اطبع هذه الصفحة


الحسبة السياسية بديلا عن المعارضة السياسية
(دعوة إلى تأصيل المصطلحات السياسية)

محمد بن شاكر الشريف

 
(الجزء الأول)

المعارضة السياسية بما تحمله من مضمون تنافسي-بين جماعات سياسية منظمة لها تصورها الخاص في كيفية سياسة المجتمع وإدارته-للوصول إلى السلطة والسيطرة عليها، أو التأثير فيها عند عدم القدرة على الوصول إليها، مصطلح حديث نسبيا؛ إذ لا يتجاوز ظهوره في العالم قرنين من الزمان، ويجمل بنا أن نتعرف على المعنى اللغوي لكلمة المعارضة، فمادة عَرَضَ التي ترجع إليها تلك الكلمة لها عدة معان، والذي يتعلق بموضوعنا من ذلك مما جاء في لغة العرب ثلاثة معان: أحدها المقابلة بين شيئين أو عدة أشياء لتبين مدى الاتفاق أو الاختلاف بينها، فمن ذلك قولهم: عَارَضَ الشيءَ بالشيءِ مُعَارضةً: قابَلَه، و عارَضْتُ كتابـي بكتابه أَي قابلته، وفـي الـحديث: إِن جبريل، علـيه السلام، كان يُعارِضُ النبي  صلى الله عليه وسلم  القُرآنَ فـي كل سنة مرة وإِنه عارضَه العامَ الذي توفي فيه مرتـين ، قال ابن الأَثـير: أَي كان يُدارِسُه جمِيعَ ما نزل من القرآن من الـمُعارَضَةِ الـمُقابلة.
الثاني: المسابقة والتنافس والمباراة، و من ذلك قولهم: فلان يُعارضُنـي أَي يُبارينـي ، و عارَضَه فـي السير: سار حِياله وحاذاه، وعارضه بمثل ما صنع : أي أتى إليه بمثل ما أتى، وفلان يُباري الريحَ سَخاءً، وفلان يُباري فلاناً أَي يعارضه ويفعل مثل فعله، وهما يَتَبارَيانِ إِذا صنع كل واحد مثل ما صنع صاحبه، وفـي الـحديث: نهى عن طعام الـمُتَبارِيَـيْنِ أَن يؤكل ، هما الـمتعارضان بفعلهما لـيُعَجِّزَ أَحدُهما الآخَر بصنـيعه، وإِنما كرهه لـما فـيه من الـمباهاة والرياء، ومنه شعر حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:

يُبارِينَ الأَعِنَّةَ مُصْعِداتٍ *** علـى أَكْتافِها الأَسَلُ الظِّماءُ

الـمُباراة: الـمُـجاراة والـمسابقة أَي يُعارِضْنَها فـي الـجَذْب لقوة نفوسها وقوة رؤوسها وعَلْكِ حَدائدها، ويجوز أَن يريد مُشابَهَتَها لها فـي اللِّـين وسُرعة الانقـياد.
الثالث: المنع والاعتراض، ومن ذلك قولهم: كل مانِعٍ مَنَعَك من شغل وغيره من الأَمراضِ، فهو عارِضٌ، وقد عَرَضَ عارِضٌ أَي حال حائلٌ ومَنَعَ مانِعٌ ويقال: اعتَرَضَ الشيءُ دون الشيء أَي حال دونه و اعْتَرَضَ فلان فلانا أي وقع فيه و عَارَضهُ أي جانبه وعدل عنه ، فالمعارضة تعني الاعتراض والممانعة الناتجة عن اتضاح الرؤية من المقابلة والموازنة بين الأمور، أو الناتجة عن التنافس والتسابق، وهذه المعارضة منها ما هو ممدوح ومنها ما هو مذموم، وقد كثر استخدام لفظ معارضة في كلام أهل العلم بمعنى المخالفة والاعتراض والممانعة، فيقولون مثلا: هذه الرواية ليست مُعارَضة بتلك، ورواية فلان مُعارَضة برواية فلان، وقد اعتُرِض على هذا الاستدلال وهذه مُعارَضة صحيحة، ولا تجوز مُعارَضة الخبر الصحيح بالأخبار الضعيفة، وهذا نص صحيح صريح سالم من المُعارَضة، ومثل هذا كثير في كلامهم، فليس لها استخدام عندهم يزيد عن المعنى اللغوي من غير أن يكون لذلك اللفظ دلالة اصطلاحية، حتى إن الماوردي رحمه الله تعالى عندما استخدم ذلك اللفظ في الأحكام السلطانية لم يخرج في استخدامه له عن حد معناه اللغوي فقال الماوردي بعدما تحدث عن شروط الإمام: (فعلى كافة الأمة تفويض الأمور العامة إليه من غير افتيات عليه ولا مُعارَضة له ليقوم بما وكل إليه من وجوه المصالح وتدبير الأعمال) وقال عندما تكلم عن اختصاص بعض الوزراء وما يكلفهم به الخليفة: (يكون تقليد كل واحد منهما مقصورا على ما خص به, وليس له مُعارَضة الآخر في نظره وعمله) فالمُعارَضة هنا تعني الاعتراض عليه فيما يقول، ومخالفته فيما يذهب إليه، والامتناع من الإقرار له أو الخضوع والطاعة، وسبب المعارضة بمعنى الاعتراض والمخالفة والامتناع راجع إلى التباين في الآراء والتصورات، وذلك يرجع من المنظور الشرعي لعدة أمور فمن ذلك: عدم الإقرار لأحد من البشر غير رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بالعصمة فكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، ومنه: ليس أحد من الناس قوله ملزما بمجرده إلا رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، ومنه: عدم انحصار القدرة على معرفة الصواب في أناس معينين أو محددين، ومنه: الاشتراك في مسئولية إدراك الحق والعمل به والدعوة إليه، ومنه: اختلاف ملكات الناس وقدراتهم في الفهم والاستنباط، ومنه: أداء الأمانة في تبليغ الحق وعدم كتمان العلم، ومنه: عدم إمكانية الإجماع في كل رأي، كما قد يكون من أسباب المعارضة التنافس بين الناس، فكل ذلك وما جرى مجراه يكون داعية للاختلاف والتباين والممانعة والاعتراض والمعارضة، لكن هذا كله لم يجعل من تلك اللفظة مصطلحا فقهيا أو سياسيا في لغة أهل العلم يخرج عن حد معناها اللغوي، والمضمون الذي يريده بعض الناس من استخدام هذه اللفظة كاصطلاح، موجود على وضع أفضل وأدق منها في ألفاظ الشريعة، وذلك في ألفاظ مثل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة، والشورى، ولا شك أن ذلك الاستخدام هو الأولى والأفضل بل الصحيح؛ إذ أن لفظ المعارضة لفظ محايد، لا يدل على ما إذا كانت المعارضة أو الاعتراض على أمر باطل أو على أمر حق، فكله يطلق عليه معارضة، فهو لا يحمل بمقتضى لفظه قيمة تحمد أو تذم، وهذا بعكس الأمر بالمعروف فإنه لا يكون إلا بأمر تعرفه الشريعة وتقره وتدعو إليه، والنهي عن المنكر لا يكون إلا عن أمر تنكره الشريعة وتحض على تركه، والنصيحة تعم الأمرين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمعروف ينصح بالدعوة إليه والحض على فعله، والمنكر ينصح ببيان نكارته والحض على تركه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة المتعلقة بكليهما والشورى كل ذلك يحمل في طياته المعنى الحسن من المعارضة أو الاعتراض أو الممانعة، فهو يخلو من المعنى الفاسد كمعارضة الحق والخير، وليست هذه مجرد مفارقة شكلية أو مماحكة لفظية يمكن التغاضي عنها؛ إذ أن الأسماء والألفاظ لها تأثير في التعامل مع ما تدل عليه من المعاني، ولذلك جاء توجيه الرسول  صلى الله عليه وسلم  لأصحابه عندما كان الأعراب يسمون العشاء العتمة لكونهم يعتمون بحلاب الإبل أي يؤخرونه إلى شدة الظلام، فقال لهم: (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله العشاء، وإنها تعتم بحلاب الإبل ) فنهاهم عن استعمال ما تستعمله الأعراب في الدلالة على وقت العشاء، مع أن الوقت الذي يشير إليه الأعراب بهذه التسمية هو وقت صحيح للعشاء، وذلك لئلا تغلب السنة الجاهلية على السنة الإسلامية، وهذا يدلنا على أن علينا أن نعض بالنواجذ على ألفاظنا ومصطلحاتنا الإسلامية لا نبتغي بها بدلا ولا نستبدل بها شيئا مما يتداول اليوم في سوق الألفاظ والمصطلحات، فإن الجري وراء المصطلحات الوافدة والاغترار باستخدامها سوف يوقعنا في أسرها وأسر مدلولاتها، بحيث لا نملك الانعتاق منها ومما يتعلق أو يرتبط بها؛ لأن اللفظ إذا كان مستوردا فإنه يأتي ومعه معناه وشروحه وحواشيه، ولا يأتي مصطلحا فارعا من المضمون، فإذا حدث اختلاف في شيء يتعلق بذاك المصطلح فإن الاحتكام يكون لتلك المعاني والشروح والحواشي، لأنه لا تفسير له إلا هناك، وهذا واضح بيِّن في مسلك الآخذين بتلك المصطلحات، فإنهم ينزعون في الاستدلال على مخالفهم في صحة طرحهم وآرائهم بما قاله أرباب هذه المصطلحات، مما تتحول معه تلك المصطلحات في نهاية الأمر أن تكون عربية الحروف والمظهر، أعجمية المعاني والمخبر، وعلى ذلك فإن التحذير من ضرر استخدام المصطلحات الغريبة على شريعتنا وثقافتنا لا يمثل موقفا انعزاليا أو تقوقعا وانكفاء على الذات، وبعدا عن التفاعل مع العالم من حولنا، وإنما يمثل موقفا محافظا على مقومات الأمة وخصائصها ألا تذوب في غيرها ، فإن تلك المصطلحات محملة بدلالاتها الخاصة بها التي تكونت عبر أجيال عدة, وخبرات متطاولة في بيئة غير إسلامية, وهي بالطبع بيئة مناقضة لبيئتنا، على أن هناك من يظن إمكانية استعمال هذه المصطلحات واستخدامها بعد تفريغها من المضمون المخالف لشريعتنا وتعبئتها بمضمون صالح يوافق شرعنا ولا يخالفه، وهذا في الحقيقة يعد غفلة عظيمة، كما يمثل في الوقت نفسه اعترافا بسمو تلك المصطلحات وعمومها وصلاحيتها، وقبولا بسيادة تلك المصطلحات على مصطلحاتنا، وفي المقابل يمثل اعترافا بعجز ثقافتنا أن يكون لديها المصطلحات الخاصة بها، التي تدل على المضمون الذي نريده، ثم إن هذا التصرف سينتهي ولا بد إلى قبول المصطلح بكل شروحه وحواشيه؛ لأن عملية التفريغ ثم التعبئة هي في الحقيقة عملية غير ممكنة بل هي وهم كبير، وحتى إذا أمكن القيام بذلك فما جدوى الإتيان بمصطلح ذي مضمون نابع من بيئة مناقضة لبيئتنا فنفرغه من مضمونه، ونملأه بمضمون مناسب لنا، ألا يمثل هذا تبعية شديدة لهذا المصطلح، وكيف يمكن لنا أن نتحرر من الفكر الغربي ونحن نسلك هذا السلوك ونقدم مصطلحاته على مصطلحاتنا، لقد مثَّل استخدام تلك المصطلحات الوافدة كالديمقراطية والاشتراكية والمعارضة والليبرالية وغيرها في العقود الماضية، جناية عظيمة على الأمة في عقيدتها وشريعتها وثقافتها، ولم تفلح أية محاولة من محاولات التفريغ والتعبئة أو الطلاء بقشرة إسلامية أن تنتزع تلك المصطلحات من مضمونها، وقد كان هذا المسلك أحد العوامل المهمة التي ساهمت في إحداث قطيعة مع تراثنا الحقيقي كما حالت دون أي عملية تجديد أو إصلاح حقيقية، مما ترتب عليه نشوء أجيال من المثقفين أو ممن يشار إليهم على أنهم نخبة أو صفوة المجتمع لا تعرف من دينها في الجانب السياسي أو الاقتصادي إلا ما كان مستجلبا من الفكر الغربي، وقد أحدث ذلك التصرف شقة عميقة بين تلك الأجيال وبين معرفة دينها معرفة صحيحة خاصة في تلك الجوانب، حتى أصبح من الصعوبة بمكان التغلب عليها إلا بذل جهد مضاعف في سبيل ذلك، إن من الأمور الغريبة أن تجد من يريد إدخال مصطلح المعارضة بمعناه الغربي في جسم أو ضمن نسيج النظام السياسي الإسلامي يحتج بأن هذه اللفظة عربية، وكأنه نسي أو جهل أن هذه اللفظة العربية لا تستخدم الآن حسب استخدامها العربي المعروف، وهم يحتجون على صواب إدخال تلك المفردة في المصطلحات السياسية الإسلامية بالنصوص الشرعية التي تتحدث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحض على النصيحة والدعوة إلى الشورى، ولكن عندما يأخذون في الحديث عن المعارضة وتفصيلاتها، تجدهم يتحدثون عنها على نحو ما هو موجود في الفكر الغربي ، فكأن هذه النصوص لم يلجأ إليها في الواقع إلا لتكون مجرد وسيلة للعبور عليها إلى قبول فكرة المعارضة، وإذا أعوزتهم الحجة التاريخية على أن يجدوا في التاريخ الإسلامي ما يدعم نظرتهم إلى مصطلح المعارضة، يمموا وجوههم شطر الفرق المذمومة التي جاء ذمها في النصوص الشرعية كالخوارج والشيعة وأضرابهم، وجعلوها سندا تاريخيا على معرفة المسلمين بالمعارضة واستعمالهم لها، وهذا من أعجب الاستدلال حيث يستدل على صواب المعارضة بسلوك من ذمتهم النصوص من أجل سلوكهم هذا، وكان حقه أن يستدل بذلك على فساد المعارضة لا على أنها ظاهرة صحية.

ظاهرة المعارضة في السلوك الإنساني:
الاعتراض أو المعارضة، والاختلاف أو المخالفة؛ ظاهرة إنسانية من لوازم المجتمع الإنساني، فحيثما وجد الإنسان في جماعة فلا يخلو ذلك الاجتماع من تباين وجهات النظر تجاه كثير من الأمور، التي ينظر إليها على أنها من المضار أو من المصالح، وما يترتب على ذلك من تعارض الإرادات في السعي لجلب ما يظن مصلحته، أو العمل لكف ما ينظر إليه على أنه من المضار، لذلك فلا يمكن أن تتحقق مصالح بني آدم عند اجتماعهم إلا من خلال نظام صالح يحقق المصالح ويدفع المضار، ولا يتأتى ذلك إلا في ظل وجود القواعد المنظمة لذلك، والتي لا تؤدي وظيفتها ودورها إلا إذا كانت ملزمة يلزم اتباعها وعدم الخروج عليها، ومن لازم ذلك القدرة على مجازاة المخالف وإجباره على التقيد بتلك القواعد الصالحة، وهذا كله لا يتم إلا في وجود سلطة آمرة ناهية ملزمة، قادرة على إنفاذ إرادتها على المجتمع الإنساني ، ويمكننا أن نستخلص من هذا العرض المطول لتلك الظاهرة عدة حقائق إنسانية، فمن ذلك: أن الإنسان له إرادة خاصة به وهو لا يحب أن يُكره أو يُجبر على أن يرى ما لا يرى، أو أن يختار ما لا يختار، وأن الإنسان له رغبة في تحصيل المنافع والمصالح والسعي في سبيل المحافظة عليها، كما أن له رغبة في دفع المفاسد والمضار والعمل على تقليلها إلى أقصى حد ممكن، وأنه لا يوجد اتفاق كامل في التصورات المتعلقة بالنظر إلى المصالح والمفاسد، ومن ثم عدم اتفاق الإرادات في العمل لجلب المصالح ودفع المفاسد، وهذه ولا شك إشكالية تحتاج إلى حل، وقد حاولت التجمعات الإنسانية المتعددة والمتباينة على مدى الزمن حلَّ ذلك انطلاقا من ثقافتها وحضارتها وظروف بيئتها، وقد تنوعت تلك الحلول واختلفت باختلاف الزمان والمكان

الحل الغربي المعاصر:
يقوم الحل الغربي على قبول الواقع كما هو والرضوخ له عن طريق التقنين له، بدلا من محاولة إصلاحه وتقويم اعوجاجه، فقدم في سبيل ذلك فكرة الحرية المطلقة من كل قيد: في التصورات والاعتقادات والإرادات، ولم يستثن من ذلك كله إلا ما كان فيه ضرر يعود على الآخرين، وانطلاقا من فكرة الحرية المطلقة فإنه يحق لكل أحد أن يبني عالمه الخاص به، النابع من داخله هو أي من تصوراته الشخصية بدون أية قيود خارجية سواء كانت من الدين أو من عادات المجتمع ومواضعاته أو أي شيء آخر، ولا يلزم للاعتراف بهذه الرؤية سوى أن تكون بإرادته من غير إجبار، كما لا يلزم لإقرارها بصورة نظامية في المجتمع سوى كثرة أعداد القائلين بها حتى يكونوا أكثر من المخالفين لها، ومن لازم ذلك فإنه يحق لكل أحد أن يعترض على أي شيء في المجتمع إذا سلك الطريق النظامي المقرر في الاعتراض، ويحق له أن يظل على اعتراضه ويصر عليه بل ويدعو إليه، حتى لو كان ما يذهب إليه خطأ وضلالا تماما، ويخالف أعراف المجتمع ومواضعاته، ما دام أنه لا يستعمل في الدعوة إليه سوى الوسائل السلمية ولا يتجاوز ذلك إلى الوسائل العنيفة لإكراه الآخرين عليها، ومن الممكن أن يتحول هذا الخطأ والضلال إلى حق وصواب، إذا تمكن الداعي إليه من استقطاب الأغلبية المطلوبة التي توافقه وتقبل دعوته، ومن ثم يصير رأيا وجيها يُعمل به ويُحتكم إليه، فالصواب والخطأ في التصورات والأفكار والاعتقادات لا يأتي في ذلك الحل من أمر خارج عنها، وإنما يأتي من داخلها نفسها حسب قناعات الأفراد، وترتب على ذلك أن نشأ في الفكر السياسي الغربي ما يُعرف اليوم على أنه المعارضة التي تعني تمايز المجتمع وانقسامه حول بعض الاختيارات أو المحاور السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتباينة، ثم تنضوي كل فئة من الناس تحت الخيار الذي يناسبها، ويسعى كل فريق بعد ذلك من أجل الوصول إلى سدة الحكم ليفرض رؤيته الخاصة في جلب المصالح ودفع المفاسد، دونما تقيد أو ارتباط برؤية الآخرين المخالفة أو تصوراتهم، على أساس أن وصولهم للحكم عن طريق اختيار الناس لهم يعني قبول منهجهم، وإلا لما اختارهم الناس ، فبدلا من السعي نحو إيجاد جمهرة عظيمة من الأفكار والتصورات يلتقي حولها الناس، حل محله تقسيم الناس وتوزيعهم حول عدة محاور متناقضة، مع تكريس ذلك التناقض عن طريق تنظيمه ووضع القواعد التي تضبطه، وبدلا من تقديم فكرة التعاون على البر والتقوى وجمع الكلمة على فعل الخير ودفع الشر في ظل توافق عام أو أغلبي على تحديد المصالح والمفاسد، قدم بدلا منها فكرة التنافس والتصارع للوصول إلى سدة الحكم ليفرض الفريق الفائز رؤيته لتلك الأمور، فالقضية بدأت في أولها بالحرية المطلقة من أية قيود ثم انقلبت في نهاية الأمر بفرض رؤية الأغلبية وإرادتها على الأقلية، وبهذا ينقسم المجتمع إلى حكومة ومعارضة : الحكومة تقول وتفعل ما تشاء استنادا إلى ما تدعيه من التفويض الممنوح لها، والمعارضة تعارض الحكومة وتقدم رؤيتها من أجل إقناع الناس للوصول إلى الحكم، وإزاحة الحكومة وتحويلها إلى معارضة وتقوم هي بالدور نفسه الذي كانت تقوم به الحكومة ، فالعلاقة القائمة بين الحكومة وبين ما يُدْعَى بالمعارضة في هذا الفكر السياسي علاقة الترصد والتنافس لا علاقة التعاون والتعاضد من أجل خير المجتمع ، والهدف من ذلك الوصول إلى كرسي الحكم وليس ابتغاء وجه الله طلبا للأجر والمثوبة منه، أو السعي للإصلاح، ولا شك أن الفكرة القائلة بأن كسب الأغلبية الموصلة للحكم تعطي الحق في فرض الآراء والتصورات وصوغها قوانين ملزمة تفرض بالقوة على الجميع، تدفع المتنافسين في سبيل الوصول إلى الحكم للوقوع في تجاوزات كثيرة لا يمكن قبولها تحت أي مسوغ، فهناك التزوير، وهناك الرشوة المباشرة وغير المباشرة، وهناك التلاعب بالبيانات وشراء الذمم، بحيث لم يقتصر ذلك على مجتمع يقال عنه مجتمع متخلف، بل أصبح ذلك سمة في المجتمعات جميعها المتقدمة والمتخلفة منها على السواء، وإن كانت النسب بلا شك تتفاوت من دولة إلى أخرى، وهذا الحل غير مقبول إسلاميا لأنه حل في حقيقته يقوم على الانفلات الكامل في الأفكار والعقائد والتصورات بزعم الحرية، ويترتب عليه أمور أيضا غير مقبولة إسلاميا: كتفرقة الأمة وتجزئتها وتحويلها إلى فئات متناحرة، والسعي في طلب الحكم الذي يقوم على تزكية النفس وترصد الآخرين والبحث عن زلاتهم.

الحل الإسلامي:
وقد قام الحل الإسلامي على عدة أسس: ففي جانب عدم اتفاق التصورات وتعارض الإرادات فذلك حله في الرجوع إلى الأحكام الشرعية والتقيد بها من جميع المسلمين بلا فرق بين أحد منهم ، وما كان من الأمور التي لا يوجد فيها النص الملزم، فإن ذلك يتم عن طريق الاجتهاد القائم على ضوابط معلومة في بذل الجهد للتعرف على الحكم الذي يوافق الأحكام الشرعية، في جو من التناصح والتشاور، وأما السعي في تحصيل المنافع والمصالح فذلك حله في الأحكام المتعلقة بالأمر بالمعروف، وكذلك السعي في دفع المفاسد والمضار فذلك حله موجود في الأحكام المتعلقة بالنهي عن المنكر، ومن هنا فإن الحل الإسلامي راعي الواقع من غير أن يستسلم له، أو يرضخ لظروفه المتقلبة، بل عمل على قيادته وإصلاحه.

آليات الحل الإسلامي:
النظرة الإسلامية في سياسة الدنيا قائمة على أن الجميع عباد الله وهم على قدم واحدة في هذه العبودية بلا امتيازات بينهم، وأن العباد مستخلفون في هذه الأرض، وأن الجميع يشتركون في تحمل مسئولية قبول الحق وأمانة تبليغه، وأمانة السعي في سبيل إقراره وتحمل الشدائد في مواجهة من يعارضه أو يقف في سبيله، والقيام بعمارة الأرض وإصلاحها وكف الفساد عنها، فليس هذا الهَمُّ هَمَّ مجموعة معينة من الناس، بينما يبقى المجموع الباقي وكأنهم أجراء، ليس لهم إلا الأجر في مقابل الطاعة فيما يكلفون به من عمل، أو كأنهم عابرو سبيل ليس لهم من الحقوق إلا ما يتمتع به عابر السبيل، بل الكل شركاء ومتضامنون في جلب المصالح (الدينية والدنيوية) وكذلك دفع المفاسد (الدينية والدنيوية)، ولذلك لا يجوز تهميش الرعية أو أغلبيتها بدعوى أن ذلك ليس من شأنها، بل ينبغي أن تمكن الرعية من كل حق أعطته الشريعة لهم، إذ هذا شرط الفلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة، إذ بمثل هذه المشاركة يشعر المسلم بانتمائه الحقيقي لدار الإسلام مما يستنهض همته للسعي في خيرها, والدفاع عنها عندما يَدْهم الأعداء بلاد المسلمين، أو تدلهم الخطوب، وإذا كنا لا نستطيع أن نغطي في هذا المقال الموجز الحديث عن الآليات المتبعة في الحل الإسلامي لتحقيق ذلك فإنه يكفينا في ذلك أن نقدم حديثا موجزا عن ذلك, فمن تلك الآليات:المتابعة والمراقبة: إذ الكل شريك والكل مسئول وهذا يستوجب أن يحرص كل أحد على المتابعة والمراقبة حتى لا يحدث خرق في اتجاه لا يشعر به أحد, فيكون فيه الهلاك، ولهذه المتابعة والمراقبة دواعي منها: أن الإيمان يزيد وينقص والشيطان يتربص بالإنسان يلتمس منه غرة، و أن الأمة مسئولة عن المحافظة على الدين والدنيا، وأن الرؤية الصحيحة قد تغيب عن العض بسبب عوامل كثيرة، وهذه المتابعة والمراقبة ليست على سبيل التخوين أو الشك, وإنما ضمانا لحسن سير الأمة وانتظامها في طريقها المستقيم من غير اعوجاج ، وحتى إذا حدث اعوجاج أو بُعد عن المنهاج أمكن الرد إلى الطريق المستقيم من قريب، والفرق بين مراقبة الشك والتخوين ومراقبة ضمان الانتظام وحسن السير: أن الأولى تعتمد على الشك والارتياب، وتغليب الظنون على اليقين والظاهر, والتماس المعايب والأخطاء، بينما الثانية تعتمد الحقائق وتغلب اليقين على الظنون، والسعي إلى الإٌصلاح، وكذلك تستند إلى الظاهر وتقبل المسوغات من غير تعنت أو غفلة, تحدوها في ذلك الرغبة في الحفاظ على مصلحة الأمة، والمتابعة والمراقبة قد يتلوها الإشادة والتأييد عند استقامة الأمور وسيرها في مجراها الطبيعي، كما قد يتلوها الإنكار عند خروج الأمر عن طريقه المستقيم حتى يصل التصرف إلى حد العصيان أو مقاومة الطغيان، والإنكار هنا له درجاته المتعددة بحسب درجة الخروج عن الطريق المستقيم وكيفيته، حسب ما هو مفصل في فقه إنكار المنكر .
ومنها: حق التعبير عن الرأي ما لم يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا، وانطلاقا من المسؤولية والمشاركة وعدم انحصار الصواب في اجتهاد طائفة من المسلمين، وانطلاقا من التكليف وعدم الوصاية على العقلاء العالمين البالغين، فإنه يحق للمسلم أن يعتقد ما يراه صوابا بالشروط السابقة، وأن يدعو إليه بغض النظر عن موافقة ذلك أو مخالفته للسلطة، ولا تكون مخالفته للسلطة في الرأي مدعاة لمنعه من الدعوة إلى الصواب إذا كان يستدل عليه بالأدلة الصحيحة وليس فيه مخالفة للدين، بل على السلطة أن تمكنه من ذلك، وترده للطريق المستقيم إذا خرج عن الجادة، وحق التعبير عن الرأي لا يعارض واجب الطاعة، فالمسلم يجب عليه طاعة ولاة أموره المسلمين في المعروف، كما أن عليه أن يعمل بالحق ويدعو إليه
ومنها: عدم الإلزام بالرأي الاجتهادي؛ إذ العقول متفاوتة والاجتهادات تابعة لعقول أصحابها، والإلزام بالرأي الاجتهادي يعد نوعا من الإكراه، بل يجعل الرأي الاجتهادي في منزلة تضاهي منزلة النصوص الشرعية, وهو ما تأباه القواعد الشرعية.
ومنها: اللجوء إلى المحكمة: وانطلاقا أيضا من الشراكة وأنه ليس أحد أحق من أحد في الحفاظ على مصالح الأمة بجلب الخير لها ودفع الشر عنها، فإنه إذا تعارضت التصورات في النظر إلى المصالح أو الحقوق أو الواجبات العامة التي لا يختص بها أحد دون الآخر، وتباينت لأجل ذلك الإرادات، لم يكن لأحد أن يقضي على الآخر أو أن يلزمه بما يراه، انطلاقا من استناده إلى وسائل القوة التي يحوزها، بل يحتكم الطرفان إلى المحكمة التي تفصل في ذلك بناء على البينات المقدمة، واستنادا إلى الشريعة في نصوصها ومقاصدها .
الحسبة أو الاحتساب: هذه الآليات المذكورة لم يكن هناك اسم يخصها من بين تشريعات الإسلام المتعددة في مختلف حياة المسلمين الدينية والدنيوية، وكانت كلها داخلة تحت المعنى العام لنظام الإسلام في الدين والحياة، لكن هل هناك ما يمنع من جمع مجموعة من الأحكام الشرعية المتعلقة بموضوع معين تحت اسم يكون معبرا عن ذلك؟ الذي تدل عليه تصرفات العلماء السابقين أنه لا يوجد ما يمنع من ذلك أو يحول بينه، وقد صنف أهل العلم كتبا كثيرة في موضوعات محددة فهذا يصنف في أحكام العبادات وذاك يصنف في أحكام الجهاد وثالث يصنف في الغزوات والسير وآخر يصنف في الأحكام السلطانية وغيره يصنف في السياسة الشرعية وهكذا، والقيد الوحيد الذي يمكن وضعه على ذلك أن يكون هناك توافق حقيقي بين الاسم المختار وبين الموضوعات التي يعالجها حتى لا يحدث اختلاط أو اضطراب، ونحن في ظل الأوضاع المعاصرة نحتاج إلى مصطلح نضع تحته هذه الآليات وأضرابها، حتى تكون واضحة في أذهان الناس الموافقين والمخالفين على السواء، وحتى لا تجرف المصطلحات الوافدة عقول الناس وتغلب عليهم؛ لخلو الساحة من مصطلح بديل يعبر عن الحقائق الشرعية بدون مخالطة للباطل، على النحو الذي نراه في المصطلحات الوافدة كما بينا من قبل، وينبغي علينا أن نركز في حديثنا أو استخدامنا على ذلك المصطلح حتى يكتسب الشيوع والقوة، وأقرب ما يكون من المصطلحات التي يمكن أن تعبر عن تلك الآليات هو لفظ الحسبة السياسية بمعناها العام التي تشمل الحسبة على المسلمين جميعهم الحكام والمحكومين، والداعي إلى اختيار هذا المصطلح أمور منها: أن الحسبة مصطلح شرعي مستخدم في تراثنا الشرعي، وأنه مدلول عليه بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وعمل الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وأنه خال من اشتماله على أنواع من الباطل كما في المصطلحات الوافدة، وأنه يعبر عن طبيعة القيام بهذا العمل وهو احتساب الأجر وابتغاؤه من الله العلى الكبير من غير بحث عن مغنم أو منصب دنيوي.
نظام الحسبة: الحسبة نشأتها ترجع إلى النصوص الشرعية التي تدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) فالحسبة على هذا شاملة ليست قاصرة على باب دون باب من أبواب الشريعة، كأن تُحصر في الاحتساب على منكرات الأسواق أو الأفراح، أو الاحتساب على الآداب الاجتماعية، أو الاحتساب على أداء الصلوات ونحو ذلك، فهذا كله من الحسبة بلا شك، لكنه ليس الحسبة كلها، وإنما الحسبة تدخل في أمور الدين كلها: ما تعلق بالأفراد، وما تعلق بالمجتمع، وما تعلق بالسلطة، وما تعلق بالاعتقادات أو العبادات أو المعاملات أو السياسة أو الاقتصاد، يقول الماوردي رحمه الله تعالى: الحسبة هي أمر بمعروف إذا أظهر تركه ونهي عن منكر إذا أظهر فعله) والكلام هنا مطلق غير مقيد، والمعروف اسم جامع لكل ما أمر به الشرع أو دعا إليه أو حض عليه أو أقره ولم يغيره، والمنكر اسم جامع لكل ما نهى عنه الشرع أو خالف الشرع وعارضه، وهذا مما يبين أن مجال الحسبة رحب فسيح يعمل في الاتساع الذي يشمله اسم المعروف واسم المنكر، انطلاقا من عموم رسالة الإسلام وشموله للزمان والمكان، وليست هي محصورة في صور نمطية معينة، أو نماذج محددة، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : (المعروف هو الحق الذي بعث الله به رسوله، والمنكر هو ما خالف ذلك من أنواع البدع والفجور) ونظرا لأن (عموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولي بالولاية يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف، وليس لذلك حد في الشرع، فقد يدخل في ولاية القضاء في بعض الأمكنة والأزمنة ما يدخل في ولاية الحرب في مكان وزمان آخر وبالعكس، وكذلك الحسبة وولاية المال، وجميع هذه الولايات هي في الأصل ولاية شرعية ومناصب دينية) ، وإذا كانت أكثر الكتب المصنفة في الحسبة ونظامها قد اقتصرت على الحسبة في المعاملات من بيع وشراء، ومكاييل وموازين، وعقود ونحو ذلك، ولم تتوسع فيما يتعلق بالاحتساب في الجانب السياسي، فإن ذلك لا يعني عدم وجود الحسبة السياسية من ناحية الواقع، فإن النصوص الدالة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشمل بعمومها الاحتساب في جانب المعاملات كما تشمل الاحتساب في جانب السياسة، ثم إن الحسبة السياسية قد وجدت ممارستها في الصدر الأول، وإذا لم يكن قد تم تنظيمها فهذا شأن كثير من الأمور لم يحدث تنظيمها عن طريق النصوص الشرعية، وإنما ترك ذلك للاجتهاد الشرعي الصحيح القائم على النصوص والذي يراعي في ضوء التقيد بذلك خصوصية البيئة من حيث: الإمكانات والاحتياجات، فإن المجتمعات متغيرة من حيث الصغر والكبر، ومن حيث الضيق والاتساع، كما أن معارفها ووسائلها الدنيوية قد تزيد وقد تنقص، وكذلك حالاتها الإيمانية قد تقوى وقد تضعف، وحاجة المجتمع الصغير غير حاجة المجتمع الكبير، وحاجة المجتمع الذي تزيد فيه المعدلات الإيمانية غير حاجة المجتمع الذي ضعف إيمانه، ويكون النص على وسيلة واحدة أو عدة وسائل في ذلك الزمان المبكر بمثابة النص على الاقتصار عليها وعدم تجاوزها، مع أن أصل تطبيقها إنما كان لمناسبة موافقتها لظروف بيئتها واحتياجاتها، وليس لخصوصيتها، ومن هنا فلا ينبغي الاقتصار على تلك الوسائل ثم تحرم الأمة من الانتفاع بعد ذلك بما يتوصل إليه المسلمون على مدى الزمن، مما يحقق مصالحهم الموافقة لظروفهم وبيئتهم مما يوافق الشريعة ولا يخالفها، فلأجل ذلك دلت النصوص على الأحكام التي ينبغي الالتزام بها من غير إلزام بطريقة تنفيذ هي في أصل إقرارها متأثرة بالواقع نفسه، فالموقف الشرعي من الوسائل والأساليب أن كل طريق أو وسيلة أو أسلوب يؤدي إلى تحقيق الحكم الشرعي في الواقع من غير ترتب فساد عليه، فهو طريق أو وسيلة أو أسلوب مشروع يجوز إتيانه والعمل به، ومن البدهي أن الوسيلة أو الأسلوب أو الطريق إذا كان مما يخالف في تفاصيله الشريعة فلا يعول عليه ولا يعتد به شرعا وإن كان يحقق في الظاهر مصلحة وذلك (أن الطرق التنفيذية هي وسائل لتحقيق الغايات، والوسائل لا تراد لذاتها وإنما تراد لما يترتب عليها، فربما لو ألزم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها على مدى الزمن بطريق عملي واحد أو بوسيلة واحدة لتعسر عليهم ذلك، ووجدوا فيه من الحرج والمشقة الشيء الكثير، لاسيما أن الوسائل تتعدد وتتباين وقد يكون بعضها ميسرا وبعضها عسيرا، وقد يختلف العسر واليسر للوسيلة نفسها باختلاف الزمان والمكان والله تبارك وتعالى يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر) ، وإذا لم يكن قد حدث تنظيم للحسبة السياسية في عهد الرسول  صلى الله عليه وسلم  فلا يعني ذلك أن تنظيمها بعده بدعة في الدين، أولا: لأن هذا التنظيم هو من قبيل وضع الأنظمة التي تكفل تحقيق المراد شرعا على وجه منظم حتى لا يحدث قصور فيه، وليس من قبيل التشريع، وثانيا: فإن الحسبة في جانب المعاملات أيضا لم تكن منظمة في عهد الرسول  صلى الله عليه وسلم  ثم نظمت بعده عند الحاجة إلى التنظيم، ولم يقل أحد من أئمة الفقه في دين الله أن ذلك بدعة، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قاعدة مهمة في ذلك حيث يقول: (والترك الراتب : سنة كما أن الفعل الراتب : سنة، بخلاف ما كان تركه لعدم مقتض أو فوات شرط أو وجود مانع، وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ كجمع القرآن في المصحف وجمع الناس في التراويح على إمام واحد، وتعلم العربية وأسماء النقلة للعلم وغير ذلك، مما يحتاج إليه في الدين بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه  صلى الله عليه وسلم  لفوات شرطه أو وجود مانع) فإذا تُرك شيء لعدم المقتضي لفعله، فإن فعله بعد قيام المقتضي له لا يعد بدعة، وكذلك الحكم إذا كان الترك لوجود مانع ثم زال المانع أو كان الترك لفوات شرط ثم تحقق الشرط، ومع ذلك فإنا نقول: قد حدث نوع من التنظيم في جانب الحسبة السياسية وإن لم يكن شاملا وهو ما عرف في الأحكام السلطانية بـ (ولاية المظالم) فقد كان من مهامها: النظر في تعدي الولاة على الرعية فيتصفح والي المظالم عن أحوال الرعاة فيقوي المنصف منهم ويعينه، ويكف من يظلم منهم عن ظلمه، ويعزل من لا يصلح معه إلا العزل ويستبدل به غيره .
فالأحكام السياسية المتعلقة بشروط الولاة وطرق توليتهم وحقوقهم وواجباتهم وموجبات عزلهم وغير ذلك كل هذه الأحكام موجودة مسطورة في كتب أهل العلم، لكنه لم تقم مؤسسات لها نظام محدد في كيفية وجودها وعملها للقيام بمثل تلك الأمور وكيفية الاحتساب عليها، وقد كان لهذا ما يسوغه في الصدر الأول من حيث قوة الإيمان من جانب، ومن حيث صعوبة الاتصالات من جانب آخر، لكننا في عصرنا مع توسع الأمور وتطورها وتعقدها في حاجة لمثل هذا النظام الذي يحدد الطرق والوسائل بحيث يصير معلوما: ماذا يجب؟، وكيف يمكن أن نفعله؟ والطريقة العملية المناسبة، وكيف يمكن أن نحتسب؟ وذلك لتحقيق أمرين: أولا حتى لا يشعر بعض المسلمين بنوع من العجز أمام النظم الأخرى التي يخطف بريقها الزائف أنظار كثير من بني جلدتنا، رغم أنها أنظمة باطلة أسست على غير شرع منزل، بل أسست على مخالفة الشرع المنزل، وثانيا: حتى لا يتمكن أحد من الالتفاف حول هذه الأحكام المسطورة في كتب أهل العلم ويتجاوزها، ومن الأمور التي تحتاج إلى تنظيم في واقعنا الذي نعيشه: تنظيم اختيار الحاكم ومن يساعده، أو ما يسمى- في وقتنا المعاصر-بالسلطة التنفيذية، وتنظيم حق إبداء الآراء والأفكار والدعوة إليها، وتنظيم حق أو واجب مقاومة الطغيان والاستبداد، وتنظيم واجب التصدي للانحراف والخروج عن المنهج الشرعي، وتنظيم الشورى والنصيحة ، وتنظيم واجب طاعة الولاة ونصرتهم، وغير ذلك من الأمور التي نحتاج إلى إخراجها من كونها مجرد مدونات فقهية إلى أنظمة عملية تتم وفق الأحكام الشرعية المتعلقة بها.
 


الحسبة السياسية
بديلا عن المعارضة السياسية
الجزء الثاني

نماذج من الحسبة السياسية:
أول من باشر الحسبة السياسية رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فقد احتسب على عامله ابن اللتبية جامع الصدقة فعن أبي حميد الساعدي قال: ( استعمل رسول الله  صلى الله عليه وسلم  رجلا على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم وهذا هدية، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  :فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا، ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يده حتى رئي بياض إبطه يقول:اللهم هل بلغت بصر عيني وسمع أذني) فقد حاسبه رسول الله  صلى الله عليه وسلم  لكن الأمر لم يكن في حاجة إلى وضع نظام في المحاسبة، واكتفى الرسول  صلى الله عليه وسلم  بأن قال له ما قال ثم خرج إلى الناس فوعظهم، لأن ذلك كان يكفي في تحقيق المطلوب في ذلك الزمان، فلما كان عمر رضي الله تعالى عنه حول ذلك إلى نظام، للحاجة إليه، فكان رضي الله تعالى عنه عندما يريد أن يستعمل عاملا ويوليه ولاية كان يحصي عليه ماليته، ثم إذا انتهى من ولايته يحصي عليه ماليته، ويوازن بين الماليتين ثم إن وجد أن هناك زيادة غير معقولة شاطره هذه الزيادة فترك له النصف وجعل النصف الباقي في بيت المال، وقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم  محاسبة خالد بن الوليد سيف الله المسلول رضي الله عنه من قبل جنوده الذين هم تحت إمرته، عندما امتنعوا من تنفيذ أمره، عندما أخطأ في اجتهاده وقتل الذين قالوا صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين ، وهذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقر مبدأ الحسبة السياسة عقب توليه الخلافة مباشرة إذ خطب الناس وقال لهم :"راعوني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني" ، مما يبين أن الحسبة ليست قاصرة على الرعية دون الولاة، لأن الكل في ميزان الشرع عبد لله، والحاكم والمحكوم كلاهما مطالب بعبادة الله وحده وطاعته واتباع ما شرعه، وما طلبه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه من الصحابة لا يتـأتى منهم إلا بعد المتابعة والمراقبة التي بها يتمكنون من معرفة الإحسان والاستقامة أو الإساءة والزيغ، وهذا عمر رضي الله تعالى عنه يقول: (إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إليَّ فوالذي نفسي بيدي إذًا لأقصنِّه منه، فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين أو رأيت أن كان رجل من المسلمين على رعية فأدب بعض رعيته أئنك لمقتصه منه قال: أي والذي نفس عمر بيده إذ لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يقص من نفسه: ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تجمروهم فتفتنوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم) فعمر رضي الله عنه يحض رعيته على عدم السكوت على ظلم الولاة، ويوجه الولاة بعدم منع المسلمين حقوقهم والعمل على راحتهم والحفاظ عليهم، بل إن الحسبة لا تمتنع حتى في اللحظات الصعبة كلحظات الحرب ونحو ذلك، فقد حفظت لنا الوقائع ما كان من أمر عمر عندما أراد أبو بكر رضي الله تعالى عنه قتال مانعي الزكاة فاعترض عمر وقال : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فمن فعل ذلك فقد عصم مني ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على الله، فبين له أبو بكر وجه الصواب في موفقه حتى ظهر الأمر لعمر وتبين له صواب موقف الصديق وسداد رأيه، ولم يرفع أبو بكر رضي الله عنه في وجه عمر رضي الله عنه تلك المقولة الزائفة: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، والقصد أن حالة الحرب لم تمنع من الحسبة فالمحكوم بذلها والحاكم قبلها، لأن الحسبة ليست كالمعارضة لتحقيق مكاسب ذاتية، وإنما هي ضمانة الحفاظ على الأمة وعلى الشريعة، وقد كان الحفاظ على الشريعة وتقديم كتاب الله هو أولى ما يحرص عليه المؤمنون، فقد ذكر الحسن البصري رحمه الله أن زيادا بعث الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه على خراسان فأصابوا غنائم كثيرة، فكتب إليه أما بعد: فإن أمير المؤمنين كتب أن يُصطفي له البيضاء والصفراء، ولا تقسم بين المسلمين ذهبا ولا فضة، فكتب إليه الحكم أما بعد: فإنك كتبت تذكر كتاب أمير المؤمنين، وإني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين، وإني أقسم بالله لو كانت السماوات والأرض رتقا على عبد فاتقى الله لجعل له من بينهم مخرجا والسلام، وأمر الحكم مناديا فنادى أن اغدوا على فيئكم فقسمه بينهم، وأن معاوية لما فعل الحكم في قسمة الفيء ما فعل، وجه إليه من قيده وحبسه، فمات في قيوده ودفن فيها وقال: إني مخاصم) ، وقد كانوا يتواصون فيما بينهم بذلك، ولعل ما حدث من الحكم كان بسبب تذكيره بذلك من عمران بن حصين فعن الحسن: (أن زيادا استعمل الحكم بن عمرو الغفاري على جيش فلقيه عمران بن حصين في دار الإمارة فيما بين الناس، فقال له: أتدري في ما جئتك؟ أما تذكر أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  لما بلغه الذي قال له أميره: قم فقع في النار، فقام الرجل ليقع فيها فأدركه فأمسكه، فقال النبي  صلى الله عليه وسلم  : لو وقع فيها لدخل النار، لا طاعة في معصية الله، قال الحكم: بلى قال عمران: إنما أردت أن أذكرك هذا الحديث) ، ولم تكن الولاة يمنعون الرعية من الاحتساب، ولا يستخدمون سلطانهم أو قوتهم في تعطيلهم أو عرقلتهم عن القيام بذلك، فهذا عمر رضي الله عنه وقد رأى رأيا في الأرض المغنومة وخالفه في ذلك الفاتحون واحتجوا عليه بما يرونه حجة لهم، فلم يلزمهم ولم يقهرهم، وإنما أخذ يحاججهم بما يرى صوابه ومصلحته، فعن نافع مولى بن عمر يقول: أصاب الناس فتح بالشام فيهم بلال وأظنه ذكر معاذ بن جبل رضي الله عنهما، فكتبوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن هذا الفيء الذي أصبنا، لك خمسه ولنا ما بقي، ليس لأحد منه شيء كما صنع النبي  صلى الله عليه وسلم  بخيبر، فكتب عمر رضي الله عنه: أنه ليس على ما قلتم، ولكني أقفها للمسلمين، فراجعوه الكتاب وراجعهم: يأبون ويأبى، فلما أبوا قام عمر رضي الله عنه فدعا عليهم فقال: اللهم اكفني بلالا وأصحاب بلال، قال فما حال الحول عليهم حتى ما توا جميعا، قال الشيخ رحمه الله قوله رضي الله عنه: أنه ليس على ما قلتم ليس يريد به إنكار ما احتجوا به من قسمة خيبر، فقد رويناه عن عمر عن النبي  صلى الله عليه وسلم  ويشبه أن يريد به ليست المصلحة فيما قلتم، وإنما المصلحة في أن أقفها للمسلمين وجعل يأبى قسمتها، لما كان يرجو من تطييبهم ذلك، وجعلوا يأبون لما كان لهم من الحق، فلما أبوا لم يبرم عليهم الحكم بإخراجها من أيديهم ووقفها، ولكن دعا عليهم حيث خالفوه فيما رأى من المصلحة، وهم لو وافقوه وافقه أفناء الناس وأتباعهم، والحديث مرسل والله أعلم ) والشاهد أن عمر وهو الإمام لم يقهرهم على رأيه الاجتهادي بل ظل يراجعهم ويراجعونه، ويأبى عليهم ويأبون عليه، وكان أقصى ما عمله معهم أن لجأ إلى الله بقوله :" اللهم اكفني بلالا وأصحاب بلال" لقد كانت الحسبة في حس وشعور المسلمين حتى في عوامهم الذين قد يتصور عدم تنبههم لمثل ذلك، ولكن الإسلام قد رباهم على ذلك فصاروا يتصرفون في هذا الأمر وكأنه أمر جبلي، فقد ورد في أخبار عمر رضي الله عنه عن أسلم مولى عمر قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقم حتى إذا كنا بصرار إذا نار، فقال: يا أسلم إني لأرى ها هنا ركبا قصر بهم الليل والبرد، انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان صغار وقدر منصوبة على نار وصبيانها يتضاغون، فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء وكره أن يقول يا أصحاب النار، فقالت: وعليك السلام، فقال: أدنو؟ فقالت: أدنو بخير أو دع، فدنا فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: فأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ما أسكتهم به حتى يناموا والله بيننا وبين عمر، فقال: أي رحمك الله وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى عمر أمرنا ثم يغفل عنا، قال: فأقبل عليَّ فقال: انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق فأخرج عدلا من دقيق وكُبَّة من شحم، فقال: احمله عليَّ فقلت: أنا أحمله عنك، قال: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة؟ لا أم لك، فحملته عليه فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئا، فجعل يقول لها: ذُرِّي عليَّ وأنا أحرك لك، وجعل ينفخ تحت القدر ثم أنزلها، فقال: أبغيني شيئا فأتته بصحفة فأفرغها فيها، ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم، فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيرا كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فيقول: قولي خيرا إذا جئت أمير المؤمنين، وحدثيني هناك إن شاء الله، ثم تنحى ناحية عنها ثم استقبلها فربض مربضا، فقلنا له إن لنا شأنا غير هذا، ولا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ثم ناموا وهدأوا، فقال يا أسلم إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت) فالمرأة تقول: والله بيننا وبين عمر، وتقول أيضا: يتولى عمر أمرنا ثم يغفل عنا، ثم تقول له وهي لا تعرفه-بعدما أتاها بالمعونة- جزاك الله خيرا كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، والمقصود أن هذا المرأة الفقيرة كانت تفهم ما يجب على ولي الأمر فعله، وهي تقرر أن الأولى بذلك المنصب من يقوم على شئون رعيته ويعتني بهم ولا يغفل عنهم، إنه لم يخل عصر من عصور المسلمين من القيام بالحسبة في ذلك الجانب ومرادنا التمثيل لا الحصر، والقيام بتنظيم هذا الأمر يساعد على تثبيته في أذهان الناس ويكون أدعى لاستمرار العمل به.

بين الحسبة السياسية والمعارضة السياسية مفارقات وموافقات: عندما نقارن بين ما لدينا من الحسبة السياسية وبين المعارضة السياسية الوافدة إلينا والتي يراد لها الذيوع والانتشار والغلبة على مصطلحاتنا السياسية الشرعية، يتبين الفرق الكبير بين الأمرين بحيث لا يمكن لمن عقل وابتعدت نفسه عن الأهواء المردية إلا أن يحرص على الحسبة السياسية ويتمسك بها ويدعو إليها، وإن كان هناك بعض الموافقات بين الحسبة والمعارضة وخاصة في الألفاظ العامة، لكن الاختلافات تظهر بقوة عند التفاصيل، فقد يقال في المعارضة كما يقال في الحسبة بضرورة اتباع العدل لكن مفهوم العدل في شرعنا غير مفهوم العدل في الفكر السياسي الغربي وهكذا، ومن هنا يمكننا أن نقرر أن الخلاف بين الحسبة السياسية وبين المعارضة السياسية خلاف كبير وعميق، وهو أعمق بأكثر مما يتخيله كثير من الناس، إذ ما بينهما من الخلاف في الأصول والدوافع والغايات يربو بكثير جدا على ما بينهما من الموافقات في الفرعيات، فالموافقات في أغلب أمرها ما هي إلا موافقات ظاهرية  .

الحرية الحقيقية: الحرية تعني الخروج من أسر القيود، والانعتاق من ذل العبودية، والحر يقابله العبد، لكن متى يكون الإنسان حرا حقيقيا ليس عبدا ؟ إذا كان الإنسان لا تكبله نفسه، ولا تكبله أعراف المجتمع، ولا تكبله السلطة القائمة، أي خرج من أسر عبودية النفس والمجتمع والحكومة، فهو قد استوفى مظاهر الحرية، لكن متى يحدث ذلك؟ إن ذلك لا يحدث في الحقيقة إلا إذا كان الإنسان ملتزما بالشريعة متقيدا بها مقاوما كل ما يشوش على ذلك الالتزام، وإلا فإن الإنسان واقع لا محالة في نوع أو أكثر من أنواع العبودية بحيث تنتفي حريته الحقيقية، إذ الإنسان منذ أن يولد تشده القيود المادية بوصفه مخلوقا لا يملك الخروج عن نظام الكون، فهو مجبر على ذلك، فإن الجاذبية مثلا تشده ولا يملك الانفكاك منها وهكذا، ثم تبدأ القيود المعنوية في الورود عليه، فإذا لم يكن عليه قيد غير قيد الشريعة، كان الإنسان بذلك حرا حقا لأنه لا يقيده إلا خالقه، أما إذا ابتعد عن الشريعة فإنه يدخل في نطاق قيود أخرى متشاكسة في أكثر الأحيان، ويفقد الإنسان بذلك حريته الحقيقية وإن بدا له في الظاهر أنه حر في أن يعتقد ما يشاء، وأن يقول ما يشاء، وأن يفعل ما يريد، فالحسبة التي تعيد الإنسان إلى مجال قيد الشريعة فقط وتخرجه من مجال القيود الباطلة، فتقيمه على الجادة وتبعده عن بنيات الطريق، هي مظهر أصيل من مظاهر تحرر المسلم وتحلله من القيود الباطلة التي تعيق حركته، إن الانفلات من كل ضابط والخروج من كل قيد والذي يعد أقصى مدى للحرية عند كثير من الناس هو في حقيقته أقصى مدى للعبودية، حيث يصير الإنسان عبدا لنفسه وشهواته وللشيطان، وهذه هي الحرية التي يوفرها الفكر السياسي الغربي الذي تنطلق منه المعارضة السياسية، وفي هذا الفكر فإن الإنسان له أن يضر نفسه وأن ينتحر ليتخلص من حياته إذ لا ضرر من ذلك على أحد، وهو القيد الوحيد على الحرية في ذلك الفكر، بينما المسلم لا يجوز له إيقاع الضرر على نفسه حتى ولو لم يكن في ذلك ضرر على الآخرين، فللإنسان في هذا الفكر التعامل بالربا وشرب الخمور وتكوين العلاقات الجنسية مع غير الزوجات ونحو ذلك، مما لا ضرر فيه على غير من يزاوله، والمعارضة يمكنها انطلاقا من دعوى الحرية الشخصية أن تتبنى الدعوة إلى الزواج المثلى أو حق إباحة الإجهاض وغير ذلك من الأمور وقد حدث إقرار ذلك في المؤتمرات الدولية التابعة للأمم المتحدة، على أن هذا من الحرية التي هي حق لكل إنسان ولا يمكن تقييدها، والحسبة تمنع الضرر سواء كان يوقعه الإنسان على نفسه أو على غيره لعموم الأدلة المانعة من ذلك وللقاعدة الشريعة الثابتة بقوله  صلى الله عليه وسلم  : لا ضرر ولا ضرار ، ومنع الإنسان من أن يضر نفسه لا يعد في فقه الحسبة تدخلا في الحرية الشخصية، لأن الإنسان لم يخلق نفسه ومن ثم فإن الذي خلقها هو الذي يملكها، وهو الذي يشرع لها .

بين الإعلان والتغيير: الحسبة السياسية تقوم على أحداث التغيير المطلوب وفق المقررات الشرعية انطلاقا من النصوص المتكاثرة الداعية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقوله تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [الأنفال: ]، وكقوله  صلى الله عليه وسلم  : ( من رأى منكم منكرا فلغيره..)الحديث وكقوله  صلى الله عليه وسلم  : (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) ، فالمطلوب منع الباطل من الوقوع، وكفه عن التمادي في باطله أثناء فعله، وتغييره بعد وجوده، فالدعوة للتغيير وليس للإعلان فقط، وهذا يعني أن النظام السياسي الإسلامي لا يقف من المنكرات موقفا سلبيا بل موقفه إيجابي فهو داع إلى التغيير وآمر به، وهو أكثر من مجرد السماح بذلك، ولا بد أن تكون فيه من الآليات ما تمكن من ذلك، وعند امتناع الحكومة عن الاستجابة على أساس أنها لا ترى ما تراه الحسبة فإنه بالإمكان اللجوء إلى المحكمة للفصل في ذلك، والذي يكون حكمها ملزما للأطراف جميعا، والحسبة المفترض أن تكون قوية، وهي تأخذ قوتها من كونها جماعة تأسست بناء على أمر الشرع كما قال تعالى: "ولتكن منكم أمة.."الآية، لكن لا تدفعها قوتها في مقابل السلطة إلى أن تكون بديلا عنها، أو أن تحاول الاستيلاء على السلطة؛ لأن طلب الحكم والسعي في الوصول إليه ممنوعة هي وغيرها منه، بمقتضى النصوص الشرعية التي تحظر على المسلمين طلب الولاية، وإذا وصلت الأمور بالحكومة إلى أن تخرج عن الحد الذي ينبغي فيه عدم منازعتها فإن الحسبة السياسية ليست هي البديل، وكذلك الأمر إذا دعت الحسبة إلى حجب الثقة أو إلى السعي في تغيير السلطة؛ لأنه عندما تخرج السلطة الحاكمة عن حدود الشرعية وتصبح بمقتضى الأحكام الشرعية لا حق لها في تولي الأمر، ويصير تغييرها مطلبا شرعيا، فإن البديل ليس هو جماعة الحسبة، وإنما البديل من تنطبق عليه الصفات ويحقق الشروط فيمن يتولى الأمر، ولا تتم توليته إلا بالطرق الشرعية المعلومة في كيفية اختيار الولاة، وليس من ذلك بالطبع استخدام القوة وشهر السلاح إذ ذلك لا يكون إلا في حالات ضرورة معروفة ومحصورة ومحددة سلفا، ولعل هذا ما يكون أحد أسباب التعاون والتفاهم بين الحكومة والحسبة إذ ليس واحد منهما ينافس الآخر، بل كل منهما يعمل في قطاع من أجل مصلحة الأمة، وأما المعارضة السياسية فليس فيها سوى الإعلان أن ذلك الأمر الفلاني باطل، وتنظيم مظاهرة من أجل ذلك، أو الإضراب كنوع من الاعتراض على ما يرونه من الأمور باطلا، لكنهم لا يملكون التغيير لأن التغيير بيد الأغلبية، وكل ما تملكه المعارضة تنبيه الأغلبية على ذلك، أو إشعار العامة على أمل أن يكون ذلك رصيدا لهم في الانتخابات القادمة، وفي الجانب المقابل فإن المعارضة قد يدفعها شعورها بالقوة المتزايدة في مقابل السلطة فتقوم بتنظيم المظاهرات والإضرابات التي تعجل أو تعمل على إسقاط الحكومة القائمة لتحل محلها، وهذا يجعل العلاقة بينهما علاقة تضاد وعلاقة شكوك وارتياب، مما يترتب عليه سعي كل منهما في تعطيل الآخر وتعويقه لإخراجه من حلبة المنافسة حتى ينفرد هو بالتحكم في القرارات والاستقلال بها.

السعي للسلطة : الحسبة في عملها تسعى لإقامة المجتمع على الجادة، والجادة لا يراد بها هنا الحالة الدينية فقط، إذ أن من المعلوم أن الإنسان ليس روحا فقط وإنما هو روح وجسد، والجسد له متطلباته سواء في حالة انفراده أو في حالة اجتماعه، ولذلك فإن المجتمع في حاجة إلى أن يقام على الجادة في أمور كثيرة كالتعليم والصحة والسياسة والاقتصاد، وفي كل ذلك جاءت تشريعات أو أحكام: إما منصوص عليها، وإما يُجتهد فيها من خلال النصوص الموجودة، وإما أحكام تستنبط من القواعد الأصولية أو القواعد الفقهية، والحسبة تعمل على التزام المجتمع بذلك: فتبصره بذلك عن طريق العلم، وتعينه عن طريق تيسير سبيل الالتزام، وتكف عنه العوائق والعوارض التي تعمل في الاتجاه المعاكس، كل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى ورضوانه، فالهمة أصلا متوجهة إلى الإصلاح: سواء إصلاح المجتمع، أو إصلاح الحكومة، والإعانة على ذلك، وأما المعارضة فإن جهدها كله منصب على الوصول إلى الحكم، وما تظهره من آراء أو أقوال أو تصورات أو اعتراضات، وما تقدمه من رؤى في الإصلاح، فإن الهدف من ذلك أن يكون معينا ومساعدا في الوصول إلى الحكم، فالهمة متوجهة إليه أصلا، وليس تغيير الحكومة إذا فسدت أو خرجت عن حد الصلاح، أو لم تعد قادرة على ضبط الأمور، أو تأخرت أحوال الأمة في زمنها تأخرا بينا، يعد عيبا أو شيئا يمنعه الإسلام، لكن الذي يأباه الإسلام ويمنعه أن يتخذ الخلاف في الرأي في مسائل كلها من قبيل الاجتهاد ذريعة لتغيير حكومة مستقرة قائمة بما وجب عليها، محققة للغرض الذي نصبت من أجله، غير مقصرة فيما هو مطلوب منها وليست ظالمة لرعيتها بمنعها من حقوقها الشرعية.

القدرة على التأثير: الحسبة لا تعتمد في عملها على قوتها العدية، وإنما ينبثق عملها من الاحتكام إلى محددات وأمور متفق عليها بين الجميع، وتملك الإلزام بالحق عن طريق اللجوء إلى المحكمة، بينما المعارضة تعتمد في عملها وقدرتها على التأثير في القرارات لا على صواب منطقها ولا جودة رأيها وفائدته للأمة، وإنما تعتمد على الكثرة العددية فإذا استطاعت أن يكون لها الغلبة العددية فحينئذ تملك القدرة على التأثير وتحقيق ما تريد، حتى ولو لم يكن رأيها صوابا، إذ الصواب هو موافقة الأكثر عليه، فالصواب ليس شيئا زائدا عن ذلك، أما إذا لم تستطع أن تستقطب حول مشروعها الأغلبية الكافية فإنها لا تستطيع التأثير، ولو كان ما تذهب إليه هو الصواب نفسه، لأنها فقدت شرط الصواب الذي يعول عليه وهو الحصول على الأغلبية، ويصبح تأثيرها في ذلك لا يتعدى كونه ظاهرة صوتية إلا أن تتعدى حدود المشروعية في النظام الذي يحدد عملها، فتخرج إلى الشارع وتخاطب العامة وتستثيرهم، لاتخاذ مواقف ضاغطة على الحكومة عن طريق التظاهر والإضرابات وتعطيل الإعمال وغير ذلك، لكن هذا يعد خروجا على النظام الذي ينظم المعارضة، فالمعارضة يمكنها إلقاء خطبة عصماء، أو كتابة مقالة أو كتاب مدعوم بالحجج والبراهين والأدلة والوثائق وكل ما يحتاج إليه في إثبات صواب الرأي، ثم بعد ذلك كله فإن الذي يحسم القضية هو الكثرة العددية، حيث يتم عد الأصوات الموافقة والمخالفة ثم تكون الغلبة في النهاية أو الفيصل بين الحق والباطل لأصحاب العدد الأكبر، بل قد تملك الأغلبية سن تشريع أو نظام أو قانون تمنع به المعارضة أو تعرقل بعض أنشطتها، وتحبط مشروعات القرارات التي تتقدم بها المعارضة، وفي حالات الاستقامة النفسية و الإخلاص والتجرد من الأغراض الذاتية قد تكون الكثرة العددية دالة على رجحان الرأي التي هي في صفه، لكن في أوقات أخرى مثل حالات فساد الذمم، واعوجاج النفوس، وحالات الضعف الفكري، وسيطرة الدعاية والإعلام والإعلان على العقول والأفكار، لا يأتي من وراء ذلك إلا الأقدر على الدعاية والإعلان والأكثر كذبا وخداعا بغض النظر عن الصواب والخطأ، وإذا علمنا أن النظام الذي يعتمد المعارضة لا يشترط فيمن يزاولون السياسة (مرشحين وناخبين –معارضة وحكومة) شرائط تحول ببن الكذب والخداع مثل التقوى والعمل الصالح وأداء الفرائض واجتناب الكبائر، فإن هذه الأساليب الممقوتة تروج بينهم بكثرة شديدة، ولو قال قائل: بل ينبغي اشتراط قدر من التقوى والعمل الصالح يمنع الكذب والخداع، وقدر من الغني يمنع من الخيانة ويدعو إلى الأمانة، وقدر من العلم يمنع من الانجراف وراء الآلة الإعلامية، قيل : ليست هذه هي المعارضة وينبغي أن يبحث لها عن اسم آخر، إذ المعارضة أحد نتائج فكرة كلية تقول : إن الشعب[السياسي] هو صاحب الكلمة العليا في شأن سياسة المجتمع وتنظيمه والشعب [السياسي] هو كل مواطن بالغ عاقل بغض النظر عن دينه أو علمه ومنزلته وجاهه، فيستوي الجميع في هذه السيادة التي تكفل لهم الحرية المطلقة، ولو طلبنا اشتراط قدر من التقوى لهاجمنا أصحاب ذلك الفكر وعدوا ذلك انتقاصا من تلك الحرية.
والقدرة على التأثير من المعارضة شكلية إلى حد كبير جدا، إذ أن الرأسماليين أصحاب رؤوس الأموال هم الفئة المسيطرة في الحقيقة على المجتمع، وهم ملاك وسائل الإعلام التي يقومون بتوجيهها لصناعة الرأي العام من أجل مصالحهم ومصالح طبقتهم، وقد أصبح وجود وسيلة إعلامية ليس لها من هَمٍّ سوى تقديم المعلومة الصائبة، بغض النظر عمن تخدمه تلك المعلومة أمرا عسيرا بل نادرا؛ لأن هذه الوسائل إنما تعمل في خدمة ملاكها الذين يهمهم توجيه المجتمع إلى حيث مصلحته، ثم إن التكلفة المالية الضخمة لممارسة العمل السياسي من حيث الدعاية والإعلان لا يقدر عليها إلا كبار الأثرياء، وهذا مما يحول بين فئة كبيرة من الناس من المشاركة في العمل السياسي، أو تجعلهم رهينة في أيدي أحزابهم التي تنفق على حملاتهم السياسية، فقد تصل تكلفة بعض الحملات الانتخابية للرئاسة عشرات الملايين، وفي بعض البلدان تصل تكاليف الحملات الانتخابية إلى عدة مئات من ملايين الدولارات، فمن الذي يقدر على ذلك، وهذا كله يمنع في النهاية من أن تكون هناك معارضة حقيقية نابعة من رؤية الفرد الخاصة إذا كانت تخالف رؤية الحزب، فعندما توجد مثل هذه الرؤية الخاصة فإن الأفراد لا يملكون البوح بها وإظهارها، إلا إذا كانوا قد قرروا ترك الحزب، وهذه هي الحرية التي يتشدقون بها، ومتى ما خرج من الحزب فَقَد مكانته السياسية لعدم قدرته على الإنفاق في غالب الأحيان، وهو في هذه الحالة بين أمرين: إما أن يتقاعد سياسيا، وإما أن يتحول إلى حزب آخر سوف يمارس معه الدور نفسه بعد قليل، وإذا كان الوصول إلى المقاعد النيابية لا يستطاع إلا بالإنفاق فهذا يعني أن المعارضة لا تتاح حقيقة إلا للأغنياء، الذين لديهم الأموال الكافية التي تمكنهم من المحافظة على آرائهم، لقد أثبت ذلك النظام إخفاقه الشديد في بلدين ينظر إليهما على أنهما من البلاد التي تتمتع بالحرية الكاملة والمعارضة القوية، فقد شنت أمريكا وحليفتها بريطانيا الحرب على العراق بدعوى امتلاك الأخيرة لأسلحة الدمار الشامل التي تهدد السلام العالمي، ولا بد من القضاء على ذلك كشرط أساس حتى ينعم العالم بالسلام والأمان! وظل النظامان يرددان تلك الأكذوبة فترات طويلة ثم ظهر بعدما شنوا الحرب وقتلوا أكثر من مائة ألف عراقي أن ذلك كله كان كذبا في كذب، وقد اضطرت أنظمة الحكم في البلدين إلى الاعتراف بكذب المعلومات التي استندوا إليها في شن الحرب، وأنه قد جرى تزويدهم عمدا بمعلومات غير صحيحة من قبل أجهزة مخابراتهم، فماذا فعلت المعارضة بعد ذلك ؟ لم تتمكن المعارضة من فعل شيء لأن الأمور يحكمها في النهاية عدد الأصوات وقد نجح رئيسا البلدين في الفوز في الانتخابات التي أجريت بعد ذلك .

التعددية وأثرها على الواقع: التفاوت والفروق الفردية بين الناس أمر مدرك لا يمكن جحده وله ما يسوغه، إذ لا يمكن صب الناس في قالب واحد وخاصة في الأمور الاجتهادية سواء كانت مما يتعلق بالدين أو بالدنيا، وعلى ذلك فإن الشريعة تعترف باختلاف المشارب والقدرات وما ينتج عن ذلك من تعدد في الرؤى، ومن ثم فهي لا تنظر إلى هذا التعدد أو تقف منه موقف المستريب أو تعمل على القضاء عليه بكل سبيل، ما دام أنه داخل الحدود المعتبرة، كما أن هذا التعدد لا يكون مصدر ضعف بل يكون مصدر رحمة وتوسعة كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، ثم إن هذا التعدد محكوم في النهاية بإطار يقلل من التعدد الواهي الذي يضعف الأمة، ويمنع من التعدد الانفلاتي القائم على الحرية المطلقة وفق الفكر السياسي الغربي، حيث تتعدد قوى المعارضة وتأخذ اتجاهات شتى في ظل عدم وجود إطار يحصر هذه القوى، مما يضعف هذه القوى جميعا فلا يصير لها من أثر على واقع الحياة السياسية، فإذا أرادت التأثير فإنها تعمد إلى أن تكون كتلة واحدة (أو ما يسمى بالتكتل) حتى تستعين بعدد هذه الكتلة للوقوف أمام الحكومة فتعرقل قراراتها أو مشروعاتها أو تحبطها، وهنا يتحول المشهد السياسي إلى مشهد البحث عن تضخيم المكاسب والمغانم، وتقليل الخسائر والمغارم، فلم يعد المشهد مشهد الحفاظ على مصلحة الأمة، ويكون المشهد في ذلك أقرب إلى مشهد المعارك والحروب لا مشهد التعاون والتعاضد، وتظهر اتهامات بالفساد المتبادل بين الطرفين سواء بالحق أو بالباطل في إطار حملة كسب تأييد الرأي العام أو الشعبي إلى صفه، ثم إن المعارضة في تكتلها تضطر إلى التنازل عن شيء من خطتها في سبيل جمع الكلمة والالتقاء حول قاسم مشترك يُتفق عليه لمواجهة الحكومة، فقد تحولت فكرة مواجهة الحكومة إلى أصل يلتقي عليه الجميع، وهذا مما يبين كيف أن الأسماء تؤثر على الأفعال والتصرفات فكون أن اسمها معارضة تجعلها تعمل وتتصرف على خلاف الحكومة حتى لا تفقد مسوغ وجودها أو تميزها عن الحكومة، حتى وإن كان ذلك في أمور ليست جوهرية، ثم إن المعارضة إذا قبلت بمبدأ التنازل عن بعض تصوراتها أو خططها من أجل التوحد في مواجهة الحكومة، ألم يكن من الأجدى عليها التنازل عن بعض تلك التصورات أمام الحكومة للوصول إلى قاسم مشترك فيه مصلحة الأمة؟ لكن إذا كان الهدف هو الوصول إلى السلطة يصبح هذا الحل غير مناسب، وإذا قيل : لا، بل لأن الخلاف كبير ولا يمكن الوصول بشأنه إلى حل وسط، وأن ذلك التصرف يمثل خيانة لطموحات الشعوب وآمالها ، فهذا يعني أن هذا النظام لا يصلح إلا عند وجود التباين الشديد والتنافر العظيم بين مكوناته وأجزائه.

الحجة والمرجعية: الحسبة تنطلق من نظام سياسي يعتمد الشريعة حجة ومرجعا يُرجع إليه، ومن ثم فما وافق الشريعة فهو حق وصواب وما خالفها فهو خطأ وباطل، بغض النظر عن أعداد القائلين في كل حالة، ويمكن الاعتراض على القرارات والتشريعات ولو كانت متعلقة بالأمور الدنيوية إذا كان فيها ما يخالف الشريعة، أو كان يترتب عليها عنت ومشقة على الرعية بغير مسوغ، حتى لو أقرت ذلك السلطة الحاكمة، ويمكن الاعتراض على ذلك في حالة عدم استجابة الحكومة أمام المحكمة ويصير حكم المحكمة ملزما للأطراف كلها، فالإلزام إنما يكون بالشريعة وفي هذا محافظة كبيرة على مكانة أفراد الأمة والاعتراف بكرامتهم، حتى إن فردا واحدا منهم يمكنه أن يقاضي الحكومة كلها من غير خوف من أن يتعرض لظلم أو ضرر، وأما المعارضة فإن الحجة فيها راجعة للأغلبية فلا يمكن وصف رأي أو تَصوُّر بالبطلان –حتى لو كان خطأ تماما- إذا حاز على الأغلبية ووافقت عليه الأكثرية، إذ لا معنى للصواب عندهم إلا أن يكون ذلك مُوافَقا عليه من الأغلبية، وحينئذ يمتنع الاعتراض عليه أمام المحاكم، ويصبح نافذ العمل بمجرد إقراره، وتكون في النهاية الأغلبية هي المتحكمة في مصائر الأمة، حتى لو كانت أغلبية صورية أو كانت أغلبية جاهلة أو فاسدة .

الاستمرارية في العمل: الحسبة وجودها ونشاطها غير مرتبط أو متوقف على الاعتراض على تصرفات الحكومة، بل هي تعمل مع الحكومة في الاتجاه نفسه، وتشارك عن طريق العمل الإيجابي مع الحكومة في تحقيق أهداف المجتمع، ولذلك فإن الحسبة تظل مزدهرة في حالة استقامة الراعي وفي حالة اعوجاجه، ولذلك قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه فيما نقلناه عنه سابقا: (راعوني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني) فالحسبة تعمل وتنشط في كلا الحالين مما يعني استمرارية عملها في المجتمع في كل أحيانه فعن أبي قلابة: (أن رجلا من حمص يقال له كريب بن سيف - أو سيف بن كريب - جاء إلى عثمان، فقال: ما جاء بك أبإذن جئت أم عاص؟ قال: بل نصيحة أمير المؤمنين، قال: وما نصيحتك؟ قال: لا تكل المؤمن إلى إيمانه حتى تعطيه من المال ما يصلحه - أو قال ما يعيشه - , ولا تكل ذا الأمانة إلى أمانته حتى تطالعه في عملك، ولا ترسل السقيم إلى البريء ليبريه، فإن الله يبرىء السقيم، وقد يسقم السقيم البريء، قال: ما أردت إلا الخير، قال: فردهم، وهم زيد بن صوحان وأصحابه) فقد جاء المسلم من حمص في سوريا إلى المدينة النبوية يحتسب عند أمير المؤمنين في إسداء النصيحة، أما المعارضة فإنها قائمة على أساس التربص بتصرفات الحكومة ومخالفتها، وهي بمقتضى قيامها تعد نفسها البديل للحكومة فهي لم تقم إلا لمعارضة الحكومة لا لمعاونتها، وأقصى ما يمكن أن تشارك به فهو تقديم وجهة نظر فيما يراد عمله أو إقراره من قبل الحكومة، بهدف إظهار تفردها وتميزها على الحكومة وأحقيتها في أن تحل محلها، وهذا يعني أنه عند استقامة الحكومة أو عند وجود خلافات غير جوهرية فإن استمرارية المعارضة وفعاليتها تصل إلى أدنى درجاتها، وحتى تحافظ المعارضة على استمراريتها وفعاليتها وعدم غيابها عن حس المواطن العادي، فإنها إما أن تفتعل الاختلاف مع الحكومة افتعالا، وإما أن تضخم الخلاف الموجود.

الحسبة ضمان وأمان: قد ترفض السلطة في كثير من بلاد المسلين أي نوع من أنواع المتابعة والمراقبة لسياستها تصورا أن ذلك يقدح في هيبتها أو أحقيتها بالولاية، ومن ثم ترفض الاقتراحات المقدمة والمشاركة في حل المعضلات أو المشكلات، وهذا فضلا عن مخالفته للأحكام الشرعية فإن فيه محاذير أخرى نذكر منها: حرمان الأمة والمجتمع من كفاءات العديد من خيرة أبنائه الذين ينأون بأنفسهم عن الدخول في هذه المضايق الحرجة،كما يحرم الأمة من مشاركتهم لها وقت الأزمات، وفي المواقف الحرجة التي تحتاج إلى جهدهم وفكرهم، فتقف وحيدة من غير معاونة في وقت هي أحوج ما تكون فيه إليهم، وبينما هناك فريق ينأى بنفسه هناك الفريق المقابل الذي قد يلجأ إلى خيارات يترتب عليها نشوء أفكار مشوهة أو غير صحيحة، ومواقف غير رشيدة لا تجني الأمة من ورائها إلا الشوك، وقد ينقلب الأمر عند فئة ثالثة إلى المداهنة والنفاق وإظهار الرضا والموافقة على كل تصرفات الحكومة، وخطورة هذا المسلك على مجموع الأمة معروف لا ينكر، فلا يُظهر الحق ولا يُخمد الباطل إلا ما وافقت عليه السلطة، وهو ما يعني في النهاية اختزال الأمة كلها في الحكومة، بينما الأصل أن الحكومة أنما وجدت لمصلحة الأمة، كما يترتب على منع الحسبة إضعاف التفاعل بين الدولة والأمة، حتى يتصرف كثير من الناس بنفسية الأجير لا بنفسية صاحب الدار، ويترتب على ذلك تعرض الأمة للغزو الفكري والقبول بأشكال الفكر السياسي الغربي الوافد بأشكاله ومشاكله، وفي ظل التقدم التقني الهائل في وسائل الاتصالات صارت المعلومات والأخبار بمنزلة الكلأ المباح يَرِدُه كل من احتاج إليه، وأصبح التحكم في ذلك صعبا للغاية، ولم يعد بوسع الدول أن ترد عادية هذا الأمر إلا بإعطاء الشعوب حقوقها الشرعية وفي رأسها الحسبة السياسية. وهو الذي يقود في الوقت نفسه إلى إيجاد صيغ التعاون بين الأمة والحكومة على البر والتقوى، وحينها لن تتمكن القوى المعادية من العثور على من يتعاون مع الغزاة بدعوى التحرير  .

 

محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية