اطبع هذه الصفحة


إعداد القوة الواقع والمأمول‏

محمد بن شاكر الشريف

 
الحق له قوة ذاتية نابعة منه ومن تجافيه عن الباطل، ويستطيع دعاة الحق أن يصلوا به إلى عقول ‏الناس، بما احتواه من الحجج والبراهين الدالة عليه، ولا يحتاج الحق في إقناع الناس به إلى قوة تجبرهم ‏أو تكرههم على القبول به واختياره، فإن قوته فيه، ومتى ما احتاج الحق إلى الإكراه لتحقيق الاقتناع ‏بأدلته وبراهينه لم يكن حقا، لذا جاء النص بنفي الإكراه في الدين وذلك في قوله تعالى :"لاَ إِكْرَاهَ فِي ‏الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ ‏انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [البقرة :256] فالإسلام دين حق عليه دلائل يقينية كل من اطلع عليها لا ‏يملك غير التسليم بها والإذعان لها، فلا حاجة إذن إلى الإكراه عليه، قال ابن كثير رحمه الله تعالى ‏‏:"أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج ‏إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه ‏علي بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها ‏مقسورا"‏ ، ولعل مجيء الآية بلفظ " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ "، ولم تكن بلفظ :لا إكراه على الدين، مما ‏يوضح ذلك، ثم كان قوله تعالى :" قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" كالتعليل لما سبق. ‏

ورغم أن الحق منصور من داخله بأدلته وبراهينه، فلا بد له من قوة خارجية، لا لكي يفرض ‏بها نفسه على الناس، وإنما يحتاج إليها لأمرين :الأول :لكي تدافع عنه ضد عدوان المعتدين وصيال ‏الصائلين الذين ختم الله تعالى على قلوبهم، وأصبح نهجهم العناد والمكابرة، والعدوان على المخالفين ‏
الثاني :جهاد الطغاة الظالمين الذين يصدون الناس بما لديهم من سلطان وقوة عن الاستجابة ‏للنداء الحق ويصرفونهم عن اتباعه، ويجبرونهم جبرا وقسرا على البقاء على دينهم الفاسد وعدم الإقبال ‏على الدين الحق، ولأجل تلك الحقيقة شرع الله تعالى الجهاد.‏

‏ لقد كانت مكة عند بداية الدعوة إلى الله تعالى دار كفر وكان الغالب على أهلها الكفر بالله ‏تعالى، واستمر ذلك زمنا طويلا، لذلك لم يكن هناك من فائدة لإعداد العدة والقوة الحربية لأنها في ‏ظل موازين القوى غير المتكافئة لن تستخدم، ويكون استخدامها في ذلك الوقت المبكر من عمر ‏الدعوة مدعاة للقول بأن الإسلام جاء من أجل قتال الناس، ولو قدر له الانتصار لقالوا إنما انتشر بقوة ‏السيف ودخله الناس مكرهين ولم يدخلوا مؤمنين.‏
‏ ثم إن ذلك قد يؤدي إلى أمر خطير لو قدر لها أن تنهزم وهو استئصال الدعوة في مهدها ‏ومنعها من النمو، كما أن شرع الجهاد في ذلك الوقت المبكر لن يساعد على تربية المسلمين الذين ‏استجابوا لله والرسول ولدعوة الحق.‏

‏ ومع أن الإعداد الحربي في ذلك الوقت غير ممكن وغير مراد، لكن كان يجري هناك إعداد أهم ‏بكثير من الإعداد الحربي، بل لا يقوم الإعداد الحربي إلا عليه، فكان هناك إعداد أكثر أهمية يجري ‏على أرض الواقع على بصيرة وجد واجتهاد مع الروية وعدم العجلة، وهو بناء المسلم من داخله ‏‏:عقيدته وتصوراته وعبادته.‏
وما إن انتقل المسلمون من دار الدعوة (مكة المكرمة) إلى دار الدولة (المدينة المنورة) حتى ‏بدأت مرحلة جديدة من الإعداد وهو الإعداد الحربي، وجاء الأمر بذلك من الله تعالى رب الخلق ‏جميعهم فقال :"وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ‏وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ ‏تُظْلَمُونَ" [الأنفال :60]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى :"أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب ‏الطاقة والإمكان والاستطاعة، فقال :وأعدوا لهم ما استطعتم، أي مهما أمكنكم من قوة ومن رباط ‏الخيل"‏ ، وقال الطبري في بيان أنواع القوة بعدما تحدث عن الرمي :"ومن القوة أيضا السيف والرمح ‏والحربة، وكل ما كان معونة على قتال المشركين كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية ‏منهم"‏ ، وقال الطيب بن عاشور:" والإعداد التهيئة والإحضار ودخل في ( ما استطعتم ) كل ما ‏يدخل تحت قدرة الناس اتخاذه من العدة، والخطاب لجماعة المسلمين وولاة الأمر منهم، لأن ما يراد ‏من الجماعة إنما يقوم بتنفيذه ولاة الأمور الذين هم وكلاء الأمة على مصالحها، والقوة كمال ‏صلاحية الأعضاء لعملها...فاتخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور ‏الماضية، واتخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوة في جيوش عصرنا، وبهذا الاعتبار ‏يفسر ما روى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر أن رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال :" ‏ألا إن القوة الرمي" قالها ثلاثا، أي أكمل أفراد القوة آلة الرمي أي في ذلك العصر، وليس المراد حصر ‏القوة في آلة الرمي"‏

فقد صار بالإمكان الآن-بعد تحيز المسلمين إلى دار تأويهم- استعمال العدة الحربية والاستفادة ‏منها، وأصبح وجودها والتدرب عليها في هذه الحالة ضرورة لا بد منها حيث تحقق أهداف ‏المسلمين، بعكس الحالة الأولى التي كان من الممكن أن تشكل عبئا عليهم، وقد أطلقت الآية في بيان ‏القوة التي ينبغي إعدادها من غير تقييد حتى يسمح إطلاقها بقبول ما يجد من آلات القوة مع تغير ‏الأزمنة، وهذا الأمر يفرض على جماعة المسلمين الجد والاجتهاد والمثابرة في تحصيل القوة الممكنة في ‏عصرهم التي من شأنها أن تردع الكفار المحاربين أعداء الله تعالى ورسله والمؤمنين.‏
‏ وفي الأمر بإعداد ما يستطاع من القوة نهي عن الإهمال والتقاعس عن امتلاك أقصى ما يمكن ‏امتلاكه من القوة الحقيقية ووسائلها لا القوة الصورية أو الاستعراضية، فالأمة الإسلامية أمة رسالية، ‏مطلوب منها تبليغ رسالة الله إلى العالمين.‏

‏ وقد بين نص الآية السبب الذي لأجله أمر المسلمون بإعداد ما يستطاع من القوة، وهو قوله ‏تعالى :"تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ" فكان في إعداد ‏القوة البالغة أمان للأمة من الأعداء المعروفين وغير المعروفين، حتى إنه ليخافها ويرهب جانبها من لا ‏يعرفه المسلمون، مما يشكل رادعا لمن تسول له نفسه بمهاجمتهم أو التآمر عليهم، ويصير الإهمال في ‏إعداد ما يستطاع من القوة مدعاة لأن يستخف بهم اعداؤهم ويتجرؤون عليهم. ‏
هذا النص القرآني في وجوب إعداد القوة التي تخيف الأعداء بغرض تأمين الدعوة إلى الله تعالى ‏في أرض الله، وتأمين دار الإسلام ضد عدوان المعتدين، يفتح باب التصنيع الحربي أمام المسلمين على ‏مصراعيه، لأن إعداد المستطاع من القوة لا يتم إلا بذلك، ومن القواعد المشهورة عند أهل العلم أن ‏ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، من هنا يظهر وجوب إقامة المصانع الحربية التي تمد جيوش ‏المسلمين بالآلة الحربية المناسبة لعصرهم في جميع المجالات الحربية :البرية والبحرية والجوية.‏

‏ ويستتبع إقامة المصانع الحربية العناية بتدريس العلوم التقنية، التي تعد بمثابة اللبنة الأولى الازمة ‏لإقامة تلك المصانع، وتشجيع البحث العلمي، ورصد الميزانيات المناسبة له، وليس يقبل عقلا أو شرعا ‏أن ميزانية بعض أندية الألعاب البدنية، أو مؤسسات اللهو كالسينما ونحوها في بلد مسلم واحد، ‏تفوق ميزانيات البحث العلمي في بلاد المسلمين مجتمعة.‏

وقد ظهرت عناية الشريعة بالتصنيع الحربي لما له من أهمية، فقال رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  :"إن الله ليدخل ‏بالسهم الواحد ثلاثةً الجنةَ :صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممد به، وقال ارموا ‏واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، ‏وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق"‏ ، وقد تناول هذا الحديث أمور ثلاثة رامي السهم وهو ‏يمثل الجيش وصانعه وهو يمثل الصناعات الحربية والممد به وهو يمثل التموين والإمداد الذي تحتاج إليه ‏الجيوش.‏

وقد بين رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  أهمية ائتلاف تلك العناصر الثلاثة وأشركهم جميعا في حصول الثواب، ‏فلم يقصر ثواب الجهاد وأجره على المجاهد الفعلي، بل جعل القائم بالصناعة الحربية شريكا للمجاهد ‏في دخول الجنة لما يترتب عليها من نشر الدين وحماية الحوزة، ولأن المجاهد بالفعل يحتاج في جهاده ‏إلى الآلة الحربية المناسبة، وهذه لا يمكن الحصول عليها إلا بالتصنيع، كما بين الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  أهمية ‏الإمداد والتموين فقد يوجد المجاهد ويوجد السلاح، ولا يوجد من يوصل السلاح إلى المجاهد وقت ‏الحاجة إليه، فلا بد من وجود من يمد بالسلاح ويوصله إلى من يجاهد به. ‏
‏ وقوله ‏ صلى الله عليه وسلم  :صانعه يحتسب في صنعته الخير، يعني يطلب في صنعة السهم الثواب من الله تعالى، ‏وهذا لا يعني أن لا يأخذ على ذلك أجرا، بل القصد أن يكون يريد بذلك العمل نصرة الدين ‏والدفاع عن حوزة المسلمين. ‏

وقد أشار القرآن إلى الصناعات الحربية في قوله تعالى :"... وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ‏‏..ٌالآية [الحديد :25]، قال ابن كثير :" فيه بأس شديد، يعني السلاح كالسيوف والحراب والسنان ‏والنصال والدروع ونحوها"‏ ، والحديد لا يصير سيوفا وحرابا ونصالا إلا بالتصنيع، وكذلك قال تعالى ‏ممتنا بتعليم الصناعة الحربية لعبده داود عليه السلام :"وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ‏فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ" [الأنبياء :80] قال القرطبي :"قوله تعالى :" وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ " [الأنبياء :80]، ‏يعني اتخاذ الدروع بإلانة الحديد له، واللبوس عند العرب السلاح كله :درعا كان أو جوشنا أو سيفا ‏أو رمحا"‏ ‏. وقال تعالى :"وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ ‏اعْمَلْ سَابِغَاتٍ" [سبأ 10 ، 11 ] والسابغات جمع سابغة، وهي الدرع التي تغطي المقاتل غطاء وافيا، ‏والدرع :القميص من حديد أو غيره.‏

كما دلت النصوص على العناية بالمركبات الحربية التي يستخدمها المجاهدون، أو التي تنقلهم إلى ‏ميادين الجهاد، مما يبين أن صناعة المركبات الحربية سواء كانت دبابات برية أو سفن وغواصات بحرية ‏أو طائرات جوية، ينبغي أن تلقى العناية أيضا فإن الجهاد بغيرها متعذر أو مستحيل في أيامنا.‏

‏ ومن النصوص التي تحدثت عن المركبات الحربية قوله تعالى :" وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ‏وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ" فالخيل هي المركبات الحربية في زمن نزول القرآن، وقد دلت السنة على العناية ‏بالخيل ووردت فيها أحاديث كثيرة فمن ذلك قوله ‏ صلى الله عليه وسلم  :"من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله ‏وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة"‏ ، أي من هيأ فرسا وأعده للجهاد ‏في سبيل الله تعالى طاعة لله تعالى وابتغاء وجهه فإن ما يأكله هذا الفرس من الطعام وما يرويه من الماء ‏وما يخرج منه من بول أو روث كان ذلك كله حسنات توضع في ميزان ذلك الشخص، وهذا يدل ‏دلالة واضحة على أهمية العناية بالمركبات الحربية، وأخرج البخاري في صحيحه قال ‏ صلى الله عليه وسلم  :"الخيل ‏لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر :فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال بها في ‏مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ولو أنه انقطع ‏طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم ‏يرد أن يسقي كان ذلك حسنات له فهي لذلك أجر ... "الحديث ، ومعنى الحديث أن من أعد خيله ‏للجهاد في سبيل الله تعالى فإنه يؤجر على كل شيء يتعلق بها، فلو ربطها في حبل طويل وتركها ‏ترعى فإن كل مسافة مشتها وهي في الحبل كي ترعى كانت له حسنات، ولو أنها قطعت ذلك الحبل ‏فاستنت أي أفلتت ومرحت شرفا أو شرفين، والشرف ما ارتفع من الأرض كانت آثارها وما تلقيه ‏من فضلات حسنات له، ولو مرت بنهر فشربت منه من غير إرادة له في ذلك كانت أيضا حسنات ‏له، فكيف لو أراد؟، وهذا مما يدل على عناية الإسلام بكل ما يعين ويساعد على نشر الدعوة وحماية ‏الحوزة، ومن ذلك بلا شك المركبات الحربية

وقد بلغت عناية المسلمين بالسلاح وإعداد القوة اللازمة لنشر الدعوة وحماية الحوزة أن جعل ‏أهل العلم السهمين الواردين في قوله تعالى :وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ‏‏...الآية" [الأنفال :41] "في الخيل والعدة في سبيل الله، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي ‏الله عنهما، قال الأعمش عن إبراهيم :كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  في الكراع ‏والسلاح، فقلت لإبراهيم :ما كان علي يقول فيه ؟ قال :كان أشدهم فيه، وهذا قول طائفة كثيرة ‏من العلماء رحمهم الله"‏ ‏.‏

واستخدم المسلمون الصحابة فمن بعدهم الآلات الحربية في الفتوحات كالمنجنيق (وهي الآلة ‏التي يقذف بها الحجارة وما أشبهها) والعرادات (جمع عرادة وهي أصغر من المنجنيق)، والدبابات ‏‏(الدبابة : آلة من آلات الحرب يدخل فيها الرجال فيدبون بها إلى الأسوار لينقبوها، ويطلق عليها ‏أيضا الدراجات والضبور)، ولم يتقاعسوا عن استخدام الأسلحة التي وصل إليها التقدم العلمي في ‏عصرهم ‏
وقد اعتنى المسلمون إلى جانب ذلك بالصناعات البحرية لحاجتهم إلى السفن الحربية في نشر ‏الدعوة والدفاع عن الديار، فأنشأ المسلمون بمصر في جزيرة الروضة دار الصناعة لبناية السفن لأول ‏مرة وكان ذلك عام 54 هجرية‏ ،وفي سنة أربع عشرة ومائة أنشأ المسلمون دار الصناعة لإنشاء ‏المراكب البحرية في تونس ، وتوالى بعد ذلك إنشاؤها.‏

فإذا كانت النصوص الشرعية قد دلت على العناية بصناعة الأسلحة والمركبات الحربية، وعمل ‏بذلك سلفنا الصالح، فإنه يكون من أكبر التقصير الذي تقع فيه الأمة اليوم أن تظل تعتمد في سلاحها ‏الذي تحفظ به أمنها وتنشر به دعوة الله المكلفة بإيصالها للعالمين، على عدوها الذي لا يألوها خبالا ‏كما قال تعالى :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ ‏بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" [آل عمران ‏‏:118].‏

‏ ولا شك أن اعتماد الأمة في سلاحها على الشراء فقط دون التصنيع له مفاسد كثيرة منها ‏‏:المبالغ الضخمة التي تدفع في هذه الأسلحة التي تفوق بمراحل كثيرة قيمتها الفعلية، ومنها أن تلك ‏الأسلحة لا يمكن أن تكون أسلحة متقدمة متطورة تغني في مواقع النزال مع أعداء الأمة، بل إن ‏موردي السلاح من دول النصارى لا يعطون الأمة إلا الأسلحة التي لا تخل بميزان القوى بين الأمة ‏وبين عدوها، بحيث تضمن تلك الدول للعدو أن يحقق التفوق الحربي على الدول العربية مجتمعة أثناء ‏القتال، ومنه منع الإمداد بالسلاح أو الذخيرة وقت الحاجة إليه، فتقف الجيوش عاجزة عن التحرك، ‏ويُفرض على الأمة حينئذ ما يشاؤون من الحلول الانهزامية، وأمامنا ما حدث في قضية البوسنة ‏والهرسك، حيث منع عنهم السلاح وهم يتعرضون للقتل الشديد من الصرب، ومن مفاسد الاعتماد ‏في التسليح على الغير أن يكون قرار الأمة مغلولا غير قادر على التحرر والاستقلالية، وهذا الوضع ‏يؤدي إلى استخفاف كثير من الدول بالمسلمين.‏

إن من الأمور الغريبة التي يعسر إيجاد تسويغ مقبول لها أن تكون الأمة التي جعل الله الجهاد في ‏سبيله لتبليغ رسالة رب العالمين إلى الناس كافة أحد فرائض دينها، ثم هي تهمل آلته وما يساعد عليه، ‏رغم امتلاكها لكل ما تحتاج إليه مما يمكن أن يقيم صناعة حربية متطورة تزود الدول الإسلامية ‏جميعها بما تحتاج إليه
لقد أدى هذا الوضع أن تنتقص بلاد المسلمين من أطرافها ويحتلها الكفار من اليهود والنصارى ‏وهم مطمئنون إلى عدم قدرة هذه الدول في الدفاع عن نفسها، لأنها لا تملك سلاحها التي تدافع به ‏عن نفسها.‏

لقد تطورت صناعة الأسلحة في أيامنا هذه وكذلك المركبات الحربية تطورا مذهلا، وقد بات ‏الآن من الأمور الواضحة في فقه السياسة الشرعية وجوب القيام بالتصنيع الحربي في جميع المجالات، ‏وجوبا لا يحتمل التأخير والمماطلة، وإذا كانت الأمة تعاني من تخلف كبير في هذا المجال فإنها يمكنها أن ‏تتكامل في ذلك مع الدول الإسلامية المتقدمة في مجال التصنيع الحربي، وأن تبدأ من الآن، وتوجه ‏الجهود، وتقيم مراكز الأبحاث، وترصد الأموال اللازمة، ومن سار على الدرب وصل ولو بعد حين.‏

إن من الأمور اللافتة للنظر والتي تبين الأهمية القصوى للتصنيع الحربي هو حرص الدول القوية ‏في العالم على حرمان الدول الإسلامية من امتلاك الأسلحة القوية المتطورة ذات القوة التدميرية العالية، ‏مع أن هذه الدول تمتلك هذه الأسلحة وتستخدمها في معاركها ضد أعدائها، وتهدد باستخدامها ضد ‏من يحاول امتلاكها، ولم تتوقف مراكز أبحاثها عن النظر في هذه الأسلحة وتطويرها وابتكار أشكال ‏جديدة منها، وهو ما يعني إصرار هذه الدول على التفرد بالقوة الحقيقية في العالم، واستخدام الأسلحة ‏المتطورة ذات القوة التدميرية العالية ضد من يحاربونهم دون أن يخشوا من الرد بالمثل، وهو يكشف في ‏جانب منه عن النظرة الاستعمارية أو الاستعلائية التي تملأ عقول النخب في هذه الدول، بإزاء الدول ‏الضعيفة، والتي تريد أن تحولهم إلى مجرد ذيول لها واتباع، وبغياب القدرة الحقيقية على الردع بحرمان ‏الدول من امتلاك الأسلحة المناظرة وفرض ذلك بالقوة، يتحول العالم إلى غابة يأكل القوي فيها ‏الضعيف ويملي عليه شروطه، ولا يكون أمامه إلا أحد خيارين :أما القبول والرضوخ لما يطلب منه، ‏وإما الدمار، وفي ذلك تهديد للسلام في العالم لأن من أمن العقوبة أساء الأدب. ‏

‏ والرضوخ لهذا الوضع والقبول به والاستسلام له، معناه تحول أمتنا إلى أمة تابعة لا تملك ‏الدفاع عن نفسها أو مقدساتها، ولو كانت أمتنا الإسلامية تصنع سلاحها الذي تحتاج إليها بيد أبنائها ‏كما كانت في الماضي، لما تجرأ عبدة الصلبان على الاستخفاف والطعن في أفضل الناس وسيد الخلق ‏أجمعين محمد بن عبد الله ‏ صلى الله عليه وسلم  .‏

إنه ليس هناك ما يُسوِّغ لأحد التقاعس أو الإهمال في إعداد العدة المناسبة لعصرها، وقد تبين ‏لنا جميعا إنه لا يمكن الاعتماد أو الركون إلى ما يسمونه تطمينات أو وعود أو نحو ذلك، فالخطط ‏معدة والانقضاض على بلادنا ليس إلا مسألة ظرف مناسب، فالبدار البدار، فإن الندم بعد وقوع ‏المصاب لا يجدي، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. ‏

 

محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية