اطبع هذه الصفحة


بأبي أنت وأمي يا رسول الله

محمد بن شاكر الشريف

 
‏تدلهم على الناس الخطوب وتفجؤهم المصائب الكبيرة، فإذا تأملوها حق التأمل وجدوا فيها من ‏فضل الله وإحسانه ما تعجز الألفاظ عن التعبير عنه، لقد فوجئ المسلمون بحفنة من الحاقدين النصارى ‏الذين أعمى بصيرتهم شعاع الحق الظاهر من دين الإسلام، الدين الذي رضيه الله تعالى لعباده ولم ‏يرض دينا سواه، فذهب هؤلاء المنكوسين يفرغون حقدهم وضلالهم في العيب والذم لرسول الله تعالى ‏الذي أرسله ربه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، لقد كانت فاجعة وأي فاجعة ومصيبة وأي ‏مصيبة، لكن جعل الله من ذلك فرصة عظيمة للمسلمين لبيان حبهم لدينهم وشدة تمسكهم به، وبذل ‏الغالي والنفس والنفيس للذود عن حبيبهم، ومهما كتب الكاتبون ومدح المادحون ونافح المنافحون ‏فلن يستطيعوا أن يوفوه حقه اللائق به ‏ صلى الله عليه وسلم  ، ولكنها كلمات يكتبها المسلم المحب لرسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  ليعبر ‏بها عن بعض ما بداخله، وليؤدي جزءا مما يجب عليه نحوه، كيف لا وقد أخرجنا الله تعالى به من ‏الظلمات إلى النور وهدانا به الصراط المستقيم، فمن أقل ما يجب علينا أن ننتهز هذه الفرصة لنعبر عما ‏يجيش بصدورنا تجاه هذا الرسول الأكرم الذي لم تعرف له البشرية نظيرا أو مدانيا، وما مثل الكاتبون ‏ومثل سيرة الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  إلا كمثل رجل دخل بستانا مثمرا من كل أنواع الثمار التي تحبها النفوس ‏وتشتهيها، وذلك وقت نضجها، فلم يدر من شدة جمالها وحسنها ماذا يأخذ وماذا يدع.‏

كيف كان العالم قبل مجيء الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  :‏
كان العالم كله يعيش في ظلمات الجهل والضلالة والشرك، إلا عددا قليلا جدا ممن حافظ على ‏دينه من أهل الكتاب، فلم يحرفوه أو يقبلوا تحريفه ممن قام به، يقول الرسول الحبيب ‏ صلى الله عليه وسلم :"إن الله نظر ‏إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال :إنما بعثتك لأبتليك ‏وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان.."‏ ‏ الحديث، فهذا الحديث ‏يصور الحالة البشعة التي كان عليها العالم قبل مبعث خير البرية، حيث استوجبت من الله تعالى أشد ‏البغض، وهذا لا يكون إلا مع الانغماس التام في الضلالة والبعد عن سنن الرشاد.‏

فقد كان العرب يئدون البنات ويحرمون أشياء مما رزقهم الله تعالى بغير حجة أو برهان، قال ‏ابن عباس رضي الله تعالى عنهما :إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من ‏سورة الأنعام :" قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ ‏قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ" [الأنعام :140]‏ ‏ ،وكانوا يأكلون الميتة ويشربون الدم، كما قال الله ‏تعالى مبينا حالهم، وآمرا رسوله أن يقول لهم :" قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ ‏يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ ‏اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [الأنعام :145]، وفوق ذلك كله كانوا مشركين ‏يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله، ويحرمون على أنفسهم الاستفادة من بعض حيواناتهم، ‏ويجعلون إنتاجها للطواغيت، كما نعى الله عليهم ذلك في قوله :"مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ ‏وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ"‏ ‏ [المائدة ‏‏:103]، ، ولم يكن أهل الكتاب بأحسن حالا منهم فحرفوا كتابهم المنزل على رسولهم، وافتروا على ‏الله الكذب وأشركوا بالله، وادعى اليهود أن لله تعالى ولدا، كما ادعت النصارى أن لله تعالى ولدا ‏‏:"وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ ‏الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ"[التوبة :30 ]، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، واتخذوا ‏أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى، قال الله تعالى في وصف ذلك :" اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ ‏وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ ‏سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" [التوبة :31]، ولم يكونوا يتناهون عن المنكرات التي تحدث بينهم كما قال الله ‏عنهم :"لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ ‏يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ" [المائدة :78-79]، وكانوا المجوس ‏يعبدون النار ويستحلون نكاح المحارم فينكح الرجل منهم أخته أو ابنته، وبالجملة فقد كان العالم في ‏ظلام دامس وشرك وضلال، حتى جاءهم الرسول الكريم بالرسالة الشاملة الهادية إلى صراط مستقيم، ‏فبأبي أنت وأمي يا رسول الله.‏

كما يبين الحديث الغرض الذي لأجله بعثه الله تعالى، وهو دعوة الناس إلى الله تعالى ومجانبة ‏طريق الشرك والضلال، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، قال النووي :"إنما بعثتك ‏لأبتليك وأبتلى بك، معناه لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة، وغير ‏ذلك من الجهاد في الله حق جهاده، والصبر في الله تعالى وغير ذلك، وأبتلى بك من أرسلتك إليهم ‏فمنهم من يظهر إيمانه ويخلص في طاعاته، ومن يتخلف ويتأبد بالعداوة والكفر، ومن ينافق"‏ ، ولم ‏ينس الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  الذي كان العدل والإنصاف من شمائله أن يستثني من الشرك والضلالة طائفة من ‏أهل الكتاب ظلت محافظة على عهد الله تعالى إليهم، فقال :"إلا بقايا من أهل الكتاب"، فالإسلام ‏دين يحث على العدل والإنصاف وعدم غمط الناس، يقول الله تعالى :" لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ‏أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران :113] وقال :"وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ‏لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ ‏لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" [آل عمران :199]، وقال:"وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ ‏بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ ‏لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" [آل عمران :75 ]وغير ذلك من ‏الآيات.‏

ماذا قدمت دعوة الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  للعالمين :‏
بعد أن عم الشرك والجهل والضلال والظلم العالم كله، وكان في حاجة ماسة إلى من يخرجه ‏من كل هذه الظلمات منَّ الله تعالى على العالمين ببعثته كما قال تعالى :"الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ‏لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ"، [إبراهيم :1]، فهو ‏ صلى الله عليه وسلم  ‏مرسل ليخرج الناس كلهم-وليس جنسا دون جنس، إذ دعوته ‏ صلى الله عليه وسلم  ليست قومية أو عنصرية- من ‏أنواع الظلمات كلها إلى النور التام، كما قال تعالى :"هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ‏لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ"، [الحديد :9]، فكان ‏ صلى الله عليه وسلم  بذلك رحمة ‏للناس جميعا، كما قال تعالى :"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، [الأنبياء :107].‏

فدعا الناس إلى الله ربهم، لا يطلب منهم على ذلك أجرا أو مقابل، وتحمل منهم في سبيل ذلك ‏الأذى الكثير، ومنع العدوان على الناس حتى لو كانوا من الكافرين، فبلغ عن ربه قوله :" وََلاَ ‏يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ ‏تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" [المائدة :2] والشنآن هو البغض.‏

‏ ومنع الظلم بين الناس ولم يقبله حتى من أتباعه على أعدائه، وأمر بالعدل حتى مع الأعداء ‏فبلغ عن ربه تعالى قوله :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ ‏قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [المائدة :8].‏
‏ ودعا الناس إلى الوفاء بالعهود والعقود حتى مع الأعداء، ولم يكونوا كالذين قالوا :ليس لمن ‏خالفنا في ديننا علينا أية حقوق، يستحلون بذلك ظلم من يخالفهم ويكذبون على الله وينسون ذلك ‏إليه ، فبلغ عن ربه تعالى قوله :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ" [المائدة :1]، وقوله :"وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ‏اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا ‏تَفْعَلُونَ" [النحل :91].‏
‏ وقد كان النهي عن الخيانة من الأحكام التي جاء بها الرسول الكريم وبلغها للناس حتى من ‏يُخشى من خيانتهم من الأعداء فلا ينبغي خيانتهم لأن الخيانة خلق ذميم والله لا يحب الخائنين، قال ‏الله تعالى :"وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ" [الأنفال :58] ‏فإذا خاف الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  أو أتباعه من قوم عاهدوهم خيانة بإمارة تلوح أو ترشد إلى ذلك، فلا ينبغي ‏للمسلم أن يخون بناء على ما ظهر من إقدام العدو على الخيانة، ولكن عليه أن يبين لهم أن العهد ‏الذي بيننا وبينهم قد ألغي قال ابن كثير :" أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك ‏وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي تستوي أنت ‏وهم في ذلك"‏ ، فإن غير ذلك من الخيانة والله لا يحب الخائنين.‏

‏ وقد كان لتعليماته ‏ صلى الله عليه وسلم  على أصحابه أكبر التأثير فالتزموا بها حتى ضربوا أروع الأمثلة في كل ‏ذلك، فعن سليم بن عامر رجل من حمير قال :كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو ‏بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول :الله أكبر الله أكبر، ‏وفاء لا غدر، فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال :سمعت رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  ‏يقول :من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على ‏سواء، فرجع معاوية "‏
فما أحسن أثر دعوته على العالمين جميعا، وما أقبح موقف الكافرين منه، الذين ناصبوه العداء ‏وعاندوا دعوته، فبأبي أنت وأمي يا رسول الله

احتماله ‏ صلى الله عليه وسلم  الأذى في تبليغ الدعوة :‏
وقد ضرب رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  أروع الأمثلة في التمسك بالحق والثبات عليه وعدم التضعضع أمام الباطل ‏وسلطانه، فعن عقيل بن أبي طالب قال :جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا :إن ابن أخيك يؤذينا في ‏نادينا وفي مجلسنا فانهه عن أذانا، فقال لي :يا عقيل ائت محمدا قال فانطلقت إليه، فجاء في الظهر من ‏شدة الحر فجعل يطلب الفيء يمشي فيه من شدة حر الرمضاء، فأتيناهم، فقال أبو طالب :إن بني ‏عمك زعموا إنك تؤذيهم في ناديهم وفي مجلسهم، فانته عن ذلك، فحلَّق رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  ببصره إلى ‏السماء فقال : أترون هذه الشمس؟ قالوا :نعم، قال :ما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن ‏تشعلوا منها شعلة، فقال أبو طالب :ما كذبنا بن أخي قط فارجعوا"‏ ، يبين لهم شدة تمسكه بالحق ‏الذي هداه الله إليه واستحالة تركه أو ترك الدعوة إليه، فكما أنهم عاجزون عن أن يشعلوا شعلة من ‏الشمس فهو لا يمكنه ترك ما أوحاه الله إليه، وإزاء هذا الإباء والثبات، عادته قريش وآذوه وصدوا ‏الناس عنه، حتى بلغ بهم الأمر أن يتعاقدوا ويتعاهدوا على مقاطعة الرسول والمؤمنين ومن يسانده من ‏أقربائه حتى لو كانوا على دين قريش، فقاطعوهم مقاطعة اجتماعية لا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم ‏ولا يكلموهم ولا يجالسوهم وقاطعوهم مقاطعة اقتصادية لا يبيعون منهم ولا يبيعون لهم، وكتبوا ‏يذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، وظلت هذه المقاطعة ثلاث سنوات، وانظر تصويرا لتلك ‏الحالة الصعبة التي كان فيها المسلمون، يقول سعد بن أبي وقاص :لقد رأيتني مع رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  بمكة ‏فخرجت من الليل أبول، فإذا أنا أسمع قعقعة شيء تحت بولي، فنظرت فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها ‏فغسلتها ثم أحرقتها، فرضضتها بين حجرين ثم استففتها، فشربت عليها من الماء فقويت عليها ‏ثلاثا"‏ ، "وكانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئا من الطعام لعياله، فيقوم أبو ‏لهب عدو الله، فيقول :يا معشر التجار :غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئا، فقد ‏علمتم ما لي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافا، ‏حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يديه شيء يطعمهم به"‏ ‏ فما رده ذلك ‏عن دعوته، وقد بلغ الإيذاء بأصحابه مبلغه حتى اضطرهم ذلك إلى مغادرة الأوطان والهجرة منها، ‏وترك التجارات والأموال والأهلين، وانتهى الأمر به ‏ صلى الله عليه وسلم  إلى الهجرة وهو صابر محتسب صامد كالطود ‏الأشم، تميد الجبال الشم وهو ‏ صلى الله عليه وسلم  ثابت لا ينحني، ولم يقبل رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  أن يساوم على دعوته، أو ‏يقبل بما يدعونه من الحلول الوسط، بأن يكتم بعض ما أنزل الله إليه في سبيل أن يمتنع الكافرون عن ‏معاداته أو محاربته، أو أن يلين في الحق في مقابل أن يلينوا معه في مواقفهم، بل رفض كل ذلك وظل ‏صامدا فصلى الله تعالى عليه وسلم وقد سجل القرآن الكريم هذا الموقف بقوله تعالى :" وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ ‏فَيُدْهِنُونَ" [القلم :9 ]، وقال لهم في قوة وصلابة في الحق كما أمره ربه :" قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ ‏مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ ‏دِينِ" [الكافرون :1-6] وعرضوا عليه الأموال والنساء والملك، فيأبى كل ذلك ولسان حاله يقول :والله ‏لو وضعوا الشمس في يمني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله تعالى ‏أو أهلك دونه.‏

‏ ولما مكنه الله تعالى وأظهره لم يطغى أو يظلم أحد ولم يبغ العلو في الأرض وإنما جاهد في الله ‏حق جهاده، وبذل نفسه في سبيل ذلك، وسنَّ في ذلك سننا هي في غاية العدل والكمال، فلا ظلم ‏ولا اعتداء ولا إفساد، ولا رغبة في العلو في الأرض بالباطل، ولا رغبة في التوسع على حساب ‏الشعوب، بل كان يدعوهم إلى الله تعالى لا إلى نفسه ولا إلى قومه، حتى كان العربي والعجمي في ‏كنفه سواء، فهذا بلال الحبشي مؤذن لصلاة المسلمين بين يدي رسول الله، وهذا صهيب الرومي ‏الذي ترك ماله لقريش حتى لا يمنعوه من الهجرة إلى رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  فتلقاه الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  وهو يقول له ‏‏:ربح البيع، وهذا سلمان الفارسي الذي يقول فيه الرسول سلمان منا أهل البيت، وكان يدعو الناس ‏فمن قبل منهم دعوة الله كان واحدا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم من غير تفرقة بلون أو لغة ‏أو جنس ، وهذه هي وصية رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  لمن خرج مجاهدا في سبيل الله تعالى مما يبين بكل وضوح ‏نبل غاية الجهاد وأنه جهاد لإحقاق الحق وليس للعلو في الأرض أو الإفساد فعن سليمان بن بريدة عن ‏أبيه قال :"كان رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه ‏من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا ‏تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو ‏خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم ‏وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما ‏للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب ‏المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا ‏أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن ‏هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ..الحديث "‏ ‏ فبأبي أنت وأمي يا رسول الله ‏

الأمانة في تبليغه ‏ صلى الله عليه وسلم  الدعوة :‏
حيثما توجهت مع الرسول الكريم لا تجد إلا الطهر والنقاء، والثبات والقوة، والصدق ‏والأمانة، يبلغ ما أوحاه الله إليه، ولا يُخفي منه شيئا، حتى لو كان فيما أمر بتبليغه ما يدل على ‏معاتبته على أحد التصرفات، فبلغ قوله تعالى :" عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ‏أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى" [عبس :1-4]، قال ابن كثير :"ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  ‏كان يوما يخاطب بعض عظماء قريش، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم ‏مكتوم، وكان ممن أسلم قديما، فجعل يسأل رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  عن شيء ويلح عليه، وود النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  أن لو ‏كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعا ورغبة في هدايته، وعبس في وجه ابن أم ‏مكتوم وأعرض عنه، وأقبل على الآخر فأنزل الله تعالى : عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك ‏لعله يزكى"‏ ، فما انصرف عنه الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  وعبس رغبة عنه أو استهانة به، وإنما حمله على ذلك ‏رغبته في إسلام أولئك العظماء، ليعز بهم المسلمون، ومع ذلك فقد بلغها رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  ولم يكتمها.‏

وكان لرسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  مولى اسمه زيد بن حارثة تبناه الرسول قبل البعثة، وكانت عادة العرب ‏أن زوجة الابن تحرم على الوالد ولو لم يكن ابنا للصلب وإنما كان ابنا بالتبني، وأراد الله تعالى أن ‏يهدم هذا العرف الجاهلي، فلما طُلقت زينب زوجة زيد، شرع الله لرسوله ‏ صلى الله عليه وسلم  زواجها ليكون هو ‏أول من يهدم هذا العرف الجاهلي، لكن هذا الأمر كان صعبا على تلك البيئة لتأصل تلك العادة ‏فيهم، فأخفى ‏ صلى الله عليه وسلم  في نفسه هذه المشروعية، فقال الله تعالى له في شأن زينب بنت جحش وزوجها ‏حارثة مولى النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  :"وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه" فبلغها ولم ‏يكتمها، قال أنس :"جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  يقول :اتق الله وأمسك عليك ‏زوجك، قال أنس :لو كان رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  كاتما شيئا لكتم هذه، قال فكانت زينب تفخر على أزواج ‏النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  تقول :زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات "‏ ، فالرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  أمين ‏على وحي الله تعالى، يبلغه كما أنزله الله عليه، لا يزيد فيه ولا ينقص منه.‏

رحمته ‏ صلى الله عليه وسلم  بالعالمين :‏
قال الله له :" :"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، [الأنبياء :107]، فما أرسله تعالى إلا ليكون إرساله ‏رحمة للعالمين جميعا فمن قبل رسالته فهو ممن رحمهم الله تعالى ومن أعرض فعلى نفسه جنى، ولقد ‏شملت رحمته ‏ صلى الله عليه وسلم  حتى الحيوانات، فعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال :"كنا مع رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  ‏في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش، ‏فجاء النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  فقال :من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها، ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال :من ‏حرق هذه؟ قلنا :نحن، قال :إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار"‏ ‏ فالنبي ‏ صلى الله عليه وسلم  يرق لحال هذا ‏الطائر الذي فقد ولديه، ويرحمه ويأمر من أخذهما بإطلاقهما، مع أن صيد البر حلال لكن الرحمة التي ‏ملأت جوانح الرسول الكريم لم يقدر معها على رؤية هذا الطائر المسكين المفجوع في ولده، حتى أمر ‏بإطلاقه، وها هو ذا ‏ صلى الله عليه وسلم  يدعو إلى رحمة كل ما فيها روح ويحث على ذلك ببيان ما فيه من الأجر ‏فيقول :"بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث ‏يأكل الثرى من العطش، فقال :لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي ‏فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا :يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال :في كل كبد ‏رطبة أجر"‏ ‏ وكان ‏ صلى الله عليه وسلم  يرحم الصبية الصغار ويقبلهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قبل رسول ‏الله ‏ صلى الله عليه وسلم  الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع :إن لي عشرة من ‏الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  ثم قال :من لا يَرحم لا يُرحم"‏ ، ودعا أمته إلى ‏رحمة الخلق جميعهم-من في الأرض- من يعقل كالإنس ومن لا يعقل كالحيوانات، فقال :"الراحمون ‏يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها ‏وصله الله، ومن قطعها قطعه الله "‏ ، وقد سجلت لنا السيدة خديجة رضي الله تعالى عنها شمائله التي ‏طبعه الله تعالى عليها حتى من قبل أن تأتيه الرسالة، فقالت له لما جاءه الوحي :" والله ما يخزيك الله ‏أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"‏ ‏ ‏فكانت هذه خلاله ‏ صلى الله عليه وسلم  قبل أن يوحى إليه، فلما جاءه الوحي زادت نورا وتلألؤا وجلالا، فصلى الله ‏عليك يا من أرسلك ربك رحمة للعالمين ‏

الحلم والعفو والصفح من شمائله ‏ صلى الله عليه وسلم :‏
كان الحلم والعفو والصفح شيمة هذا الرسول الكريم، حتى إنه لم ينتقم لنفسه قط، إلا أن ‏تنتهك حدود الله تعالى، فقد كان لرجل من اليهود دين على رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  فأتاه يتقاضاه منه وأغلظ ‏له في الكلام فرد عليه الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  بحلم وصفح-على ما يتبين من هذه الرواية-حتى أداه ذلك إلى ‏الإسلام، فقد كان زيد بن سعنة من أحبار اليهود وأتى النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  "يتقاضاه فجبذ ثوبه عن منكبه ‏الأيمن، ثم قال :إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مطل، وأني بكم لعارف، فانتهره عمر، فقال له ‏رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  :يا عمر أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج :أن تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن ‏التقاضي، انطلق يا عمر أوفه حقه، أما أنه قد بقي من أجله ثلاث [أي لم يحن أجل الدين بعدُ، بل ‏بقي منه ثلاث] فزده ثلاثين صاعا، لتزويرك عليه"‏ ، ورواه ابن حبان وفيه :"فلما كان قبل محل ‏الأجل بيومين أو ثلاثة خرج رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  في جنازة رجل من الأنصار، ومعه أبو بكر وعمر ‏وعثمان ونفر من أصحابه، فلما صلى على الجنازة دنا من جدار فجلس إليه، فأخذت بمجامع قميصه ‏ونظرت إليه بوجه غليظ، ثم قلت :ألا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب ‏بمطل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم، قال :ونظرت إلى عمر بن الخطاب وعيناه تدوران في وجهه ‏كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره، وقال :أي عدو الله، أتقول لرسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  ما أسمع وتفعل به ما ‏أرى؟ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي هذا عنقك، ورسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  ينظر إلى ‏عمر في سكون وتؤدة، ثم قال :إنا كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء ‏وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعا من غيره، مكان ما رعته، قال ‏زيد فذهب بي عمر فقضاني حقي وزادني عشرين صاعا من تمر، فقلت :ما هذه الزيادة؟ قال :أمرني ‏رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  أن أزيدك مكان ما رعتك، فقلت :أتعرفني يا عمر؟ قال :لا فمن أنت؟ قلت :أنا زيد ‏بن سعنة، قال :الحَبْر؟ قلت :نعم الحَبْر، قال :فما دعاك أن تقول لرسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  ما قلت وتفعل به ما ‏فعلت؟ فقلت :يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  حين نظرت إليه إلا اثنتين ‏لم أختبرهما منه :يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد أختبرتهما، فأشهدك يا ‏عمر أني قد رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد ‏ صلى الله عليه وسلم  نبيا، وأشهدك أن شطر مالي-فإني أكثرها ‏مالا-صدقة على أمة محمد ‏ صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر :أو على بعضهم؟ فإنك لا تسعهم كلهم، قلت :أو على ‏بعضهم، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  فقال زيد :أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ‏‏..الحديث"‏ ‏ فحلم عليه، ولم يرد عليه بمثل ما قال، بل زاده في حقه من أجل انتهار عمر له، وعن ‏أنس بن مالك قال كنت أمشي مع رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي ‏فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  قد أثرت بها حاشية البرد من ‏شدة جبذته، ثم قال :يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  ثم ضحك، ‏ثم أمر له بعطاء"‏ ‏ فلم يقابل جفاء الأعرابي وغلظته وقسوته عليه إلا أن التفت إليه وضحك، ثم ‏أعطاه ما سأل، فما أحلمك يا رسول الله.‏
وقد حاربته قريش أشد المحاربة، وألَّبوا عليه القبائل وآذوه وآذوا أصحابه، فلما أمكنه الله منهم ‏وأظهره عليهم ودخل مكة فاتحا في عام الفتح في موقف النصر والعزة والتمكين، لم يعاملهم بما ‏يستحقونه من العقاب البليغ، بل عفا عنهم "وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد :ما ترون أني صانع ‏بكم؟ قالوا :خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال :اذهبوا فأنتم الطلقاء"‏ ‏.‏

شجاعته ‏ صلى الله عليه وسلم  :‏
كان لرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  في الشجاعة القدح المعلى فكان أسرع الناس إلى العدو وأقربهم إليه، ولم يفر ‏ صلى الله عليه وسلم  من أية معركة رغم شدتها والتحام الصفوف فعن أبي إسحق قال :"جاء رجل إلى البراء فقال ‏‏:أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة، فقال أشهد على نبي الله ‏ صلى الله عليه وسلم  ما ولىَّ، ولكنه انطلق أخِفَّاء من ‏الناس وحُسَّر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد ‏فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر ‏وهو يقول :أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، اللهم نزل نصرك، قال البراء :كنا والله إذا احمر ‏البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  "‏ ‏ وكان ‏ صلى الله عليه وسلم  إذا دهم المدينة خطر ‏يكون أسرع الناس لاستجلائه، فعن أنس قال :"كان النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  أحسن الناس وأجود الناس وأشجع ‏الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  قد سبق الناس ‏إلى الصوت، وهو يقول :لن تراعوا، لن تراعوا، وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج، في ‏عنقه سيف، فقال :لقد وجدته بحرا أو إنه لبحر"‏ ‏ فلفرط شجاعته ‏ صلى الله عليه وسلم  كان أول من فزع حتى ‏استجلى الأمر، حتى إن أسرع الناس من بعده لم يلحقه إلا وهو راجع، وذهب على فرس عري ليس ‏عليه سرج والسيف في عنقه، فأي شجاعة هذه التي تجعل من صاحبها يقدم بمفرده ولا ينتظر من ‏يعاونه أو يساعده على هذا الوضع الصعب، و عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخبر :"أنه غزا ‏مع رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  قبل نجد فلما قفل رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، ‏فنزل رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  تحت سمرة فعلق ‏بها سيفه، قال جابر فنمنا نومة ثم إذا رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  يدعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس فقال ‏رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي :من يمنعك مني؟ ‏قلت :الله فها هو ذا جالس، ثم لم يعاقبه رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم "‏ ، في هذا الوضع الصعب حيث الرجل ‏ممسك بالسيف، والرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  ليس معه سلاح، لكنه ظل رابط الجأش واثقا من معية الله، ولم يظهر ‏منه خوف أو جزع، بل ثبات ويقين، قال ابن حجر :"وفي الحديث فرط شجاعة النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  وقوة يقينه ‏وصبره على الأذى وحلمه عن الجهال"‏ ‏ ‏

وجوب نصرة النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  : ‏
نصرة الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  من لوازم الإيمان، وقد ضمن الله تعالى الفلاح لمن آمن برسوله ونَصَرَه، فقال ‏تعالى :"فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" ‏‏[الأعراف :157]، فالذين عزروه هم الذين وقَّروه، والذين نصروه هم الذين أعانوه على أعداء الله ‏وأعدائه بجهادهم ونصب الحرب لهم، وقد مدح الله تعالى المهاجرين الذين نصروا رسوله وشهد لهم ‏بالصدق في إيمانهم فقال تعالى :" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً ‏مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"[الحشر :8 ] كما شهد لمن آوى ‏المهاجرين ونصر الرسول بأنهم هم المؤمنون حقا فقال تعالى :"وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي ‏سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" [الأنفال :74] ‏فكان البذل والعطاء في سبيل الله سواء بالهجرة أو بالنصرة دليل الإيمان الحق.‏
وكان رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  وهو في مكة قبل الهجرة يطوف على الناس يطلب النصرة حتى يتمكن ‏من إبلاغ رسالة الله تعالى للعالمين،"فعن جابر قال :مكث رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  بمكة عشر سنين يتبع الناس ‏في منازلهم بعكاظ ومجنة، وفي المواسم بمنى، يقول :من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي، وله ‏الجنة، .." الحديث ، وعندما أراد الهجرة إليهم في المدينة أخذ البيعة عليهم أن ينصروه وأن يمنعوه مما ‏يمنعون من أهليهم، ففي الحديث المتقدم قال لهم :"وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما ‏تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة"‏ ‏. ‏

وقد أخذ الله تعالى الميثاق على من تقدمنا من الأمم بنصرة الرسول الكريم، فما أتعس قوم أخذ ‏عليهم الميثاق بنصرته ‏ صلى الله عليه وسلم  فإذا هم يسخرون ويستهزئون، قال الله تعالى في أخذه الميثاق على من سبق ‏من الأمم :" وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا ‏مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ ‏مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ" [آل عمران :81]، فأخذ الميثاق على النبيين كلهم وأممهم تبع لهم فيه، قال ابن كثير ‏‏:"قال علي بن أبي طالب وابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما :ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أُخذ ‏عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به وينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن ‏بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه"‏ ‏.‏

وقد بين الله تعالى أنه ناصر رسوله، وأن رسوله ليس في حاجة إلى نصرهم، والمسلم عندما ‏ينصر الرسول فإنما يسعى لخير نفسه، وإذا تقاعس فلن يضر إلا نفسه، وقد نصر الله رسوله في أحلك ‏الظروف وأصعب الأوقات عندما هاجر من مكة إلى المدينة وقريش كلها تطارده بخيلها ورجلها تأمل ‏في العثور عليه، لكن الله أنجاه منهم مع ضعف الإمكانات وقلة الزاد والمعين، قال الله تعالى يبين ذلك ‏‏:" إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ ‏تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى ‏وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [التوبة :40] فمن تقاعس عن نصرة الرسول فلا يُزري إلا ‏بنفسه، وهي منزلة من العز والشرف قد حرمها منه.‏

وإذا كانت هناك وسائل كثيرة لنصرة الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  والانتصار له ممن سخر أو استهزأ من الكفرة ‏والملحدين، فإن من النصرة التي يقدر عليها كل مسلم، ولا يعذر في التخلف عنها :محبة الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  ‏وموالاته واتباع سنته، وترك الابتداع في الدين، إذ لا يستقيم أن يكون المسلم ناصرا حقا للرسول ‏الكريم في الوقت الذي يعصيه فيه ويخالف سنته، ويبتدع في دينه، أو يوالي أعداءه، ويناصرهم ويقف ‏معهم في ملماتهم، وكيف تكون هناك موالاة بين المسلم وبين الكافر الذي يسخر أو يسب الرسول ‏الكريم ‏ صلى الله عليه وسلم  وقد قال الله تعالى :"لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ‏وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ ‏مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ ‏اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [المجادلة :22]‏

وجوب تعزيره وتوقيره ‏ صلى الله عليه وسلم  :‏
التعزير النصرة والحماية والتوقير التعظيم والإجلال وكل ذلك يستحقه الرسول الكريم وبذلك أمرنا ‏رب السموات والأرضين قال الله تعالى :"إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ‏وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً" [الفتح :8-9]، ومحبة النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  وتوقيره يرجع إلى أمرين :أمر ‏إلى صفاته الشخصية وشمائله التي تحلى بها، والتي لا تدع لأحد منصف اطلع عليها إلا محبة هذا ‏الرسول وتوقيره وتعظيمه، وهذه تكون من المسلمين كما تكون من المنصفين من غير المسلمين، ‏وهناك كم كبير من أقوالهم في ذلك، وآخر إلى أمر الله بذلك وإيجابه على المسلمين وهذه يختص بها ‏الذين آمنوا بالله ورسوله، حتى يفديه المؤمن بأبيه وأمه، بل يكون الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  أحب إليه من كل شيء ‏فقد قال رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  :"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"‏ ، ‏بل لا بد أن يكون الرسول أحب إلى المسلم من نفسه التي بين جوانحه فيؤثر مرضاة الرسول على ما ‏تطمح إليه نفسه، ويقدم أمره وسنته على محبوباته ورغباته، فعن عبد الله بن هشام قال:"كنا مع النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر :يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا ‏من نفسي، فقال النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر فإنه ‏الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  الآن يا عمر"‏ ، وقد كان المسلمون من محبتهم ‏لرسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  يعرضون أنفسهم للمهالك والردى في سبيل حفظ الرسول ونجاته فعن أنس رضي الله ‏عنه قال :"لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  وأبو طلحة بين يدي النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  مجوب به عليه ‏بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد القد يكسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه ‏الجعبة من النبل فيقول انثرها لأبي طلحة، فأشرف النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة :يا نبي ‏الله بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك"‏ ، وإزاء كل ما تقدم ‏لم يكن من المسلمين لرسولهم إلا الحب والإجلال والإكبار والرغبة في فدائه بكل ما يملكون، ولم ‏يكن أحد من أصحابه يطيق أن يسمع شيئا مما قد يكون فيه أدني نقص من قدره ‏ صلى الله عليه وسلم  فعن أبي هريرة ‏رضي الله عنه قال :"استب رجلان :رجل من المسلمين ورجل من اليهود، قال المسلم :والذي ‏اصطفى محمدا على العالمين، فقال اليهودي :والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ‏ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا ‏النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  المسلم فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  :لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون ‏يوم القيامة فأصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش فلا أدري أكان ‏فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله"‏ ‏ فلم يحتمل الصحابي الجليل أن يسمع من اليهودي ‏تفضيل موسى ‏ صلى الله عليه وسلم  على رسول الله ‏  صلى الله عليه وسلم ، وقد روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قصة تبين مدى ‏حب الصحابة لرسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  فعنه " أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  وتقع فيه فينهاها فلا ‏تنتهي ويزجرها فلا تنزجر، قال :فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  وتشتمه فأخذ المغول ‏فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذُكر ‏ذلك لرسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  فجمع الناس فقال :أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام، فقام ‏الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  فقال :يا رسول الله أنا صاحبها ‏كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين ‏وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها ‏واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  ألا اشهدوا أن دمها هدر "‏ ‏.‏

‏ ولم يكن يتصور أن يقوم أحد ممن آمن به بانتقاصه أو سبه أو السخرية منه أو الاستهزاء به، ‏وقد أجمع علماء المسلمين على أن من سب الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  أو أحد من أنبياء الله ورسله أنه مرتد ويجب ‏قتله، كما أن من سبه من أهل العهد والذمة فإن عهده ينتقض بذلك ويجب قتله فإنا لم نعاهدهم على ‏سب رسولنا أو الانتقاص منه، قال محمد بن سحنون :" أجمع العلماء على أن شاتم النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  و ‏المتنقص له كافر، و الوعيد جار عليه بعذاب الله له و حكمه عند الأمة القتل و من شك في كفره و ‏عذابه كفر"‏ ‏ وقال ابن تيمية :" و تحرير القول فيه : إن الساب إن كان مسلما فإنه يكفر و يقتل ‏بغير خلاف و هو مذهب الأئمة الأربعة و غيرهم و قد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق ‏بن راهويه و غيره، و إن كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك و أهل المدينة، و سيأتي حكاية ‏ألفاظهم و هو مذهب أحمد و فقهاء الحديث و قد نص أحمد على ذلك في مواضع متعددة قال حنبل ‏‏: سمعت أبا عبد الله يقول : [ كل من شتم النبي صلى الله عليه و سلم أو تنقصه ـ مسلما كان أو ‏كافراـ فعليه القتل و أرى أن يقتل و لا يستتاب"‏

وبعد فهل وفيتُ حق الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم ، لا وألف لا، بل ولا قطرة في بحر حقه وفضله، فبأبي أنت وأمي يا ‏رسول الله، اللهم إنا قد أحببنا نبيك وأصحاب نبيك فاللهم احشرنا في زمرتهم

 

محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية