفاقَ، فقالَ: حدَّثني رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: إنَّ اللَّهَ تبارَكَ وتعالى إذا كانَ يومُ القيامةِ نزلَ إلى العبادِ ليَقضيَ بينَهم، وَكلُّ أمَّةٍ جاثيةٌ، فأوَّلُ من يدعو بهِ رجلٌ جمعَ القرآنَ، ورجلٌ يُقتلُ في سبيلِ اللَّهِ، ورجلٌ كثيرُ المالِ، فيقولُ للقارئِ: ألم أعلِّمْكَ ما أنزلتُ علَى رسولِي؟ قالَ: بلى يا ربِّ قالَ: فماذا عمِلتَ فيما عُلِّمتَ؟ قالَ: كنتُ أقومُ بهِ أثناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ، فيقولُ اللَّهُ لهُ: كذبتَ، وتقولُ الملائِكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللَّهُ: بل أردتَ أن يقالَ: فلانٌ قارئٌ، فقَد قيلَ، ويؤتى بصاحبِ المالِ فيقولُ اللَّهُ: ألم أوسِّع عليْكَ حتَّى لم أدعْكَ تحتاجُ إلى أحدٍ؟ قالَ: بلَى قالَ: فماذا عملتَ فيما آتيتُكَ؟ قالَ: كنتُ أصلُ الرَّحمَ، وأتصدَّقُ؟ فيقولُ اللَّهُ: كذبتَ، وتقولُ الملائِكةُ: كذبتَ، فيقولُ اللَّهُ: بل أردتَ أن يقالَ: فلانٌ جوَّادٌ، فقد قيلَ ذاكَ، ويؤتى بالَّذي قتلَ في سبيلِ اللَّهِ، فيقالُ لهُ: فيمَ قُتلتَ؟ فيقولُ: أُمِرتُ بالجِهادِ في سبيلِكَ، فقاتلتُ حتَّى قُتلتُ، فيقولُ اللَّهُ: كذبتَ، وتقولُ الملائِكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لهُ: بل أردتَ أن يقالَ: فلانٌ جَريءٌ: فقد قيلَ ذلِكَ، ثمَّ ضربَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ علَى رُكبتيَّ، فقالَ: يا أبا هُريرةَ، أولئِكَ الثَّلاثةُ أوَّلُ خَلقِ اللَّهِ تُسعَّرُ بِهمُ النَّارُ يومَ القيامَةِ). ([4])
فالذي يوضح الفارق بين من كان عمله نابع من قوة الرصيد الوجداني المنبعث من محبة الله تبارك وتعالى والخضوع لأمره، وبين من كان رصيده الوجداني ضعيف جداً، هو ثمرة ذلك العمل على سلوك صاحب ذلك العمل فإذا كان منقاداً لأوامر الله خاضعاً له سبحانه وتعالى مقدماً لطاعة ربه على حظوظ النفس وشهواتها، دلّ ذلك على صدق عمله، وصدق محبته لربه، وصدق قوة الرصيد الوجداني لديه، أمّا إن كان واقعاً في كثير من حدود الله سبحانه وتعالى، مقدماً لحظوظ النفس على طاعة ربه، يبرر لنفسه ما يقع فيه من المنكرات والموبقات بالحجج العقلية الفاسدة.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يملأ قلوبنا أمناً وإيماناً وهداً وصلاحاً وتقوى، ويعصمنا من منكرات الأقوال والأعمال والمعتقدات، ويرزقنا حبه سبحانه وتعالى وحب العمل الذي يقرب إلى حبه، ويجعلنا من الخاضعين لأمره المنقادين لشرعه، والحمد لله رب العالمين.
 

كتبه: د. محمد بن عبدالله الشمراني
16/ 12/ 1445ه بباشوت
 

-----------------------------------------------
([1]) ممن نقل الإجماع الإمام أحمد، أنظر: مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي، ص: 222) ، وكذلك شيخ الإسلام، في الفتاوى، (7/672)
([2]) القيم: هي مفاهيم وجدانية مجردة، أثبتها الله في فطر وعقول الناس، وبعث الرسل لتكمليها وحث الناس عليها؛ لتكون معايير حاكمة يستحسن بها الحسن ويستقبح بها القبيح.
أنظر: منهج الإمام ابن القيم في تقرير القيم، رسالة علمية للباحث نال بها درجة الدكتوراه، ص: ٣٧
 ([3])رواه الترمذي في صحيحه، كتاب: المناقب، باب: في مناقب أبي بكر، رقم الحديث (3675)، قال الألباني: في صحيح الترمذي، حديث رقم: (2902)، (حديث حسن)
([4]) سنن الترمذي، كتاب: الزهد، باب: ما جاء في الرياء والسمعة، حديث رقم: (2557)، وقال: (حديث حسن غريب)، قال الألباني: (صحيح )، التعليق الرغيب ( 1 / 29 - 30 ) ، التعليق على بن خزيمة ( 2482 )

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد الشمراني
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية