اطبع هذه الصفحة


نصيحة العالم للسلطان

محمد بن شاكر الشريف


بسم الله الرحمن الرحيم


النفس الإنسانية دائما في حاجة إلى من يعظها ويذكرها بالله تعالى واليوم الآخر، وخاصة لمن كان في وضع بحيث يتمكن الشيطان من التغلب عليه وإغوائه، كالأغنياء وأصحاب المناصب العليا أو السلطان، والواعظ من يستفيد من المواقف والظروف ليقوم بوعظه المؤثر، لعلمه بما يترتب على وعظه من نتائج حميدة إذا قام الموعوظ بما وعظ به، ولقد  أرسل أمير المؤمنين هارون الرشيد الخليفة العباسي إلى الإمام أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة أن يضع لَهُ كتابا جامعا يعمل به فِي جباية الخراج, والعشور والصدقات والجوالى[1], وغير ذلك مما يجب عليه النظر فيه والعمل به , وإنما أراد بذلك رفع الظلم عن رعيته , والصلاح لأمرهم فوضع له أبو يوسف كتاب الخراج لكنه رحمه الله تعالى لم يدع الفرصة تفلت منه، بل اهتبلها وقدم بين يدي جوابه نصائح ومواعظ يندر أن يقدمها عالم لرئيس أو أمير دولة، فما بالك بسلطان بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها، وقد بلغ من سعة ملكه أنه لما رأى سحابة مارة نظر إليها وقال لها: "أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك".
قال أبو يوسف في موعظته موجها خطابه لهارون الرشيد: "أطال الله بقاء أمير المؤمنين, وأدام لَهُ العز فِي تمام من النعمة, ودوام من الكرامة, وجعل ما أنعم به عليه موصولا بنعيم الآخرة الذي لا ينفذ ولا يزول, ومرافقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفق الله تعالى أمير المؤمنين , وسدده وأعانه عَلَى ما تولى من ذلك, وسلمه مما يخاف ويحذر"، وبعدما دعا له بالخير شرع يبين له عظم المسئولية التي تقلدها، ويحذره عقاب الله تعالى أن أهمل رعيته، ويبين له ما يترتب على القيام بواجبه أو إهماله على ما هو مبين فيما يأتي فقال:
 "1-يا أمير المؤمنين، إن الله-وله الحمد-قد قلدك أمراً عظيماً: ثوابه أعظم الثواب، وعقابه أشد العقاب. قلدك أمر هذه الأمة فأصبحت وأمسيت وأنت تبني لخلق كثير قد استرعاكهم الله وائتمنك عليهم، وابتلاك بهم و ولاك أمرهم، وليس يلبث البنيان ـ إِذَا أسس عَلَى غير التقوى أن يأتيه الله من القواعد فيهدمه عَلَى من بناه وأعان عليه. فلا تضيعينَّ ما قلدك الله من أمر هذه الأمة والرعية، فإن القوة فِي العمل بإذن الله.
2-لا تؤخر عمل اليوم إِلَى غد، فإنك إِذَا فعلت ذلك أضعت، إن الأجل دون الأمل، فبادر الأجل بالعمل، فإنه لا عمل بعد الأجل.
3-إن الرعاة مؤدون إِلَى ربهم ما يؤدي الراعي إِلَى ربه. فأقم الحق فيما ولاك الله وقلدك ولو ساعة من نهار، فإن أسعد الرعاة عند الله يوم القيامة راع سعدت به رعيته، ولا تزغ فتزيغ رعيتك.
4-وإياك والأمر بالهوى والأخذ بالغضب.
5-وإذا نظرت إِلَى أمرين أحدهما للآخرة والآخر للدنيا، فاختر أمر الآخرة عَلَى أمر الدنيا، فإن الآخرة تبقى والدنيا تفنى. 
6-وكن من خشية الله عَلَى حذر، واجعل الناس عندك فِي أمر الله سواء القريب والبعيد، ولا تخف فِي الله لومة لائم.
7-واحذر فإن الحذر بالقلب وليس باللسان، واتق الله فإنما التقوى بالتوقي، ومن يتق الله يقه.
8-واعمل لأجل مفضوض، وسبيل مسلوك، وطريق مأخوذ، وعمل محفوظ، ومنهل مورود؛ فإن ذلك المورد الحق والموقف الأعظم الذي تطير فيه القلوب، وتنقطع فيه الحجج لعزة ملك قهرهم جبروته، والخلق لَهُ داخرون بين يديه، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقوبته، وكأن ذلك قد كان. فكفى بالحسرة والندامة يومئذ فِي ذلك الموقف العظيم لمن علم ولم يعمل، يومٌ تزل فيه الأقدام، وتتغير فيه الألوان، ويطول فيه القيام، ويشتد فيه الحساب. يقول الله تبارك وتعالى فِي كتابه:{وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ[الحج :47}
وقَالَ تَعَالَى:{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ[المرسلات : 38}
وقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان : 40}
وقَالَ تَعَالَى:{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ[الأحقاف : 35}
وقَالَ:{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا[النازعات:46} فيالها من عثرة لا تُقال، ويالها من ندامة لا تنفع، وإنما هو اختلاف الليل والنهار يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، ويجزي الله كل نفس بما كسبت إن الله سريع الحساب.
8-فاللهَ اللهَ فإن البقاء قليل والخطب خطير والدنيا هالكة وهالك من فيها، والآخرة هي دار القرار. فلا تلق الله غداً وأنت سالك سبيل المعتدين، فإن ديان يوم الدين إنما يدين العباد
بأعمالهم ولا يدينهم بمنازلهم. وقد حذرك الله فاحذر، فإنك لم تخلق عبثاً، ولن تترك سدى. وإن الله سائلك عما أنت فيه وعما عملت به، فانظر ما الجواب؟‍!
9-واعلم أنه لن تزول غداً قدما عبد بين يدي الله تبارك وتعالى إلا من بعد المسألة فقد قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حَتَّى يسأل عن أربع: عن علمه ما عمل فيه، وعن عمره فيم أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسده فيما أبلاه"[2]
فأعدد يا أمير المؤمنين للمسألة جوابها، فإن ما عملت فأثبتَّ فهو عليك غدا يقرأ، فاذكر كشف قناعك فيما بينك وبين الله فِي مجمع الأشهاد.
10-وإني أوصيك يا أمير المؤمنين بحفظ ما استحفظك الله، ورعاية ما استرعاك، وأن لا تنظر فِي ذلك إلا إليه وله. فإنك إن لا تفعل تتوعر عليك سهولة الهدى، وتعمى فِي عينك وتتعفى رسومه ويضيق عليك رحبه، وتنكر منه ما تعرف، وتعرف منه ما تنكر، فخاصم نفسك خصومة من يريد الفلَج لها لا عليها، فإن الراعي المضيع يضمن ما هلك عَلَى يديه مما لو شاء رده عن أماكن الهلكة بإذن الله، وأورده أماكن الحياة والنجاة، فإذا ترك ذلك أضاعه وإن تشاغل بغيره كانت الهلكة عليه أسرع وبه أضر، وإذا أصلح كان أسعد من هنالك بذلك، ووفاه الله أضعاف ما وفى له، فاحذر أن تضيع رعيتك فيستوفي ربها حقها منك ويضيعك بما أضعت أجرك، وإنما يدعم البنيان قبل أن ينهدم.
وإنما لك من عملك ما عملت فيمن ولاك الله أمره، وعليك ما ضيعت منه، فلا تنس القيام بأمر من ولاك الله أمره فلست تُنسى، ولا تغفل عنهم وعما يصلحهم فليس يُغفل عنك.
11-ولا يضيع حظك، من الدنيا فِي هذه الأيام والليالي، من كثرة تحريك لسانك فِي نفسك بذكر الله تسبيحاً وتهليلاً وتحميداً، والصلاة عَلَى رسوله نبي الرحمة وإمام الهدى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن الله بمنه ورحمته جعل ولاة الأمر خلفاء فِي أرضه، وجعل لهم نوراً يضيء للرعية ما أظلم عليهم من الأمور فيما بينهم وبين ما اشتبه من الحقوق عليهم، وإضاءة نور ولاة الأمر إقامة الحدود، ورد الحقوق إِلَى أهلها بالتثبت والأمر البين، وإحياء السنن التي سنها القوم الصالحون أعظم موقعاً، فإن أحياء السنن من الخير الذي يحيا ولا يموت، وجور الراعي هلاك الرعية، واستعانته بغير أهل الثقة والخير هلاك للعامة.
12- فاستتمَّ ما آتاك الله يا أمير المؤمنين من النعم بحسن مجاورتها، والتمس الزيادة بالشكر عليها، فإن الله تبارك وتعالى يقول فِي كتابه العزيز:{لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[إبراهيم : 7}.
وليس شيء أحب إِلَى الله من الإصلاح، ولا أبغض إليه من الفساد، والعملُ بالمعاصي كفر
النعم. وقلَّ من كفر قوم قط النعمة ثُمَّ لم يفزعوا إِلَى التوبة إلا سلبوا عزهم، وسلط الله عليهم عدوهم.
وإني أسأل الله يا أمير المؤمنين الذي منَّ عليك بمعرفته فيما أولاك أن لا يكلك فِي شيء من أمرك إِلَى نفسك، وأن يتولى منك ما تولى من أوليائه وأحبائه؛ فإنه وليُّ ذلك والمرغوب إليه فيه.
وقد كتبت لك ما أمرت به وشرحته وبينته، فتفقهْهُ وتدبره وردد قراءته حَتَّى تحفظه، فإني قد اجتهدت لك فِي ذلك ولم آلُك والمسلمين نصحاً ابتغاء وجه الله وثوابه وخوف عقابه.
وإني لأرجو ـ إن عملتَ بما فيه من البيان ـ أن يوفر الله لك خراجك من غير ظلم مسلم ولا معاهَد، ويصلح لك رعيتك فإن صلاحهم بإقامة الحدود عليهم، ورفع الظلم عنهم والتظالم فيما اشتبه من الحقوق عليهم، وكتبت لك أحاديث حسنة، فيها ترغيب وتحضيض عَلَى ما سألت عنه، مما تريد العمل به إن شاء الله. فوفقك الله لما يرضيه عنك، وأصلح بك، وَعَلَى يديك"[3].
عندما نقرأ هذه النصائح والعظات لا نجد فيها أثرا لتملق أو مداهنة أو خوف ووجل من الصدع بكلمة الحق، بل نجد كلام الند للند ونجد المخاطبة فيها بكاف الخطاب التي للمفرد، وليس التي للجمع الدالة على التعظيمـ، وإننا لنطمع من علمائنا أن يكثر فيهم من يتقدم لسلطانه ببيان الحقوق الواجبة عليه وينصحه بما فيه الخير له ولرعيته ودينه ويحذره عقاب الله تعالى إن هو قصر أو تهاون فيما وجب عليه أو تعدى الحدود التي له، ويكلمه بعزة ورباطة جأش، بعزة الإيمان الذي يمثله، ولا يكلمه مكالمة الخائف الذليل وكأنه يستجدي  أو يسأل ما ليس له بحق.
فبمثل ذاك السلوك تنصلح الأوطان وينصلح حال الراعي والرعية   

 

---------------------------------
[1] الجوالي: معناه أهل الذمة وإنما قيل لهم: جوالي لأنهم جلوا عن مواضعهم والجوالي جمع   مفرده جالية
[2] أخرجه الترمذي وقال  هذا حديث حسن صحيح وصححه الألباني
[3] مقدمة كتاب الخراج لأبي يوسف
 

محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية