اطبع هذه الصفحة


من شروط ولي أمر المسلمين

محمد بن شاكر الشريف

 
(1-2)
الإسلام


مضت السنة الجارية أنه ما من دين أو نحلة أصاب أصحابها الضعف إلا وتكاثرت عليها حراب وسهام أعدائها من كل حدب وصوب بغية القضاء عليها أو إحداث شرخ فيها، حتى ما كان بالأمس مهجورا، يصبح اليوم مطلوبا مرغوبا يدعى إليه صباح مساء، وما كان بالأمس مقبولا يدعى إليه ويعمل به، يصبح اليوم مهجورا تتناوشه الأقوال من كل جانب، ولذلك يقول الماوردي رحمه الله تعالى: «فليس دين زال سلطانه إلا بُدِّلت أحكامه، وطُمست أعلامه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، ولكل عصر في وهيه ـ ضعفه ـ أثر» ، وهي كلمة حكيمة من عالم خبير، لها ما يصدِّقها من شواهد التاريخ البعيد والقريب على السواء، وعندما نتأملي هذا الكلام ونتابع ما يتحدث فيه البعض عن شروط ولاية الأمر في بلاد المسلمين في عصرنا الحاضر، ونجد من يزعم أن إسلام الوالي وكذلك رجولته لا تشترط في ذلك يتبين له معنى هذا الكلام.

فقد تصرمت الدهور وانقضت الأيام على تقرير بعض القضايا التي دلت عليها النصوص الشرعية وقبلتها الأمة من الناحية التنظيرية ومن الناحية العملية، ولم نجد لها مخالفة على مدى عدة قرون من الزمن، ثم يفاجئنا اليوم بعض من يناقش في هذه الأمور ويجادل فيها كمن يريد أن يعيد بناء الفقه من جديد والانقلاب على كل ثوابته بزعم التجديد، وعندما نفتش في ما يعرضه هؤلاء من أسانيد لدعواهم لا نجد شيئا يشد هذه الأقوال لا من الأدلة ولا من الواقع، وما نود مناقشته في ذلك أمران وهما اللذان كثر الكلام فيهما، أولاهما: ديانة ولي الأمر في بلد المسلمين، والثاني: رجولته، وهذا أوان مناقشة المسألة.

ديانة ولي الأمر في بلد المسلمين: ولي الأمر في بلاد المسلمين يجب أن يكون منهم، ولا يجوز أبدا في دين الله تعالى أن يكون رئيس المسلمين أو أميرهم أو ملكهم من الكافرين وهذه من المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، ولم يخالفها أو ينازع فيها أحد على مر الأعصر والدهور، وأدلة ذلك أكثر من أن تحصر في مثل هذا المقال، وقد تظاهر على ذلك أدلة من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم.

فمن القرآن الكريم:

قول الله تعالى: "يا أبها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، فالخطاب والنداء للمؤمنين، وقيد لفظ ولي الأمر بقوله: منكم، مما يبن أن ولي أمر المسلمين الذي تجب طاعته هو من كان من المؤمنين لا من غيرهم.

وقد وردت آيات عدة بالنهي عن موالاة الكفار أو اتخاذهم أولياء، وكذلك النهي عن اتخاذهم بطانة والركون إليهم حتى لو كانوا من مواطني دار الإسلام، والقبول بكون الكافر ولي أمر للمسلمين من أعظم الموالاة لهم والركون إليهم، فهناك ترابط وثيق بين موالاة الكفار وبين توليتهم الأمر، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "ولما كانت التولية شقيقة الولاية كانت توليتهم نوعاً من توليهم . وقد حكم تعالى بأن من تولاهم فإنه منهم، ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم، والولاية تنافي البراءة، فلا تجتمع البراءة والولاية أبداً، والولاية إعزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبداً، والولاية وصلة، فلا تجامع معاداة الكافر أبداً" .

وقد قال الله تعالى أيضا: "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا" فهذا إخبار ووعد من الله تعالى أنه لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، والسبيل يراد به الحجة، كما يراد به الظفر والغلبة، وخبره تعالى حق وصدق ووعده لا يتخلف، فأما الحجة فلا شك في أنه لا حجة للكافرين على المؤمنين فالإسلام الدين الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأما الظفر والغلبة فهو لمن استكمل الإيمان، فمتى ما استكمل المسلمون الإيمان فلن يكون للكافرين عليهم سبيل على أي نحو من الأنحاء، وإذا كان للكافرين نصيب من سبيل عليهم فذلك بسبب ضعف الإيمان عند المسلمين لكن ذلك لا يكون كاملا ولا دائما بسبب وجود أصل الإيمان عندهم وبسبب ما يكون من عمليات الإحياء التي تعيد الدين عند المسلمين إلى موقعه الصحيح، هذا على اعتبار أن الآية يراد منها الخبر.

وأما إن كان المراد منها التشريع فهي تعني أمر المؤمنين ألا يجعلوا للكافرين عليهم سبيلا ، وذلك يشمل كل سبيل يظهر فيه تسلط الكفار وعلوهم على المسلمين، فهم مكلفون ألا يجعلوا للكافرين عليهم سبيلا، ولا سبيل أعظم ولا أظهر من أن يكون الكافر ولي أمر للمسلم، قال ابن كثير: "يحتمل أن يكون المراد: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} أي: في الدنيا، بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: [إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار] {غافر: 51، 52}. وعلى هذا فيكون ردا على المنافقين فيما أملوه وتربصوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين، خوفا على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم، كما قال تعالى: [فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم] نادمين ] {المائدة: 52}" هذا الذي ذكره ابن كثير في تفسير الآية على أنها من قبيل الخبر والوعد.

وأما على تفسيرها أنها من باب الأمر فهي تعني ضمن ما تعني عدم تمكين الكفار من ولاية أمر المسلم بأي حال من الأحوال، لذا قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية الكريمة على أصح قولي العلماء، وهو المنع من بيع العبد المسلم من الكافر لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال، ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال؛ لقوله تعالى: { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا }" ، وعلى اعتبار أن الآية للتشريع فقد استنبط العلماء أحكاما كثيرة من هذه الآية في علاقة المسلم بالكافر حتى وإن كان من مواطني دار الإسلام تدور في معظمها على عدم جواز تسليط الكافر على المسلم بأي نوع من أنواع التسلط، ولها فروع كثيرة مذكورة في كتب الفقه.

ويقول الشاطبي رحمه الله تعالى: "قوله تعالى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا، إن حمل على أنه إخبار لم يستمر مخبره لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله، فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه، وهو تقرير الحكم الشرعي فعليه يجب أن يحمل" وهي صيرورة منه إلى أن المراد من الآية التشريع وليس الإخبار.

ولا يخفي أن ولاية الكافر على المسلم فيها تسليط عليه في كل شأنه، أكثر من تسليط السيد على عبده، لأن من شأن ولي الأمر أن يأمر وينهى، ويسوس كثير من الأمور وفق اجتهاده وما ظهر له، في الوقت الذي يجب على الرعية طاعته وموافقته، وبالنظر إلى ما يناط بولي الأمر من التكاليف وما له من الصلاحيات-على ما تقرر في كتب الأحكام السلطانية- يتبين أن ولي الأمر في بلاد المسلمين لا يمكن أن يكون من غيرهم

السنة:
قد بينت السنة مثل ما بين القرآن فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا " ، وقال: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" ، فهذه النصوص وغيرها الكثير تأمر المسلمين بالسمع والطاعة للأمير وذلك بشرطين: أن يقودهم بكتاب الله تعالى وسنة نبيهصلى الله عليه وسلم، وألا يأمرهم بالمعصية، وهذا لا يكون إلا من المسلم، إذ غير المسلم لا علم له بالشرع حتى يقودهم به، ولا رغبة عنده في الحفاظ عليه تحجزه عن الأمر بالمعصية.

كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن "الإسلام يعلو ولا يعلى" ، ومن مقتضى علو الإسلام ألا يكون ولي الأمر على المسلمين من غيرهم، فإذا كان ولي أمر المسلمين من الكفار-حتى وإن كان الكافر من مواطني دار الإسلام-لم يكن الإسلام عاليا، وقد رتب أهل العلم على علو الإسلام كثيرا من الأحكام، كالتفريق بين الزوجين إذا أسلمت الزوجة وبقي الزوج على كفره، وكذلك إذا أسلم أحد الأبوين فالولد مع المسلم منهما، وإذا أسلم عبد من عبيد الكافر ارتفع ملكه عنه، ودليلهم في ذلك كله أن الإسلام يعلو ولا يعلي، وما دل عليه هذا الحديث يتطابق مع ما دلت عليه الآية التي فيها نفي سبيل الكفار على المؤمنين، والآية والحديث يتكاملان إذ الآية فيها نفي علو الكافر على المسلم والحديث فيه إثبات علو الإسلام على غيره، فالآية مع الحديث بمثابة نفي وإثبات نفي علو الكافر وإثبات علو الإسلام.
وهذا الذي دلت عليه النصوص الشرعية قد أطبقت الأمة عليه وأجمع عليه العلماء من كل طائفة إجماعا يقينيا قطعيا لا شك فيه، ولا شك أنه لا يخالف في ذلك إلا مخذول مرذول جاهل جهلا مطبقا، ليس للدين عنده مكانة وقدر.

الإجماع:

وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد فقال القاضي عياض: "أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل " فالعلماء مجمعون على أنه لا يجوز عقدها لكافر ابتداء، ولو كان وقت العقد مسلما ثم طرأ عليه بعد ذلك الكفر انعزل عن ولايته، وقال ابن حجر: "ينعزل بالكفر إجماعا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض" ، وأقوال أهل العلم في ذلك كثيرة.
وإذا كانت النصوص الشرعية تأمر بقتال الكفار حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كما قال تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" فالكافر واقع بين أمرين: بين القتال أو إعطاء الجزية مع الصغار، فكيف يزعم زاعم بجواز ولايتهم لأمر المسلمين.

وإذا كانت النصوص الشرعية وأقوال أهل العلم متفقة على ذلك فإن الإجماع العملي أيضا يؤيد ذلك، فليس هناك حادثة واحدة على مدى الزمن وعلى اتساع رقعة بلاد المسلمين صار فيها كافر ولي أمر للمسلمين عن رضا منهم وقبول.

ولا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يجوز أن يكون الكافر وليا في نكاح المسلمة حتى لو كانت ابنته، قال ابن المنذر في كتاب الإجماع: "وأجمعوا أن الكافر لا يكون وليا لابنته المسلمة " وولايته لأمر المسلمين في بلد أعظم بلا شك من ولاية أمر نكاح امرأة مسلمة، إذ ولاية أمر نكاح المسلمة التي لا ولي لها داخل في حدود ولاية ولي الأمر، فهي جزء صغير من عمله.

بل إن الكافر لا حق له في الحكم حتى في بلاد الكفر وإن رضيه أهلها، فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم عندما أرسل كتابه إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام قال: "إلى هرقل عظيم الروم" ولم يقل: هرقل ملك الروم، يقول النووي رحمه الله تعالى: "قال النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم ، فلم يقل : ملك الروم ، لأنه لا ملك له ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام ، ولا سلطان لأحد إلا لمن ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ولاه من أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرطه ، وإنما ينفذ من تصرفات الكفار ما تنفذه الضرورة ، ولم يقل : إلى هرقل فقط ، بل أتى بنوع من الملاطفة فقال : عظيم الروم ، أي الذي يعظمونه ويقدمونه ، وقد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يدعى إلى الإسلام فقال تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } وقال تعالى : { فقولا له قولا لينا } وغير ذلك" ، وقال ابن حجر رحمه الله تعالى: "قوله: (عظيم الروم ) فيه عدول عن ذكره بالملك أو الإمرة ؛ لأنه معزول بحكم الإسلام ، لكنه لم يخله من إكرام لمصلحة التألف" وقال العيني: "يستفاد من قوله إلى عظيم الروم ملاطفة المكتوب إليه وتعظيمه فإن قلت: لم لم يقل إلى ملك الروم؟ قلت: لأنه معزول عن الحكم بحكم دين الإسلام ولا سلطنة لأحد إلا من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك فلم لم يقل: إلى هرقل فقط؟ قلت: ليكون فيه نوع من الملاطفة، فقال: عظيم الروم، أي الذي تعظمه الروم، وقد أمر الله تعالى بتليين القول لمن يدعى إلى الإسلام، وقال تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" ، وهكذا كانت رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم لملوك الأرض في زمنه لا يخاطب أحدا منهم بلفظ الملك وإنما يخاطبه بلفظ "عظيم" فكتب إلى حاكم مصر فقال: إلى المقوقس عظيم القبط، وكتب إلى النجاشي فقال: إلى النجاشي عظيم الحبشة، وكتب إلى كسرى فقال: إلى كسرى عظيم فارس، وكتب إلى قيصر فقال: إلى قيصر صاحب الروم، ولما جاء الكتاب إلى قيصر وكان عنده ابن أخيه وفهم دلالة الكلام غضب وقال: لا تقرأ الكتاب فإنه قال: صاحب الروم، ولم يقل: ملك الروم.
فإذا كانت الأدلة تدل على أن الكافر لا يعترف به ولي أمر-من الناحية الشرعية- حتى على الكفار مثله، فكيف يمكن الاعتراف بولايته على المسلمين!.

وليس في النصوص الشرعية خطاب لملوك الكفار بلفظ الملك أو الحاكم أو الأمير، وإن كان هناك حكاية عن أحوالهم بلفظ الملك، كما في قوله تعالى: "وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان" .. الآية وكما في قوله: "وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا" وكقوله تعالى: "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك"، وكما قال الهدهد لسليمان عليه السلام: "إني وجدت امرأة تملكهم" فإن هذا كله من باب الإخبار بما كان أو ما هو كائن، وهو إخبار بالواقع بما هو عليه، وهذا لا يدل على الموافقة أو الإقرار به، بعكس المخاطبة بذلك فهذا فيه إقرار وموافقة.

دعاوى المخالفين للكتاب والسنة والإجماع:
للمخالفين لحكم الشريعة في هذه المسألة كثير من الدعاوى التي لا تستند نقل صحيح أو عقل سديد، فمن ذلك:
حقوق المواطنة:
لكن إذا رجعنا لمن يخالف الكتاب والسنة وإجماع المسلمين المستقر ويقول: بجواز ولاية المواطن الكافر للأمر في بلاد المسلمين، وقيل له: ما حجتك في هذا؟ انبرى قائلا: هذا من حقوق المواطنة والمواطن الكافر يملك من الوطن مثل ما يملك المواطن المسلم، ومن ثم فله حق ولاية الأمر فيه، وهذا بلا شك معارضة للنصوص الشرعية وإجماع المسلمين بشبه ودعاوى لا يعضدها شيء مما يعضد به المسلم المعظم لدينه أقواله، لكن بالنظر في كتاب الله تعالى نجد قول الله تعالى: "إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده"، فالأرض أرض الله هو خالقها وهو مالكها وهو الذي يحدد من يكون الحاكم فيها، وقد قال الله تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون"، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة كانت مختلطة غير صافية للمسلمين، بل كان فيها من أسلم من مشركي العرب الذين عرفوا باسم الأنصار، وفيها من كان لا يزال على شركه وفيها من كان من اليهود، ومع ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقسم قيادة المدينة بين هذه الفئات الثلاث، وإنما جعل قيادتها مما انفرد به المسلمون، ومن يقرأ الصحيفة (الوثيقة) التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهل المدينة عندما نزلها بعد الهجرة يدرك لا محالة أن حكم المدينة وقيادتها خالصة للمسلمين لا يشركهم في ذلك أحد من ساكنيها سواء من اليهود أو غيرهم رغم كثرتهم، قال ابن إسحاق : "وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم، وقد جاء فيها: "وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وعندما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجلي اليهود من المدينة قال لهم: "اعلموا أن الأرض لله ورسوله" قال النووي رحمه الله: "معناه : مُلْكهَا وَالْحُكْم فِيهَا " ، والأرض لفظ من ألفاظ العموم، فالأرض كلها مشرقها ومغربها ملكها لله وحده والحكم فيها له وحده، وهذا لا يكون إلا بأن يكون الحاكم في أرض الله من المسلمين، ولذلك لم تكن الغاية في الجهاد منتهية بإسلام الكفار إذ لا إكراه في الدين، وإنما الغاية مرتبطة بكون السلطان والطاعة في أرض الله لله العلي القهار تغير الأوضاع:
كما تجد لهم احتجاجا آخر هو أسمج من الاحتجاج السابق فهم لعدم قدرتهم على المنازعة في الأدلة المتقدمة تراهم يحرفون الكلم عن مواضعه فيقولون: إنما كان اشتراط كون ولي الأمر مسلما لأن الدولة في ذلك الزمن كانت ملتزمة بالإسلام ومتمسكة به وكان لولي الأمر اختصاصات دينية، ومن ثم فلا ينبغي أن يكون ولي الأمر فيها إلا مسلما، وأما اليوم فلم يعد لولي الأمر اختصاصات دينية ومن ثم جاز أن يكون غير المسلم وليا للأمر، فيقال لهم: هذه الاختصاصات الدينية من تصرفه الشخصي أم من حكم الشريعة؟، فإذا كان الأمر من حكم الشريعة-وهو الواقع فعلا-فإن التصرف السليم أن يعود الناس إلى التمسك بشريعتهم وليس أن تغير الأحكام الشرعية لتوافق الأوضاع المخالفة للشرع، فبدلا من أن يكون همهم وجهدهم مصروفا لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه في سياقها السليم، تراهم يعملون على تغيير الأحكام الثابتة لتجاري الواقع المنهزم، فأنزلوا الواقع منزلة المحكم الذي يرد إليه كل شيء، وأنزلوا الأحكام الشرعية منزلة المتشابه الذي يفسر في ضوء المحكم الحاكم موظف إداري وليس ذا سلطان:
وهذا القول يذهب إلى أن الحاكم ليس بسلطان في الحقيقة، وأنه مجرد موظف إداري، وأن السلطة في ظل الأنظمة الحديثة مقسمة(سلطة تنفيذية-سلطة تشريعية-سلطة قضائية) حيث لا يستقل بها شخص، وعلى ذلك فلا يلزم في ظل هذه الأنظمة أن يكون الحاكم مسلما، ويقال في الجواب عن ذلك: مهما قيل عن تقسيم السلطة فإنه لا شك أن السلطة التنفيذية (الحاكم) في معظم الأنظمة العصرية هي أقوى السلطات في الحقيقة، ومهما قيل أيضا عن أن سلطان الحاكم ليس كاملا وأن عليه رقابة وأنه ليس مطلق التصرف، فإن هذا لا يناقض بحال وجود سلطان حقيقي له، وأن له في جميع الأنظمة صلاحيات كبيرة حيث يتمتع بإصدار قرارات سيادية لا يملك أحد نقضها أو الاعتراض عليها أو مناقشتها، والواقع المعاصر الذي نشاهده في جميع الأنظمة دليل صدق على ذلك، وهذا بلا شك سلطان حقيقي وسبيل على الرعية، ولا يجوز أن يكون للكافر على المؤمن سبيل

القبول بالتعددية السياسية والاعتراف بالآخر:

يرى القائلون بالتعددية السياسية والاعتراف بالآخر أن ذلك لا يتم في حالة إقصاء فصيل أو فئة من فئات المجتمع عن الوصول إلى أعلى المناصب فيه والتي تتمثل في صورة ولاية الأمر، ومن ثم فلتحقيق هذا الأمر يرى القائلون بذلك أنه لا بد من تمكين الكفار من مواطني دار الإسلام من الوصول إلى ولاية الأمر، وهنا ملحوظة أولية نبادر بذكرها وهو أن هذا القول يرى في ولاية الأمر سلطان حقيقي وليس مجرد وظيفة إدارية، وإلا لما حرصوا على وصول الكافر لهذا المنصب، وذلك أن الكفار في بلاد المسلمين يتولون أعمالا إدارية كثيرة ولا يعترض أحد على ذلك، ومن ناحية أخرى فإن هذه الألفاظ مجملة يدخل تحتها عناصر كثيرة غير متفق عليها، بعضها مما يمكن قبوله وفق المعايير الشرعية وبعضها مما لا يمكن قبوله، فما كان منها غير مقبول شرعا كولاية الكافر على المسلم فليس يستساغ عند أحد ممن يعقل أن يقبل هذا الممنوع لمجرد تسميته أنه تعددية سياسية أو اعتراف بالآخر، إذا الأسماء لا تغير من حقيقة المسميات.

على أن كل ما يذكره المخالفون في كل ما تقدم من أقوال يرونها حجج لتصوراتهم، لا يستندون فيها إلى شيء من مصادر الحجة عند المسلمين، حيث الحجة والصواب عند المسلمين محصور في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الكريم وإجماع الأمة، وما كان غير مستند لذلك فلا تعويل عليه ولا التفات إليه


من شروط ولي أمر المسلمين (2) : الرجولة


 

محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية