اطبع هذه الصفحة


أعظم صورة من صور حفظ الله تعالى لعباده الصالحين

 محمد بن عبدالله الشمراني

 
إن صور حفظ الله لعباده الصالحين صور كثيرة جدا ومتعددة، وتمتد إلى جوانب شتى ولكن أعظم هذه الصور على الإطلاق هي صورة حفظ الله تعالى للعبد في دينه وصلاحه واستقامته ،نعم إن هذا النوع هو أعظم أنواع الحفظ وأفضلها وأهمها وأعلاها على الإطلاق قال تعالى : {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ } (257) سورة البقرة وقال تعالى : { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (15-16) سورة المائدة وقال تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (30) سورة فصلت وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (13) سورة الأحقاف وقال تعالى : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (69) سورة العنكبوت وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (70-71) سورة الأحزاب
قال الأمام الشوكاني رحمه الله تعالى : (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) أي يجعلها صالحة لا فاسدة بما يهديهم إليه ويوفقهم فيه . فتح القدير 4/352
وقال تعالى : {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} (27) سورة إبراهيم
والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً .
ومن حفظ الله تعالى لعبده المؤمن في دينه أن يحفظه من الشبهات والشهوات.

فمن حفظ الشبهات:
أن يريه الحق حقاً ويرزقه أتباعه ,ويريه الباطل باطلاً ويرزقه اجتنابه ولذلك علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته هذا الدعاء وكان يدعو به صلى الله عليه وسلم في أحرى ساعات الإجابة ففي صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت :{ كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم }صحيح مسلم[770]

الغلام والساحر:

ومما يدل على ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الغلام وكيف حفظ الله عليه دينه ونجاه من شبهة الساحر ففي صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:{ كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك إني قد كبرت فأبعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل فأخذ حجرا فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضى الناس فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وانك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوى الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك كان قد عمى فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني فقال إني لا أشفى أحدا إنما يشفى الله فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله فشفاه الله فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك قال ربي قال ولك رب غيري قال ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجيء بالغلام فقال له الملك أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل؟! فقال إني لا أشفي أحدا إنما يشفى الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال اللهم أكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشى إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال اللهم أكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشى إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال باسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات فقال الناس آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام فأتى الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدّت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيه فقال لها الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق} صحيح مسلم ج4/ص2300
وفي رواية للترمذي أورد القصة ثم قال في آخرها:{ فأما الغلام فإنه دفن فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب وإصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل}.[3340] سنن الترمذي ج5/ص437

فلله الحمد على فضله ومنّه وكرمه ونسأله أن يحفظ علينا ديننا وأيماننا ويثبتنا على ما يرضيه حتى نلقاه وهو راض عنا .. اللهم آمين

ومن حفظ الشهوات:

ما يصرفه سبحانه وتعالى عن عبده المؤمن من الوقوع في الشهوات المحرمة قال تعالى عن يوسف عليه السلام :{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}(24) سورة يوسف}

عامر بن عبدقيس التميمي:

ومن ذلك ما حدث لعامر بن عبدقيس التميمي التابعي الجليل العابد الزاهد المشهور والذي سافر في قافلة ذات يوم فلما كان الليل جمع عامر متاعه ’ وربط فرسه بشجرة وطوّل له زمامه وجمع له من حشائش الأرض ثم قام يصلي بين يدي الله سبحانه وتعالى فتبعه أحد رفاقه لينظر أين يذهب عامر التميمي؟! وماذا يصنع؟! فقد تكرر منه هذا الأمر كلما نام الناس أنسل من بينهم بهذه الصفة ثم ذهب!
فوجده مستقبل القبلة يصلي صلاة لا أحسن منها ولا أكمل ولا أخشع ، فلما صلى ما شاء الله أن يصلي ، طفق يدعو الله ويناجيه ، فكان مما قال :اللهم إني سألتك ثلاثاً فأعطيتني اثنتين ومنعتني واحدة ..
اللهم فأني أسألك هذه الواحدة حتى أعبدك كما أحب وأريد وأخذ يلح على الله في هذه الواحدة .
فلما أنقضت الصلاة خرج له ذلك الرجل ففزع منه فزعاً شديداً وأخذ يتوسل إليه أن يستر عليه وقال: أستر ما رأيت مني ستر الله عليك .
قال : والله لا أستر عليك إلاّ أن تخبرني ما هذه الدعوات التي دعوت ؟!
قال : إن أخبرتك ، تستر علي ؟!
قال :نعم
قال : أما الأولى:فدعوت الله أن يذهب من قلبي فتنة النساء ، فوالله الذي لا إله غيره ما أصبحت أبالي جداراً أم امرأة .
وأما الثانية:فدعوت الله تعالى أن يذهب من قلبي مخافة الرجال،فوالله ما أصبحت أخاف إلا الله.
وأما الثالثة والتي لم تجب :فدعوة الله أن يذهب عني سنة النوم حتى أعبد الله عمري كله ! سير أعلام النبلاء بتصرف
رحمك الله يا عامر , ماذا نقول عن حالنا ونحن نتفنن في تقطيع الأوقات بشتى وسائل الترفيه والتسلية كما يقال ؟!!
والشاهد : كيف حفظ الله عامر التميمي رحمه الله من شهوة أو فتنة النساء لما كان حافظاً لله تعالى !

وقل مثل ذلك فيما حدث لعبيد بن عمير التابعي الجليل والعالم العابد التقي النقي

عبيد ابن عمير

ذكر أبو الفرج وغيره أن امرأة جميله كانت بمكة وكان لها زوج فنضرت ذات يوم إلى وجهها في المرأة فقالت لزوجها :أترى احد يرى هذا الوجه ولا يفتتن به قال: نعم قالت من قال عبيد ابن عمير قالت: إذن لي فيه فلأفتنه قال: قد أذنت لكي فاتته كالمستفتية فخلى معها في ناحية من المسجد الحرام فأسفرت عن وجهها مثل فلقة القمر فقال لها: يا أمت الله استتري فقالت:إني قد فُتنت بك فقال: إني سائلك عن شيء إذا صدقتيني نظرت في أمرك قالت: والله لا تسألني عن شيء إلا صدقتك ، قال: أرئيتِ لو أن ملك الموت أتاكِ الساعة ليقبض روحكِ أكان يسرك أن اقضي لك هذه الحاجة؟!، قالت :اللهم لا قال:صدقتي، قال:فلو دخلتي قبرك وجلستي للمسائلة أيسرك أني قضيت لك حاجتك؟! قالت اللهم لا ، فقال صدقتي قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتأخذين كتابك بيمينك أم بيسارك أكان يسرك أن قضيت لك حاجتك؟! قالت اللهم لا ،فقال صدقتي، قال: فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أو يثقل أكان يسرك أني قضين حاجتك؟! فقالت: اللهم لا ، فقال صدقتي قال: فلو وقفتي بين يدي الله للمسائلة أكان يسرك أن قضيتها لك ؟! فقالت اللهم لا ،فقال: صدقتي، ثم قال اتقي الله يا أمة الله فقد انعم الله عليك وأحسن إليك، قال: فرجعت إلى زوجها فقال: ما صنعتي فقالت :أنت بطال ونحن بطالون فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة فكان زوجها يقول: مالي ولعبيد ابن عمير افسد علي امرأتي كانت في كل لليله عروساً فصيرها راهبة .
روضة المحبين ص 245

وقل مثل ذلك فيما حدث كذلك لهذا الشاب الصالح:

أبو بكر المسكي
ذكر ابن الجوزي في كتاب "المواعظ والمجالس" قال: قيل لأبي بكر المسكي إنا نشم رائحة المسك مع الدوام فما سببه فقال: والله لي سنين عديدة لم أمس المسك، ولكن سبب ذلك أن امرأة احتالت علي حتى أدخلتني دارها وأغلقت دوني الأبواب وراودتني عن نفسي فتحيرت في أمري فضاقت بي الحيل فقلت لها: إن لي حاجة في الطهارة ، فأمرت بجارية لها تمضي بي إلى بيت الراحة"مكان قضاء الحاجة" ففعلت فلما دخلت بيت الراحة أخذت العذرة وألقيتها على جميع جسدي ثم رجعت إليها وأنا على تلك الحالة فلما رأتني دهشت ثم أمرت بإخراجي فمضيت إلى بيتي واغتسلت فلما كانت تلك الليلة رأيت في المنام قائل يقول لي :فعلت مالم يفعله احد غيرك لأطيبن ريحك في الدنيا والآخرة فأصبحت والمسك يفوح مني واستمرت تلك الرائحة لا تنقطع وبقيت حتى مات.
المواعظ والمجالس ص 224
الجزاء من جنس العمل 128/2


ومثله أيضاً :
فتى المدينة الصالح
ذكر ابن القيم في روضة المحبين عن حصين بن عبدا لرحمن قال بلغني أن فتاً من أهل المدينة كان يشهد الصلوات كلها مع عمر بن الخطاب وكان يتفقده إذا غاب ، فعشقته امرأة من أهل المدينة ، فذكرت ذلك لبعض نسائها فقالت أنا أحتال لك لإدخاله عليك فقعدت له في الطريق فلما مر بها قالت له إني امرأة كبيرة في السن ولي شاة لا أستطيع أن أحلبها فلو دخلت تحلبها لي ، وكانوا ارغب شي في الخير فدخل فلم يرى شاة ،فقالت : اجلس حتى آتيك بها فإذا المرأة قد طلعت عليه فلما رأى ذلك عمد إلى محراب في البيت فقعد فيه فراودته على نفسها فأبى وقال: اتقى الله أيتها المرأة فجعلت لا تكف عنه ولا تلفت إلى قوله فلما أبى عليها صاحت عليه فجاءوا فقالت :إن هذا دخل علي يريدني عن نفسي ، فوثبوا عليه وجعلوا يضربونه وأوثقوه فلما صلى عمر الغداة وبينما هو على ذلك إذ جيء به في وثاقه فلما رآه عمر قال (( اللهم لا تخلف ظني فيه )) فقال مالكم؟ قالوا: استغاثت امرأة بالليل فجئنا فوجدنا هذا الغلام عندها فضربناه وأوثقناه فقال عمر رضي الله عنه : أصدقني ، قال:يا أمير المؤمنين كان من الأمر كذا وكذا ،قال عمر رضي الله عنه : أتعرف العجوز؟ فقال نعم إن رأيتها عرفتها فأرسل عمر إلى نساء جارته وعجائزهن فجيء بهنّ فلما مرت هذه العجوز قال: هذه هي يا أمير ألمؤمنين فرفع عمر عليها الدرة وقال: اصدقيني ، فقالت له القصة كما قال له الفتى ، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل فينا شبيه يوسف عليه السلام .
روضه المحبين ص 459

نسأل الله تعالى أن يحفظنا بحفظه ويكلأنا برعايته ويرزقنا مراقبته وخشيته في السر والعلن والحمد لله رب العالمين

 

محمد الشمراني
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية