اطبع هذه الصفحة


العِزةَ العِزةَ يا أهل غزة

محمد بن شاكر الشريف


العِزُّ: القوة والشدة والغلبة، والعِزُّ والعِزَّة: الرفعة والامتناع، فالعزة تأبى الضيم وتأنف من المذلة والخنوع وإعطاء الدنية وتلك من صفات المؤمنين، فقد وصفهم الله بذلك في كتابه وقرنهم في ذلك بنفسه المقدسة وبرسوله الكريم فقال تعالى: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين" فجعل الله العزة لنفسه، ولرسوله الكريم الذي أرسله رحمة وهداية للعالمين، ولعباده المؤمنين الذين آمنوا به، فصدقوه واتبعوه والتزموا طاعته واجتنبوا معصيته.
والعزة إنما تلتمس من الله العزيز الذي لا يُغالب ولا يُمانع ولا يُدافع، فهو القوي العزيز، وتلتمس بطاعته باتباع أمره ونهيه، ولا تلتمس العزة بمعصيته، أو بموالاة عدوه من المشركين: اليهود والنصارى وأضرابهم، فتلك شيمة المنافقين الذين يقولون آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين، قال الله تعالى عنهم: "بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا"، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "أخبر تعالى بأن العزة كلها لله وحده لا شريك له، ولمن جعلها له...والمقصود من هذا التهييجُ على طلب العزة من جناب الله، والالتجاء إلى عبوديته، والانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في هذه الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد" [1]، وهذا مما يبين مراتب العباد ومنازلهم في الشدائد والملمات، فكل إنسان يلجأ في هذه الأوقات العصيبة إلى من يركن إليه ويتعزز به ويتقوى، فالمؤمن يلجأ إلى العزيز الحميد، والمنافق يلجأ إلى اليهود والنصارى الخاسرين.
ومن الأسباب التي يعز الله بها أهل طاعته ما افترضه عليهم من الجهاد في سبيله، وقد بين الرسول الكريم أن ترك الجهاد في سبيل الله تعالى من أسباب الذل المسلط على هذه الأمة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" [2]،

ولنا في هذه المقالة الموجزة عدة وقفات مع فريضة العزة، التي أحيا الله بها الأمة وأظهر بها الدين على الدين كله، فلله الحمد في الأولى والآخرة.

الوقفة الأولى: الجهاد من التكاليف الشرعية التي أجمعت الأمة على وجوبه إجماعا قطعيا، وتواترت به النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وسيرة المصطفى الأمين وصحابته الشم الميامين، وهو نوعان:
* النوع الأول: جهاد طلب ويراد به غزو الكفار في ديارهم إعلاء لكلمة الله-خالق المخلوقات جميعها ورب العالمين-على ما سواها من الكلام، وهو في أصله فرض كفاية ولا يصير فرض عين إلا في أحوال مخصوصة، وهو من مشهور الأحكام وشهرته تغني عن نقل أقوال أهل العلم.
* النوع الثاني: جهاد دفع ويراد به دفع الصائلين على ديار الإسلام وأهل الإسلام، وهو فرض على من نزل العدو بساحتهم، وعلى كل من يقدر على نجدتهم وغوثهم، وهذا النوع من الجهاد لا يشترط فيه إذن أمير أو زوج أو مولى، وهو مما لم يتنازع في حكمه أهل العلم، ففي الفقه الحنفي: "فإن هجم العدو على بلد وجب على جميع الناس الدفع تخرج المرأة بغير إذن زوجها والعبد بغير إذن المولى ) لأنه صار فرض عين ، وملك اليمين ورق النكاح لا يظهر في حق فروض الأعيان كما في الصلاة والصوم، بخلاف ما قبل النفير؛ لأن بغيرهما مقنعا فلا ضرورة إلى إبطال حق المولى والزوج"[3] وفي الفقه المالكي: "وتعين (جهاد الدفع) بفجئ العدو وإن على امرأة، وعلى من بقربهم إن عجزوا"[4] قال شارحه: "قال أبو عمر: يتعين على كل أحد إن حل العدو بدار الإسلام محاربا لهم، فيخرج إليه أهل تلك الدار خفافا وثقالا شبانا وشيوخا، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مُكْتِرٍ، وإن عجز أهل تلك البلاد عن القيام بعدوهم كان على من جاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، وكذلك من علم أيضا بضعفهم وأمكنه غياثهم لزمه أيضا الخروج، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم"[5]، وقال الخرشي في شرحه عليه: "تقدم أن الجهاد من فروض الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وذكر هنا أنه قد يتعين على كل أحد، وإن لم يكن من أهل الجهاد: كالمرأة والعبد ونحوهما، كما إذا فجأ العدو مدينة قوم، فإن عجزوا عن الدفع عنهم فإنه يتعين على من بقربهم أن يقاتلوا معهم العدو، ما لم يخف من بقربهم معرة العدو، فإن خاف ذلك بإمارة ظاهرة فليلزموا مكانهم"[6]، وفي الفقه الحنبلي قال ابن تيمية: "وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم،... وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم، ونصوص أحمد صريحة بهذا، وهو خير مما في المختصرات ...وقتال الدفع مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به، لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين، فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يَسلَموا، ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتلة أقل من النصف فإن انصرفوا استولوا على الحريم، فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب لا يجوز الانصراف فيه بحال، ووقعة أحد من هذا الباب، والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد رأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون (رأي أهل) الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا، والرباط أفضل من المقام بمكة إجماعا" [7] ، وأكثر ما يقع بأهل الإسلام اليوم من الجهاد هو من هذا النوع، فإذا تبين ذلك ظهر الخطأ الفادح الذي تقع فيه كثير من بلاد المسلمين سواء بتخاذلها عن تقديم النصرة للمسلمين المجاورين لهم الذين يتعرضون لغزو الكفار، أو بمنع القادرين من الأفراد على نصرة إخوانهم من الوصول إليهم ومساندتهم، ويتبين من هذا أن عونَ المسلمين الذين يداهم الكفار ديارهم واجبٌ على بقية إخوانهم بالنفس والمال والسلاح واللسان، وكل أنواع المعونة، كما يتبين أيضا أنه من أكبر الظلم أن يقوم بعض المسلمين بمناصرة أو مؤازرة الكفار المعتدين، ولو بطرق غير مباشرة.
وما تقدم نقله من كلام أهل العلم واضح في الدلالة على عدم اعتبار الحدود الجغرافية المصطنعة التي فتت الأمة الواحدة المجتمعة على الكتاب والسنة إلى كيانات متعددة وفي غالب الأحوال متعارضة، فالنصرة للمسلم واجبة على أخيه المسلم، وهي مستحقة بوصف الأخوة الإسلامية وليس بالحدود الجغرافية، ومن هنا لا يصح لأحد أن يقول إن الجيش في أي بلد هو فقط للدفاع عن ذلك البلد، قال الله تعالى: "وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق"، يقول ابن كثير: "وإن استنصروكم... في قتال ديني، على عدو لهم فانصروهم، فإنه واجب عليكم نصرهم؛ لأنهم إخوانكم في الدين، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار "بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ" أي: مهادنةإلىمدة، فلا تخفروا ذمتكم، ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم" [8]، وبينت الآية أنه ما لم ينصر المسلمون إخوانهم في الدين تكن فتنة في الأرض جراء ذلك وفساد كبير، فقال تعالى عقيب الأمر بالنصرة: "إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير".

* * *


الوقفة الثانية: الإعداد والدعاء صنوان لا يفترقان، فالمسلم في كل خطواته يذكر الله ويدعوه بالتوفيق وتحقيق المراد، إذ أنه لا يحدث شيء في الكون إلا بإرادة الله تعالى، كما أن الأشياء الحادثة قد جعل الله لها أسبابا تتحقق بفعلها، ولا تتحقق بدونها في السُّنة الجارية التي أجراها الله تعالى، لكن الأسباب ليست مستقلة في تحقيق المسبب، من هنا كان الأخذ بالأسباب والدعاء قرينان يعملان معا في تحقيق المطلوب المرغوب فيه، فالمسلم يحصل السبب الذي جعله الله تعالى سببا لتحقيق المراد وهذا من إيمانه بالشريعة، لكنه يعلم ويوقن أن السبب لا يستقل بتحقيق المراد إلا إذا شاء الله ذلك، ومن هنا فإن المسلم يأخذ بالأسباب ويتوجه إلى الله بالدعاء لتحقيق المراد، ليقينه أن الله خالق كل شيء السبب والمُسبب، وعلى هذا فالمجاهد يأخذ للأمر أهبته ويعد العدة المناسبة ويتدرب التدريب المتقن، ويتسلح بالسلاح المكافئ لتحقيق المراد، وهو يوقن أن هذا وحده لا يكفي، فيتوجه إلى الله تعالى بالدعاء لتحقيق المراد، والله من وراء ذلك فعال لما يريد.
وهناك من يُحكم التدبير ويجتهد في تحقيق الأسباب على الوجه الأحسن ثم يكتفي بذلك ويتوكل عليها يظن كفاية هذا في تحقيق المأمول، وهو بذلك خاسر مخذول لعدم استعانته بالله تعالى، وإن تحقق له بعض ما يريد، وهناك من يتوقف عن العمل المقدور له، فلا يعد العدة المناسبة اتكالا على الاكتفاء بالدعاء، وهذا في حقيقته من الإهمال والتقاعس والكسل عن فعل ما ينبغي، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أرشدنا للأمرين فقال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" [9] لذلك فالمجاهد في سبيل الله تعالى مأمور بإعداد ما يستطاع من العدة الممكنة المقدورة له، قال تعالى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل"، وهو مأمور أيضا بدعاء الله والتوكل عليه، قال الله تعالى: "فاعبده وتوكل عليه"، وهذا رسولنا الكريم في غزوة بدر الكبرى بعد أن أعد العدة وأحكم الخطة والتدبير، لجأ إلى الله تعالى يدعوه ويستنصر به، وظل يناجي ربه رافعا يديه متوجها إلى القبلة يستنزل رحمة الله تعالى حتى وقع رداؤه عن منكبيه، فالمجاهد الحق لا يعتمد على أن الله حتما سينصره لأنه يجاهد في سبيل الله ، وإن لم يُحصِّل الأسباب التي جعلها الله أسبابا، بل يجمع بين الأمرين التوكل على الله ودعائه وتحصيل السبب، فالسبب المقدور على الإتيان به يجب على الإنسان المسلم المجاهد في سبيل ربه العمل على إيجاده، قال ابن تيمية: "الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع، فعلى العبد أن يكون قلبه متعمداعلى الله لا على سبب من الأسباب، والله ييسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا و الآخرة، فإن كانت الأسباب مقدورة له وهو مأمور بها، فعلها مع التوكل على الله، كما يؤدى الفرائض، وكما يجاهد العدو ويحمل السلاح ويلبس جُنَّة الحرب، ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ما أمر به من الجهاد، ومن ترك الأسباب المأمور بها فهو عاجز مفرط مذموم"[10]، فلا ينبغي كلما نزلت بالمسلمين نازلة من عدوان الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم، أن يوجه الناس إلى الدعاء فقط، مع ترك التوجيه للقيام بما يمكن القيام به من الأسباب التي جعلها الله أسبابا موصلة لما جعلت له من دفع البلاء أو رد عدوان المعتدين، ويوشك أن يكون من يكتفي بالدعاء مع ترك ما هو مقدور له من العمل المطلوب منه، أن يكون مشابها لقوم موسى عليه السلام عندما امتنعوا عن دخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم وقالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، لكن العبد إذا بذل جهده واستفرغ وسعه في تحصيل السبب ولم يمكنه أكثر من ذلك، فهذا يكفيه الدعاء في تحقيق المطلوب بإذن الله تعالى إذ لا يقدر على غير ذلك،وفي مثل هذه الأحوال تظهر الكرامة التي يكرم الله بها من يجاهد في سبيله، وتاريخ الجهاد قديما وحديثا حافل بالكرامة التي يكرم الله بها المجاهدين عندما يبذلون ما يستطيعون من جهدهم ولا يقصرون، وهذا كما قال الله تعالى: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين"، وكقوله تعالى: "فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"، وكقوله تعالى: "وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ" [الأنفال:44]، وهذا كان قبل التقاء الجمعين ليجرئ كل فريق منهما على الإقدام على ملاقاة الآخر، فلما التقى الجمعان والتحم الصفان أرى الله المشركين رأي العين أن عدد المسلمين (الذين كان عددهم في الحقيقة ثلث عدد المشركين) ضعف عدد المشركين ليوهنهم بذلك ويلقي في قلوبهم الرعب، قال تعالى: "قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ" [آل عمران:13] وأما الهزيمة فلا تكون إلا بسبب من العبد، قال الله تعالى فيما حدث للمسلمين في غزوة أحد من بعد ما أراهم ما يحبون من النصر الذي وعدهم به: "وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ"، وقال تعالى: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، فالنصر من عند الله : "وما النصر إلا من عند الله" وما كان بعكس ذلك فهو من المسلمين.

* * *


الوقفة الثالثة: اقتلوهم حيث ثقفتموهم: المعركة بين الحق والباطل لا تتقيد بحدود الزمان ولا بحدود المكان، فالزمان كله والمكان كله مسرح للمعركة، لا تتقيد في ذلك إلا بالقدرة والاستطاعة، وجلب المصلحة ودفع المفسدة، قال الله تعالى: "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ" قال ابن جرير الطبري: "فمعنى:"واقتلوهم حيث ثقفتموهم"، اقتلوهم في أي مكان تمكنتم من قتلهم، وأبصرتم مقاتلهم"[11].
وفي عدم تقيد قتال المشركين بالمكان وردت عدة آيات تنفي التقيد بالحدود الجغرافية في قتال المشركين، فقال تعالى: "فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا"، قال ابن جرير: "فخذوهم أين أصبتموهم من الأرض ولقيتموهم فيها فاقتلوهم، فإن دماءهم لكم حينئذ حلال"، كما قال تعالى" : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ"، ولا شك أن جرم الكفار المحتلين لبلاد المسلمين أشد وأغلظ من غيرهم، ومن ثم فما كان جائزا في حق غير المحتلين، ففي حق المحتلين أشد جوازا، وكما أن أعداءنا من اليهود يقومون بقتل من قدروا عليه منا في أي بقعة من الأرض، فإن معاملتهم بالمثل أمرر مقرر في الشريعة، لقول الله تعالى: "َفمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ"، ومن هنا فإن للمسلمين الذين احتلت بلادهم من قبل الكفار مقاتلتهم في بلادهم وفي أي مكان من الأرض، حيث لا ينبغي أن يشعر المحتل بالأمان في بقعة من الأرض، ما دام محتلا لبلد من بلدان المسلمين.
ورغم أن أسر الكفار من غير قتل لهم أمر مشروع، فلعله من المناسب في بدايات القتال، وفي الحالات التي يقاتل فيها المجاهدون لطرد الكفار الغزاة الذين يحتلون بلاد المسلمين، أن يؤخر خيار الأسر إلى أقصى مدى ممكن، ويقدم عليه خيار القتل لما فيه من فوائد كثيرة، يبين ذلك ويوضحه قوله تعالى: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:67]، قال ابن جرير رحمه الله تعالى: " يقول تعالى ذكره: ما كان لنبي أن يحتبس كافرًا قدر عليه وصار في يده من عبدة الأوثان للفداء أو للمنّ... وقوله:(حتى يثخن في الأرض)، يقول: حتى يبالغ في قتل المشركين فيها، ويقهرهم غلبة وقسرًا"، فدلت الآية على أنه لا يكون هناك أسر إلا بعد الإثخان وهو الإكثار في قتل الكافرين، وهو موافق لقوله تعالى: "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق"، فلا أسر- وهو الذي عبر عنه بشد الوثاق-إلا بعد ضرب الرقاب والإثخان فيهم.

* * *


الوقفة الرابعة:
معاونة المجاهدين: يحتاج المجاهدون الذين يقاتلون من أجل الحفاظ على الحقوق واستردادها ممن اغتصبها، إلى كثير من الإعانات، فهم بحاجة إلى الرجال الذين يشاركون في القتال وبحاجة إلى السلاح والذخيرة والمركبات التي ينقلون بها الأسلحة أو الجنود، كما أنهم بحاجة إلى الطعام والشراب والكساء والدواء والعلاج، والمجالات في ذلك كثيرة ومتعددة، ولا يمكن حصر معاونة المجاهدين في جانب واحد من تلك الجوانب، فالمسألة لا تُحَلُّ بمجرد تقديم بعض الإعانات أو المساعدات، فالواجب مساندة المجاهدين وتقديم الدعم الكافي في المجالات جميعها، حتى يتمكنوا من الثبات على الأرض وعدم التقهقر أمام العدو، وكل من يقوم بجهد في جانب من الجوانب التي يقدر عليها فهو من المجاهدين فيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا »[12]، وإذا قام كل واحد بما يمكنه القيام به أوشك أن تتكامل الجهود ويتحقق المقصود، ودرجات الوجوب تختلف من شخص لآخر بحسب موقعه وإمكاناته وقدراته، وواجب الدول بلا شك في ذلك أعظم من واجب الأفراد أضعافا مضاعفة، فمن كان عنده الجيوش المجيشة، وتحت يده أنواع منوعة من الأسلحة ما بين برية وبحرية وجوية غير الفرد العادي الذي لا حول له ولا طول إلا في حدود نفسه.
إنه ليس من المعقول ولا من المقبول أن تنفق الدول الملايين والمليارات من أموال الشعوب المسلمة في شراء أسلحة لا مكان لها في الواقع إلا المخازن، فلا تستخدم إلا في الاستعراضات، أو قمع الشعوب، أو مساعدة خزائن دول الكفار وتشغيل الأيدي العاطلة عندهم، في شراء أسلحة لا تملك تلك الدول استخدامها إلا حسب شروط الدول البائعة، تلك الشروط التي تغل أيدي الجند والقادة حتى يصير السلاح في أيديهم كالعصا المجردة التي لا نفع فيها ولا غناء، إن الله تعالى عندما أمرنا بالإعداد قال: "وأعدوا لهم...الآية فالإعداد إنما يكون لهم أي لمواجهتهم، فلا بد أن يكون الإعداد لمواجهة الكفار والظالمين، لا للزينة ومواجهة المسلمين، وما دام الأمر كذلك فإن الجيوش المسلمة لا بد أن تتحرك لنصرة المستضعفين من المؤمنين، الذين يسومهم عدوهم سوء العذاب، قال الله تعالى: "وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ"، يحرض الله تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله، وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والصبيان، فالقتال من أجل نصرة المستضعفين من المؤمنين غرض أصيل من أغراض الجهاد في سبيل الله تعالى، وهذه أمانة في رقبة كل من تولى أمر المسلمين-سواء تولى أمرهم بإرادتهم أو أخذها غصبا عنهم-وإن الله تعالى سائلهم عن تلك الأمانة ومحاسبهم عليها ولا يظلم ربك أحدا.

* * *


الوقفة الخامسة:
الاستعانة بالكفار في القتال، القتال والجهاد في سبيل الله تعالى عبادة وفريضة فرضها الله تعالى على عباده، لذلك ينبغي أن لا يقوم بها عند الاختيار غير المسلمين، وقد بين ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر حيث قال له رجل: "جئت لأتبعك وأصيب معك، قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « تؤمن بالله ورسوله »، قال: لا، قال: « فارجع فلن أستعين بمشرك"[13]، وهناك فرق بين الاستعانة بالمشرك نفسه وبين الاستعانة بآلة المشرك وعدته، فبينما الأصل أنه لا يستعان بالمشرك نفسه، فإنه لا مانع من الاستعانة بآلته وسلاحه، فقد استعار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين من صفوان بن أمية وكان يومئذ مشركا أدراعا، فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: « بل عارية مضمونة ». قال فضاع بعضها، فعرض عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يضمنها له، قال: أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام أرغب"[14]، كما أنه ليس هناك ما يمنع من قبول الإعانات التي يمكن أن يتقدم بها بعض الكفار ما دامت تلك الإعانات لا تؤثر على إرادة المجاهدين أو تتدخل في خياراتهم، وكذلك الاستفادة من مواقف بعضهم المؤيدة لحقوق المسلمين، وأما الاستعانة بالكافر نفسه قي قتال كفار آخرين عند الحاجة لذلك، فقد أجازها بعض العلماء، وفق شروط محددة كلها تدور حول كيفية الاستفادة منها مع محاولة تلاشي أو تقليل الآثار السلبية المترتبة على ذلك، فعلى المجاهدين في سبيل الله ألا يعولوا على الاستعانة بالمشركين أعداء الدين لأن جانبهم في غالب الأمر غير مأمون، ومن باب أولى المرتدين والمنافقين فإنهم أشد ضررا من الكفار الأصليين، وخاصة إذا كانوا أولياء للكفار الذين يغزون بلاد المسلمين ويحتلونها.

* * *


الوقفة السادسة:
الحرب والسلام، الحرب والسلام في الظاهر أمران متعارضان، فكلمة الحرب تعني القتل وهو أمر بغيض إلى النفس لما في ذلك من المشقة، بعكس كلمة السلام فهي محببة إلى النفس لما تحمله من معنى العافية والسلامة من جميع الآفات، لذلك نجد الكثير من الناس يركز على الدعوة إلى السلام ونبذ الحرب، ويبالغ في بيان فضائل ومنافع السلام، كما يبالغ في بيان مفاسد الحرب ومآسيها، وحقيقة الأمر أن الحرب والسلام أمران مطلوبان لا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر، إن الحديث عن السلام فقط على أنه خيار استراتيجي في تعامل المسلمين مع المعتدين الصائلين على الحرمات والديار من اليهود والنصارى وغيرهم، هو استسلام مقنع، والإنسان ظلوم جهول، لا تكفيه الكلمات الجميلة لكي تحمله على سلوك الجادة ما لم يستقين أن هناك عقابا رادعا على مخالفة الحق وظلم الآخرين، فالسلام الذي لا تحميه القوة هو سلام منقوص، أقرب إلى الاستسلام منه إلى السلام حقيقة، والسلام لا يصلح استجداؤه وإنما تفرضه القوة التي تلزم به وتحميه، ومن ثَمَّ شرع الله القتال ورد عدوان المعتدين ومعاقبة الظالمين المجرمين، ونهى عن الهوان والخضوع والخنوع لما في ذلك من إعلاء الباطل وطمس الحقائق وإضاعة الحقوق، قال الله تعالى: "فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم" ينهى الله عباده المؤمنين عن الضعف في ملاقاة عدوهم، ودعوتهم إلى المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينهم وبين الكفار، ما دام بالمسلمين قوة من عدد أو عدة يعلون بها الكافرين، ولا تقبل هذه المصالحة والمهادنة إلا في حالة كثرة العدو وقوتهم بالنسبة للمسلمين، وكان في المهادنة والمصالحة مصلحة راجحة، كنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم إلى ذلك.

* * *


الوقفة السابعة:
من ضوابط المصالحة أو المهادنة: قد تدعو أحوال المجاهدين إلى قبول الصلح أو المهادنة أو الدعوة إليها، لكن هذا لا يتم إلا وفق ضوابط شرعية حتى لا تكون المصالحة مجرد ألفاظ جوفاء تغطية للخور والفشل، أو تفريطا في الحقوق وإضاعة لها، وذلك أن الوفاء بالعهود والمواثيق من شيم المسلمين، فلو تم عقدها بدون ضوابطها الشرعية لأمكن ذلك أن يؤدي إلى الإلزام بالوفاء بما لا يجوز التزامه شرعا، ويظهر من ذلك أن من أهم الضوابط التي تعلو على غيرها من الضوابط أن المعاهدات لا يجوز أن تتم بعيدا أو بمعزل عن العلماء الثقات، ولا يجوز أن يكون دورهم فيها مجرد الإقرار بما اتفق عليه السياسيون، فالشريعة حاكمة على تصرفات كل أحد أيا كان موقعه ومكانته، والعلماء هم الذين يعلمون أحكام المعاهدات على وجهها الصحيح، ويوشك أن يكون إقصاؤهم عنها سبيلا لتجاوز الحدود المشروعة في العقود والعهود، ومن الضوابط التي تحكم المصالحة أو المهادنة بالنسبة للمسلمين أن يكون بالمسلمين ضعف لا يقدرون معه على مصاولة الكفار، ويخشون من ضرر يلحق بهم نتيجة اختلال ميزان القوى وميله لصالح الأعداء، فيعقد المسلمون المعاهدة أو المهادنة لسنوات معلومة ريثما يتقوون ويمكنهم منازلة عدوهم، ومن ذلك أنهم يسعون خلال فترة ضعفهم وعجزهم لاستكمال ما ينقصهم ولا يركنون إلى ما هم عليه من الضعف، فإن الاستعداد للجهاد لا يسقط حتى مع سقوط الجهاد نفسه بسبب العجز، قال ابن تيمية: "يجب الاستعداد للجهاد ، بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز ، فإن ما لا يتم الواجب إِلا به فهو واجب"[15]، ومن ذلك أن تكون في الهدنة مصلحة راجحة تعود للمسلمين، ومن ذلك تعظيم حرمات الله تعالى، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها"[16]، فلا يجوز الهدنة على معصية الله كالتعاقد على عدم نصرة المسلمين ونجدتهم عند احتياجهم لذللك، أو أن العقد يكون مؤبدا دائما؛ لأن ذلك يعني إلغاء فريضة الجهاد، فالعقد إما أن يتم توقيته بزمن محدد، أو يكون مطلقا عن التحديد بحيث يجوز لطرف من الأطراف نقضه في أي وقت شاء بعد إعلام الطرف الثاني بذلك، حتى يكونوا في العلم بذلك سواء.
وعلى ذلك فإنه يجوز للمجاهدين الذين يقاتلون المحتلين لديارهم أن يعقدوا معهم هدنة لمدة زمنية معلومة، لا إقرار فيها بحق الكافر في تملك بلاد المسلمين أو التنازل عن بعضها، ولا موافقة فيها على نبذ الجهاد وإلقاء السلاح بصفة دائمة، وعليهم في الوقت نفسه أن يستفيدوا من هذه الهدنة في إعداد العدة وتقوية الصفوف وجمع الكلمة على الحق والهدى.

* * *


الوقفة الثامنة: من آداب القتال: مما يتعلق بالآداب التي تحكم عمليات القتال في الشريعة الإسلامية، نجد هناك أمورا تتعلق بالأحياء وبالممتلكات، فمن ذلك منع قتال من ليس من أهل القتال كالنساء والأطفال، والزمنى والشيوخ ممن لا يطيق حمل السلاح، والرهبان الذين فرغوا أنفسهم وانقطعوا للعبادة في الأديرة والكنائس والبيع، ومن ذلك ترك إتلاف الممتلكات الخاصة كالقضاء على الثروة الحيوانية وإفسادها، وكقطع الأشجار أو حرقها، أو هدم البيوت والمساكن، ونحو ذلك مما يدخل في الإفساد والإتلاف، هذا من حيث الأصل ولحكم العام، والجهاد في سبيل الله لا يسوغ شيئا من ذلك إذا لم تكن هناك حاجة عسكرية حقيقية تدعو إلى ذلك، لكن إذا شارك في القتال الشيوخ أو النساء أو الصبيان وغيرهم ممن لا يشرع قصدهم سواء شاركوا بأجسامهم أو بآرائهم، فإنهم يقتلون، قال ابن بطال: "واتفق الجمهور على أن النساء والصبيان إذا قاتلوا قتلوا، وهو قول مالك والليث وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور"[17] وكذلك قد تقتضى الحاجة العسكرية لمقاتلة جموع المشركين الذين لا يمكن تمييز مقاتلتهم عن نسائهم وأطفالهم ومن لا يجوز قصده، فلا بأس من رمي الجميع إذا احتيج إلى ذلك عسكريا، ويكون المقصود بالرمي المقاتلة دون غيرهم، فعن الصعب بن جثامة - رضي الله عنه - قال مر بي النبي- صلى الله عليه وسلم - بِالأَبْوَاءِ - أَوْ بِوَدَّانَ وسئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين، فيصاب من نسائهم وذراريهم قال: "هم منهم"[18]، وقد رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف بالمنجنيق، وهو مما لا يمكن الاحتراز فيه بحيث لا يقتل إلا المقاتلة، وأما إتلاف الممتلكات فهو مرتبط بالحاجة إلى ذلك، فإن كانت هناك حاجة إلى إتلاف الممتلكات كتخريب بناء وقطع شجر، ليكفوا عن القتال أو ليظفر بهم المجاهدون فلهم ذلك، والمحتلون لبلاد المسلمين لا شك أنهم أشد جرما من بقية الكفار، فيجب قتلهم وقتالهم، وإخراجهم من بلاد المسلمين، ويجوز تحريقهم بإضرام النار ورمي النفط إليهم، والتغريق بإرسال الماء عليهم، وهدم حصونهم وتحصيناتهم وإتلاف ممتلكاتهم ونحو ذلك، وكل ما يفت في عضدهم ويكون عونا على هزيمتهم وخروجهم من ديار الإسلام والمسلمين.
 

* * *


الوقفة التاسعة:
الشكوى إلى من؟ منذ عقود كثيرة يرزح المسلمون تحت سلطة الظالمين والطغاة سواء كانوا من الأعداء الظاهرين المحتلين لبلاد المسلمين أو من الأعداء المختفين من أهل البلاد الذين يتوكلون لدول الظلم والشرك وينوبون عنهم في تنفيذ خططهم، ومنذ زمن يتجه كثير من المسلمين وخاصة الأنظمة الرسمية بالشكوى إلى ما يسمى المؤسسات أو الهيئات الدولية، حتى ينصفونهم ممن ظلم، ومن أكثر القضايا التي حظيت باللجوء إلى تلك الهيئات قضية فلسطين التي احتلها اليهود وساموا أهلها سوء العذاب، وهذه الهيئات المتنفذة في العالم وعلى رأسها ما يسمى مجلس الأمن الدولي، والذي يتمتع فيه عدد محدود من الدول بحق الاعتراض على أي قرار، حتى لو وافقت عليه الدول أجمع، إن هذه الدول المعنية هي من ساعد وأعان على قيام هذه الدولة اليهودية، وأقر اغتصابها لدولة فلسطين وتعهدت بدعمها وإعانتها في كل مجال، فكيف يكون من العقل أن يتوجه الناس بالشكوى إلى هؤلاء الذين جعلوا الظلم قانونا وألزموا الناس به، إن من أكبر الخسائر التي جرتها كثير من الأنظمة على قضية فلسطين ربطها بما يسمونه القرارات الدولية والشرعية الدولية-شرعية الظلم والطغيان والكيل بمكاييل متعددة وليس بمكيالين فقط-إن أقصى ما يمكن أن تحققه هذه المنظمات والهيئات هو إعطاء أصحاب الحق بعض الحق الذي لا يكاد يبلغ الفتات، في حين يمكنون الظالم الطاغي من الاستئثار بالنصيب الأوفى، ويصير اللجوء إليهم في هذه الحالة من قبيل تضييع الحقوق والتفريط في الثوابت، وهو أيضا من الركون إلى الظالمين، وهم ممن يصلح أن يقال في حقهم: إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم، فلا ينصرون مظلوما ولا يعيدون حقا، والمتابع لهذه القضية التي أربت على ستة عقود يجدها تنتقل من وضع سيء إلى وضع أسوأ منه، ولا يمكن لهذه القضية أن تحقق ما يُرجى لها، إلا أن تعود إلى محضنها الأصيل فتأخذ مكانها الإسلامي الذي يعيدها إلى المسار الصحيح بعد طول اغتراب، إن هذه العودة لا يصلح أن تكون مجرد خيار فئة أو طائفة، ولكن ينبغي أن تكون عودة جامعة وخيارا استراتيجيا لا يمكن التفريط فيه أو المساومة عليه.

* * *
 

الوقفة العاشرة: مبشرات النصر، نصر الله قادم وإن طال الليل، والوعد بذلك من الله العزيز الحكيم، والله تعالى لا يخلف الميعاد، والمجاهد في سبيل الله القاصد بذلك وجه الله لا يهمه أوقع على الموت أم وقع الموت عليه، أجاءته الشهادة أم أتاه النصر، فكلاهما الحسنى ولسان قولهم لمن يقاتلونهم : "هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين" والحسنيان: النصر والشهادة، من أجل ذلك فإن المجاهدين لديهم شجاعة وإقدام لا نظير له عند أحد آخر، وقد كتب الله أن تكون له الغلبة ولرسله ومن يؤمن بهم من الناس، قال الله تعالى: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي" وقال تعالى: "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد"، وهناك البشرى العظيمة من رسولنا الكريم فقد بشرنا أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة منصورة ظاهرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" [19]، وقال: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة" [20] وهذه الطائفة المنصورة الظاهرة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، فمهما خالفهم بعض الناس وخذلهم البعض الآخر، فإن ذلك لا يضرهم ضررا يمنعهم من التمسك بالحق والجهاد في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس" [21] ، ولا يكون ضررهم في هذا المجال إلا بمثابة الأذى الذي يمكن أن يصيب الإنسان كما قال تعالى: "لن يضروكم إلا أذي"، وكما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين ، لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله و هم كذلك ، قالوا : و أين هم ؟ قال : ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس" [22] ، وقد قسم الحديث الناس إلى ثلاث طوائف-كما قال ابن تيمية-"الطائفة المنصورة وهم المجاهدون لهؤلاء القوم المفسدين، والطائفة المخالفة وهم هؤلاء القوم ومن تحيز إليهم من خبالة المنتسبين إلى الإسلام، والطائفة المخذلة وهم القاعدون عن جهادهم وان كانوا صحيحي الإسلام، فلينظر الرجل أيكون من الطائفة المنصورة أم من الخاذلة أم من المخالفة فما بقى قسم رابع" [23] ، فالطائفة المنصورة هي الطائفة المتمسكة بالحق الداعية إليه المجاهدة في سبيل الله، والطائفة المخالفة هي الطائفة الكافرة المناوئة للإسلام وأهله، والطائفة المخذلة هي الطائفة الجبانة التاركة للجهاد.

والبشرى لأهل الشام وأهل بيت المقدس أخص من غيرهم فقد ورد في عدة روايات أن هذه الطائفة المنصورة بالشام وأكناف بيت المقدس، من ذلك ما رواه الطبراني في المعجم الكبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من ناوأهم، وهم كالإناء بين الأكلة حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، قلنا: يا رسول الله وأين هم؟ قال:بأكناف بيت المقدس" [24] وقال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من يغزوهم قاهرين لا يضرهم من ناوأهم حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك قيل يا رسول الله وأين هم قال ببيت المقدس" [25] .

والمعارك لا تنتهي من جولة واحدة، والصراع بين الحق والباطل مستمر لا ينتهي، ولئن تمكن المشركون من المسلمين اليوم، فالغد المقبل للمسلمين، وتاريخ أمتنا يبين أنه ما من كبوة يكبوها المسلمون إلا وتعقبها إفاقة قوية وعظيمة تنسي عظمتها تأثيرات الكبوة حتى تحيلها أثرا بعد عين، والإنسان الناظر إلى ما حاق بأهلنا في ارض غزة يدرك أن هذا بداية مخاض حقيقي لهذه الأمة العظيمة، ويتصور حدوث تغيير عظيم، بل زلزال شديد يغير كثيرا من الأوضاع الزائفة وإن غدا لناظره قريب..

إن زمن تطاول الكفار وتفردهم بالقدرة الفائقة والسيطرة على دول العالم يوشك أن يولي، ودلائل ذلك لائحة، فقد بلغ الطغاة الظالمون غاية ما يمكنهم بلوغه من العلو والفساد في الأرض، وأن منحنى صعودهم آخذ في النزول، والعالم كله اليوم في حاجة إلى عودة المسلمين لقيادته ليخرجه من ظلمات العقائد والمذاهب الفاسدة إلى عدل الإسلام ورحمته، ومن تيه الأفكار والطرائق إلى صراط الله المستقيم.

فاقبلوا البشرى يا أهل غزة فأنتم في رباط، وكونوا طلائع الأمة الظافرة، واليوم الذي يندم فيه البعض حتى يقول: "يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما" ليس بالبعيد، فنصر الله قريب آت لا ريب فيه، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.


----------------------------------------
[1] تفسير ابن كثير3/3 طبعة دار طيبة بالرياض
[2] أخرجه أبو داود وصححه الألباني
[3] فتح القدير
[4] مختصر خليل
[5] التاج والإكليل شرح مختصر خليل
[6] شرح الخرشي على مختصر خليل
[7] الفتاوى الكبرى5/537
[8] تفسير ابن كثير 4/95 طبعة دار طيبة الرياض
[9] أخرجه مسلم في صحيحه
[10] فتاوى ابن تيمية8/529
[11] تفسير ابن جرير الطبري
[12] أخرجه البخاري ومسلم
[13] صحيح مسلم
[14] أخرجه أحمد في المسند وأبو داود
[15] السياسة الشرعية
[16] صحيح البخاري
[17] شرح ابن بطال على صحيح البخاري
[18] أخرجه البخاري ومسلم، ويبيتون يعني يقاتلون ليلا
[19] أخرجه البخاري
[20] أخرجه مسلم
[21] أخرجه مسلم
[22] مسند أحمد من رواية ابنه عبد الله، وأحد رواته لين الحديث وبقيتهم ثقات
[23] مجموع الفتاوى 28/416-417
[24] الطبراني في المعجم الكبير وصحيح ابن خزيمة
[25] أحمد ، والطبرانى ، والضياء عن أبى أمامة
 

محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية