اطبع هذه الصفحة


عزل الرئيس

محمد بن شاكر الشريف


بسم الله الرحمن الرحيم


رأس السلطة التنفيذية (الرئيس أو الخليفة أو الملك أو الأمير أو السلطان) في الدولة إنما ينُصب ويؤمر المسلمون بطاعته لتحقيق أحكام الشرع في الواقع، ومراعاة مصالح المسلمين بجلب المصالح الراجحة ودرء المفاسد الراجحة، وبقاؤه في منصبه مرهون بالقدرة على القيام بذلك والقيام به فعلا، وألا يعود نصبه على مقصوده بالإبطال: كأن يعطل أحكام الشريعة عن العمل بها، أو أن تكون أحوال المسلمين الدنيوية في زمنه في تأخر، كالضعف العسكري في مواجهة الأعداء بسبب التخاذل والركون إلى الدعة، حتى يتسلطوا على المسلمين فلا يردعهم رادع، أو تضعف أحوالهم الاقتصادية فترتفع أسعار السلع الضرورية ويعسر الحصول عليها ، ويفشو الفقر بين الناس، أو يضعف الأمن حتى تنتشر الجرائم بلا رادع ويكثر الهرج وتفسد الأخلاق، قال الأيجي: "وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه، وإن أدى خلعه إلى الفتنة احتمل أدنى المضرتين"[1]، قال شارحه السيد الجرجاني في بيان السبب الموجب للعزل: "مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين، وانتكاس أمور الدين، كما كان لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها"، فإن إقراره على هذه الحالة والإلزام بطاعته مفسدة راجحة، والشريعة لا تأمر إلا بالمصالح الراجحة وإن أدى ذلك إلى ترك المصالح المرجوحة، وتنهى عن المفاسد الراجحة وإن أدى ذلك إلى فعل المفاسد المرجوحة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الواجب تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فاذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع"[2]، فإذا لم يقم السلطان بما لأجله نصب سواء لإهماله وتقصيره، أو لعجزه وضعفه وقصوره، كان تغييره واستبدال غيره به ممن يقوم بمهام السلطنة هو المتعين، حفاظا على المقاصد المبتغاة من نصبه والإلزام بطاعته، وهو الذي تدل عليه تصرفات الخلفاء الراشدين فها هو ذا الصديق رضي الله تعالى عنه في أول مقام يقومه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في المسلمين قائلا لهم: "أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني....، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم"[3]، ومما كان يشغل بال عمر رضي الله عنه ويهمه ويقلقه ألا يجد من الرعية من يقومه ولا ينكر عليه ما يقع فيه من أخطاء، فعن حذيفة، قال: دخلت على عمر وهو قاعد على جذع في داره، وهو يحدث نفسه فدنوت منه، فقلت: ما الذي أهمك يا أمير المؤمنين؟، فقال: هكذا بيده وأشار بها، قال: قلت: ما الذي يهمك! والله لو رأينا منك أمرا ننكره لقومناك، قال: آلله الذي لا إله إلا هو، لو رأيتم مني أمرا تنكرونه لقومتموه؟، فقلت: آلله الذي لا إله إلا هو، لو رأينا منك أمرا ننكره لقومناك، قال: ففرح بذلك فرحا شديدا، وقال: الحمد لله الذي جعل فيكم أصحاب محمد من الذي إذا رأى مني أمرا ينكره قومني"[4]، وبهم اقتدى ابن الزبير لما تولى إمرة المؤمنين فقد أخرج ابن أبي شيبة عن أبي سفيان قال: "خطبنا ابن الزبير فقال: إنا قد ابتلينا بما قد ترون، فما أمرناكم بأمر لله فيه طاعة فلنا عليكم فيه السمع والطاعة، وما أمرناكم من أمر ليس لله فيه طاعة، فليس لنا عليكم فيه طاعة، ولا نعمة عين"[5]. فالرئيس رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، وليس له عصمة أو حصانة خاصة، وليس له مكانة تسمو به فوق المساءلة، فمتى ما أساء كان موقوفا للمساءلة والمحاسبة، وذلك أن الأمير أجير ليس مالكا أو سيدا يتصرف في خاصة شأنه، بل أجير يحاسبه من استأجره، دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل السلام عليك أيها الأمير، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل السلام عليك أيها الأمير، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل الأمير، فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول. فقال: إنما أنت أجير، استأجرك ربُّ هذه الغنم لرعايتها، فإن أنت هَنَأْتَ جرباها، وداويت مرضاها، وحبست أُولاها على أخراها، وفَّاك سيدها أجرك، وإن أنت لم تهنأ جرباها، ولم تداو مرضاها، ولم تحبس أولاها على أخراها، عاقبك سيدها"[6]، ولذلك عد العلماء عدم قيام السلطان بمهام وظيفته أو التقاعس عن ذلك سببا موجبا لعزله أو خلعه، قال الكتاني: "السبب الشرعي الموجب للخلع هو: ضعفه عن القيام بالمملكة من كل جهة، وعدم انتظام أمور المسلمين مع وجوده، ومن يكون كذلك؛ كيف يؤهل لمنصب الخلافة السامي، أو يكون سلطانا شرعيا؟!!. معاذ الله أن يطلق عليه ذلك إلا هالك متهالك. ومهما وصل الحال في عصر إلى مثل هذا؛ إلا وجب على الكل إقامة من ينظر في مصالح المسلمين من غير تراخ"[7]، ثم شرع ينقل نصوص العلماء المؤيدة لفتواه-وأنا أنقل إلى هنا بعضها-فقال: "وها أنا أنقل نصوص أيمة الإسلام، وعلماء الحديث والكلام، الشاهدة بذلك، المصرحة بما سلكته هنالك؛ فأقول:
 
لما نفرت قلوب الرعية من السلطان مولانا سليمان بن سيدي محمد بن عبد الله - قدس الله أرواحهم - واختل نظام الجند في وقته؛ كتب رجال ذلك العصر شهادة عدلية ملخصها أنهم: يشهدون أن الناس بقوا فوضى، تتوارد عليهم الأحوال التي لا ترضى، من قطع الطريق، ونهب البضاعات، وسفك النفوس، وانهدام القواعد والأسوس، وأن هذا الأمر عم المغرب رسمه وحده، من مراكش إلى وجدة، حتى وصل إلى فاس..
وعقب بسؤال علماء ذلك العصر: "هل يجوز مع وجود ذلك نصب إمام آخر يقيم لهم أودهم، وينصر عددهم، ويدفع بسبب عدله هذه الفتن التي أظلم يومها وعم تشويشها؟".
 
فأول من أجاب: مفتي القطر الفاسي؛ بل المغرب: أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم الدكالي، وكتب ما نصه: "إن ما شهد به الشهود بالرسم حيث أشير؛ يوجب على المسلمين نصب إمام آخر. إذ مما يشترط في الإمام دواما وابتداء - كما لغير واحد من الأيمة؛ حتى الشيخ السنوسي في شرح القصيدة - كونه قادرا على تنفيذ الأحكام، وانتصار المظلوم من الظالم، وتجهيز الجيوش، والذب عن بيضة الإسلام؛ إذ ذاك هو المقصود، والحكمة في نصب الإمام. فإذا تعذر؛ وجب على الأمة نصب غيره ممن يقدر على القيام بأمور المسلمين، وتدبير مصالحهم العامة...".
وتلاه شيخ الفقهاء، ومرجع الإفتاء؛ أبو محمد عبد السلام بن يوزيد الأزمي، وكتبا - أيضا - ما نصه: "إن ما ثبت أعلاه يبيح للمسلمين إقامة إمام يقوم بمصالحهم، ويدفعون به يد الظالم عن المظلوم، وتنحل به بيعة الأيمة. قال في "المواقف" مانصه: وللأمة خلع الإمام وعزله لسبب يوجبه؛ مثل: أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين، وانتكاس أمور الدين، كما لهم نصبه وإقامته لإعلائها.هـ.وفي "شرح المقاصد" :من الأسباب المتفق على حل عقد الإمامة بها: ما يزول به مقصود الإمامة.ولا خفاء أن ما قيد في الشهادة أعلاه صريح في ذلك...قال في "الاستذكار" شرح قوله صلى الله عليه وسلم: وأن لا ننازع الأمر أهله: هم أهل العدل والإحسان، والفضل والدين مع القدرة على القيام بذلك".هـ. وتلاه العلامة الأديب أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد الكريم اليازغي، وكتب ما نصه: "المسطور أعلاه، طالع على التحقيق مبناه، وكيف لا؛ وهو من القضايا المشهورة الملحقات بالضروريات، والنقول واردة على نسجه ؟!. قال الطيبي في حديث: ألا وكلكم راع مسؤول عن رعيته: إشارة إلى أن المقصود من الإمام الأعظم: الحياطة والذب. وحيث انتفى ذلك في الأول بشهادة الأخبار المتواترة، والفتن المتكاثرة؛ فلا تخرج الناس عن دائرة الآثام إلا بخلعه، ونصب إمام آخر للإسلام. وهبه بقطر آخر نافذ الأمر، محكما في زيد وعمرو؛ فإن ذلك لا يجدي، وليس إلى كلام أحد يهدي، لقصور فائدته على قطره وأبناء مصره".
 
وقد أفتى بنحو ذلك من عاصرهم من أيمة ذلك الوقت وأعلامه؛ مثل:..."[8] أهـ وذكر أربعة عشر عالما من علماء وقته.
وقد ذكر إمام الحرمين ضابطا يعول عليه في تقرير العزل أو الخلع فقال: "كل ما يناقض صفة مرعية في الإمامة ويتضمن انتفاءها فهو مؤثر في الخلع والانخلاع، وهذا لا محالة معتبرا الباب"[9]، قلت:وها هنا مصطلحان: الخلع والانخلاع،والفرق بينهما
أن الخلع لا بد فيه من الإنشاء، بمعنى أنه إذا تحقق وجود السبب المقتضي للخلع فإن الإمام لا يصير مخلوعاً بمجرد تحقق هذا السبب حتى ينشىء أهل الحل والعقد خلعه.
أما الانخلاع فلا احتياج فيه لهذا الإنشاء، بمعنى أنه إذا تحقق وجود السبب المقتضي للانخلاع فإن الإمام يصير منخلعاً من غير احتياج من أحد إلى إنشاء خلعه، بل هو مخلوع بحكم الشرع، وتسقط إمامته بمجرد تحقق هذا السبب، وحينئذ فلا تكون له طاعة على  أحد، وقد بين إمام الحرمين ما يوجب الانخلاع فذكر منها: انسلال الإمام عن الدين، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم، ثم قال: "ولو جن جنونا مطبقا انخلع، وكذلك لو ظهر خبل في عقله وعته في رأيه بَيّن، واضطرب نظره اضطرابا لا يخفى دركه ولا يحتاج في الوقوف عليه إلى فضل نظر وعسر بهذا السبب استقلاله بالأمور وسقطت نجدته وكفايته، فإنه ينعزل كما ينعزل المجنون فإن مقصود الإمامة القيام بالمهمات والنهوض بحفظ الحوزة وضم النشر وحفظ البلاد الدانية والنائية بالعين الكالية فإذا تحقق عسر ذلك لم يكن الاتسام بنبز الإمام معنى"[10]، وكذلك إذا وقع الرئيس في أسر العدو الكافر  انعزل. قال النووي: "قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل قال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها"[11]،وقال: " قال القاضي فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب أمام عادل أن أمكنهم ذلك فإن لم يقع ذلك الا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه فإن تحققوا العجز لم يجب القيام وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفر بدينه"[12]
وأما ما يقغ فيه الإمام من الفسق فهل يقتضي الخلع أم الانخلاع؟ ذهبت طائفة من أهل العلم أنه يقتضي الانخلاع كالجنون، "وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة في ذلك"[13]
وإنشاء الخلع أو العزل عند وجود سببه ليس لآحاد الرعية الإقدام عليه لما في ذلك من ازدياد المحن وإثارة الفتن، وإنما هو لأهل الحل والعقد لأنهم أصحاب الحق في ذلك، ولا يحق لأحد أن يتجاوزهم، يقول إمام الحرمين: "ومما يتصل بإتمام الغرض في ذلك أن المتصدي للإمامة إذا عظمت جنايته وكثرت عاديته وفشي احتكامه واهتضامه وبدت فضاحته وتتابعت عثراته وخيف بسببه ضياع البيضة وتبدد دعائم الإسلام ولم يجد من تنصبه للإمامة حتى ينتهض لدفعه حسب ما يدفع البغاة، فلا يطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا فإنهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا وأبيدوا، وكان ذلك سببا في ازدياد المحن وإثارة الفتن، ولكن إن اتفق رجل مطاع ذو أتباع وأشياع ويقوم محتسبا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر وانتصب بكفاية المسلمين ما دفعوا إليه فليمض في ذلك قدما والله نصيره على الشرط المقدم في رعاية المصالح والنظر في المناجح وموازنة ما يندفع ويرتفع بما يتوقع"[14]، ويتبين من هذا أن العزل أو الخلع لا بد فيه من شوكة-مثل العقد-حتى يمكن تحقيق المقصود.
 

---------------------------------
[1] المواقف لعضد الدين الأيجي 3/595
[2] مجموع الفتاوى 28/284
[3] أورده ابن جرير في تاريخ الأمم والملوك وابن الأثير في الكامل في التاريخ، وابن كثير في البداية والنهاية وقال: وهذا إسناد صحيح
[4] مصنف ابن أبي شيبة أقوال عمر 13/278 ط الدار السلفية الهندية القديمة
[5] الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي [4 /509]
[6] السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية /17
[7] اختصار "مفاكهة ذوي النبل والإجادة"، في شروط البيعة ونواقضها في الإسلام، لشيخ الإسلام حافظ المغرب عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني المتوفى عام 1382 رحمه الله تعالى:
[8] اختصار "مفاكهة ذوي النبل والإجادة"، في شروط البيعة ونواقضها في الإسلام للكتاني 4-6
[9] غياث الأمم في التياث الظلم 75
[10] غياث الأمم في التياث الظلم 76
[11] شرح النووي على صحيح مسلم 12/229
[11] غياث الأمم في التياث الظلم 88-
[12] شرح النووي على صحيح مسلم 12/229
[13] شرح النووي على صحيح مسلم 12/229
[14] غياث الأمم في التياث الظلم 88-89

 

محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية