اطبع هذه الصفحة


لا تمنعوها أو تُضيِّقوا مسالكها إنها سبيل النجاة

محمد بن شاكر الشريف


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على البشير النذير الداعي إلى كل خلق حميد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد فإن من الأمور التي فضل الله بها الإنسان على غيره ممن خلق، القدرة على التمييز بين الخير والشر، وقدرته على الاهتداء للحق والعمل به والدعوة إليه، فامتاز بذلك عما سواه من المخلوقات الأخرى كالجمادات والحيوانات، من أجل ذلك أمر الله تعالى الإنسان بالخير ونهاه عن الشر وأعطاه من الأدوات ما يتمكن به من إدراك ذلك على الوجه الصحيح، فأرسل لهم الرسل وأنزل عليهم الكتب لإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
وإلى جانب اهتداء الإنسان بما أنزل الله إليه، فقد كُلِّف بأن يقوم بما تقوم به الأنبياء والمرسلون من الدعوة إلى الله تعالى وإلى دينه القويم، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والمعروف كل أمر أقرته الشريعة أو قبلته وحضت على الإتيان به، والمنكر كل أمر أبته الشريعة ورفضته ودعت إلى الابتعاد عنه وعدم قربانه، وقد علم الله تعالى أن القيام بهذه الفريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ليس بالأمر الهين أو اليسير بل تعترضه عقبات وصعوبات من نواح متعددة، ونظرا لما يترتب على القيام بها من منافع وخيرات تعود على الفرد والجماعة في دروب الحياة جميعها، فقد بينت النصوص فضل هذه الفريضة وفضل القائمين بها، وحرضت على القيام بها أيما تحريض، كما حذرت من التقاعس عن القيام بأدائها، أو معاندتها، أو محاولة القيام بأي شيء يساعد في تعطيلها أو التضييق عليها، أو على القائمين بها، حتى قرنت عقاب المانعين لها بعقاب الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء فقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" [آل عمران:21].

فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

وقد تعددت النصوص في بيان فضل القيام بهذه الفريضة وفضل القائمين بها، وهي كثيرة وليس المقام مقام تعدادها، ويكفي هذه الفريضة شرفا وفضلا أن جعلها الله تعالى من الصفات اللصيقة التي مدح بها رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر"، كما وصف بها أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين فقال: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"، ثم جاءت الآية الجامعة التي جعلت هذه الشعيرة عنوانا لخيرية هذه الأمة فقال تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر".
كما بينت النصوص أن القيام بها دليل فلاح القائمين بها فقال تعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [آل عمران104]، والأحاديث في ذلك كثيرة أيضا.

صفات من يعاندون أو يعارضون هذه الفريضة:

وهذه الفريضة على ما فيها من شرف وفضل وعلو منزلة، فهناك من يبغضها ويعاندها ويسعى في إبطالها ويعمل بعكسها، فيكون من الآمرين بالمنكر بدلا من الآمرين بالمعروف، ومن الناهين عن المعروف بدلا من الناهين عن المنكر، وهذه حالة معكوسة وقلوب أصحابها منكوسة، لا تحب الخير أو تلتذ به بل تزدريه، وتستعذب الشرور وترتاح لها، فهو كمن يستعذب مياه المجاري وتأبي نفسه الارتواء بماء زمزم، لذا لا يقع فيها من خالط الإيمان قلبه وسرت فيه حلاوته، وقد قال الله تعالى في أشباههم: "وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً"، وقد بينت النصوص صفة الذين يعارضون هذه الفريضة ويعاندونها فيأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ونعتتهم بالوصف الكاشف لهم المجلي لحقيقة إيمانهم، فقال تعالى: "الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [التوبة:67]، وهم في أمرهم بالمنكر متابعون للشيطان عدو بني آدم قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ" [النور:21]، فكان الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، سمة بارزة وعلامة فارقة مميزة تدل على نفاق من اتصف بذلك رجلا كان أو امرأة، وهو في ذلك من اتباع الشيطان وحزبه :"أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ" وسالك طريق بني إسرائيل المغضوب عليهم والضالين، قال الله تعالى :"لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ" [المائدة 78-79]، فكان العصيان والعدوان وترك النصيحة والنهي عن المنكرات من أوصاف بني إسرائيل الذين لعنوا بسببها على السنة أنبيائهم.

تعدد صور مخالفة هذه الشعيرة ومعاندتها:
والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف لا تتحدد له صورة نمطية واحدة، بل يأخذ صورا متعددة بتعدد مسالك أهل الضلال والفساد، وتعدد إمكاناتهم وسلطاتهم: فقد تكون الصورة مباشرة من حيث الدعوة إلى ذلك صراحة بغير مواربة وذلك عندما يأمنون العقوبة في ظل غفلة أهل الخير أو ضعفهم، أو بصورة غير مباشرة من حيث تزيين الباطل وتحسينه بأنواع من الدعاية الكاذبة والكلام الذي ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، والإشادة بكل قول أو عمل يخالف الخير والفضيلة، أو بوضع القوانين والأنظمة التي تضيق العمل بهذه الفريضة وتُوقِع من يحاول القيام بها في الحرج الشديد حتى يصرفه عن القيام بها، أو إدخال هذه الشعيرة في حزمة من التنظيمات الأخرى بحيث تفقد هويتها وتميزها، فتنماع فيها كما ينماع الملح في الماء، أو إسناد القيام بها إلى أناس لا تتوفر فيهم الشروط المناسبة لهذه الشعيرة، أو التضييق في الأنفاق عليها حتى تتقلص عملياتها ونشاطاتها والحد من تزويدها بالأجهزة الحديثة المتوافقة مع التقنية المعاصرة والتي تمكنها من القدرة على تحقيق أهدافها، ومن ذلك أيضا إزالة الحواجز والعوائق أمام الانفلات والتفلت العقدي والفكري والخلقي، والإشادة بأولئك المتفلتين وتقديمهم لشباب الأمة على أنهم نموذج ينبغي أن يحتذي، والوقوع في أهل الخير من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في محاولة لتشويههم، وتهييج العامة ومن له سلطان عليهم والإغراء بهم.
لقد أدرك أعداء الأمة من خلال متابعة تاريخها وسيرتها على مر الأزمان وكر الدهور أن مجتمع المسلمين يكون في أمن وأمان وعفو وعافية متى ما كان عَلَم هذه الشعيرة مرفوعا، وكذلك تكون دولتهم قوية منصورة فهم ظاهرون على عدوهم مدة استمساكهم بها، لذلك عمل أعداء الأمة على توهين هذه الشعيرة في قلوب المسلمين عن طريق وسائل الإعلام المتعددة من مقروء ومسموع ومنظور، والتي بلغ تأثيرها بفعل التقدم التقني شأوا بعيدا، وراموا من خلال هذه الوسيلة إحداث تغيير جذري في العقائد والأفكار، وعاونهم في ذلك أتباع لهم وأشياع ممن رضوا بالدنية في دينهم مقابل عرض زائل حقير، وكان للتدخل في المناهج الدراسية وتغييرها وشحنها بمادة علمية مغلوطة أثر كبير في تغييب هذه الشعيرة عند بعض المسلمين وإضعافها عند البعض الآخر.

لقد لقيت هذه الشعيرة معارضة كبيرة على مدى التاريخ، فمنذ بدأ الله الخلق وكفر إبليس بربه وهو يقود اتباعه ويؤزهم أزا للوقوف في وجه كل خير والدعوة لكل شر، وذلك أن القيام بهذه الفريضة بالنسبة لهم يؤدي إلى أمرين:
الأول: منع أهل الفساد والضلال من شهواتهم الباطلة ومنع وصول إفسادهم إلى عباد الله تعالى.
الثاني:
الشهادة على أهل الفساد والضلال بفسادهم وضلالهم.
وهم لا يريدون أيا من الأمرين، فهم يأبون أن تكون لتصرفاتهم ضوابط أو قيود، ويرون-بزعمهم-في ذلك حجرا على تصرفاتهم وغمطا لأقدارهم، بل يريدونها إباحة متفلتة غير منضبطة، أو مقيدة بأية قيود، ويرون أن في ذلك الحرية الحقة التي تعطي للشخص تميزه وإحساسه بذاته، وقديما قال قائل بلسانهم: "يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء"، ولا زال إخوانهم وأحفادهم يستمسكون بالفكرة نفسها ويدورون حولها بأساليب مختلفة ويريدون ألا يكون لتصرفاتهم قيود أو ضوابط إلا ما وافق أهواءهم ورغباتهم، وينعتون من يدعونهم إلى التمسك بالخير والبعد عن السوء بالتحجر وإقصاء الآخر، والنظرة الأحادية التي تأبى التعددية، وتمنع حق الاختلاف في الأمور الاجتهادية، ويقرنون بين الهيئات التي تقوم بهذه الشعيرة وبين محاكم التفتيش التي ابتدعها النصارى والتي كانت تنقب عما استتر في قلوب الناس، وليس في أعمالهم وتصرفاتهم الظاهرة.
كما أنهم لا يقبلون أن يُقَوِّم تصرفاتهم أحد أو أن يشهد على مسلكهم أحد ويجعلون ذلك سببا لنقمتهم على القائمين بتلك الشعيرة كما قال تعالى في حق أشباههم: "قل يا أهل الكتاب هل تنقمون من إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون"، فلم تكن نقمتهم على أهل الخير والدعاة إليه لشيء يعيبونهم به، وإنما كان السبب في ذلك إيمانهم بالله وبما أنزل على رسله، وشهادة المؤمنين على أهل الكتاب أن أكثرهم فاسقون قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقوله: "وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ" معطوف على "أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ" أي: وآمنا بأن أكثركم فاسقون، أي: خارجون عن الطريق المستقيم"

التجارب الراسخة والتجارب الرائدة:

ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الولايات الشرعية التي كان لها وجود حقيقي في النظام السياسي الإسلامي، لكن بمرور الأيام بدأ يضعف هذا الأمر وزاد كثيرا بعد وقوع دول المسلمين في قبضة الدول الكافرة زمن الاستعمار، وقد ألغيت هذه الولاية في أكثر البلاد الإسلامية، وهناك تجارب راسخة ما زالت قائمة تؤدي عملها، تكف عن الأمة طوفان الفتنة والضلال، فمن ذلك هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلاد الحرمين، فقد"أكدت الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنها ضبطت نحو 434 ألف شخص في قضايا تتعلق بالعقيدة والأخلاق والمخدرات والآداب العامة والصور والأفلام الخليعة والابتزاز وغيرها خلال عام واحد" ، وهناك تجارب رائدة تحاول أن تعود بالأمة في مجال الخير والفضيلة إلى سابق عهدها وعزها، فقد أعلن منذ ستة عشر شهرا عن تأسيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في اليمن، تحت اسم "هيئة الفضيلة" وقد اتخذت لها شعار "حتى لا تغرق السفينة"، والغريب أن هناك ثماني منظمات حقوقية وصحفية وثقافية أصدرت بيانًا منددًا بالهيئة، وهناك مطالبات جادة في أكثر من بلد بإنشاء مثل هذه الهيئة كالكويت وغيرها من البلاد، لما في ذلك من الخير ودفع الشرور.

نداء إلى الذين يعقلون:

إن المحافظة على هذه الفريضة إنما هو لخيري الدنيا والآخرة، ونظرة واحدة يلقيها المرء إلى المجتمعات والدول التي أهملت أمر هذه الشعيرة كفيلة ببيان الدمار والدركات التي انحطت إليها تلك البقاع، وإذا كان هناك من تغلبه شهواته وشبهاته في أمر هذه الشعيرة، ويعاند في التمسك بها، إما لشهوة في نفسه، أو لخوف من عدوه فيحاول أن يستميله إليه بذلك، فيقال له:
من يعاند الله رب العالمين فهو مغلوب ومقهور وإن مد له في الأمر، قال الله تعالى: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي" وقال: "والله غالب على أمره" ولكن "قد جعل الله لكل شيء قدرا" وقد أهلك الله من قبل كثيرا من الطواغيت الجبارين، وسنة الله ماضية جارية على المتقدمين والمتأخرين، وليس جبارو اليوم وطواغيتهم أكرم على الله تعالى ممن سبقهم من الذين ساروا على الدرب نفسه، قال تعالى: "أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر"
فيا أيها المعاندون اتعظوا واعتبروا بمن سبقكم من الظلمة والطواغيت الذين آتاهم الله من أسباب الملك والقوة حتى ظنوا أنه لا غالب لهم، فطغوا وبغوا وأفسدوا، ثم أتاهم من حيث لم يحتسبوا فأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما قال تعالى: "فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" [العنكبوت:40] واستدركوا أمركم قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، وحينئذ لا يلومن امرؤ إلا نفسه، وكل ما هو آت قريب، وانتظروا إنا معكم منتظرون.


 

محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية