اطبع هذه الصفحة


سكرة الموت وحسرة الفوت

فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

 
 بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فالموت نهاية كل حي, قال الله عز وجل: ( كل نفس ذائقة الموت ) [آل عمران:185] والموت من أعظم المصائب التي تصيب الإنسان في دنياه, قال الإمام القرطبي رحمه الله: الموت من أعظم المصائب, وقد سماه الله تعالى مصيبة في قوله: ( فأصابتكم مصيبة الموت )  [المائدة:106] فالموت هو المصيبة العظمي, والرزية الكبرى, قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأعظم الشدائد التي تنزل بالعبد في الدنيا الموت, وما بعده أشد منه إن لم يكن مصير العبد إلى خير.  

للموت سكرات, فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما تغشاه الموت, كانت بين يديه ركوة أو علبة من الماء, فجعل يدخل يديه في الماء, ويمسح بهما وجهه, ويقول: ( لا إله إلا الله, إن للموت سكرات) فالموت له سكرات شديدة, ولهذا قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما: ما أغبط أحداً بهون موت, بعد الذي رأيت من شدة موت النبي صلى الله عليه وسلم.[أخرجه الترمذي]

قال الإمام القرطبي رحمه الله: يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت, فنظر إلى كربه, وشدة ما نزل به, فرجع إلى أهله, بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له: الطعام يرحمك الله, فقال: يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم, فوالله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده, عنه, أنه قال: أشد ما يكون الموت على العبد, إذا بلغت الروحُ التراقي...فعند ذلك يضطربُ ويعلو نَفَسُهُ, ثم بكى الحسن البصري رحمه الله.

والعبد الموفق المسدد من لا يجمع على نفسه: سكرة الموت, وحسرة الفوت بتفريطه في طاعة الله, فبعض الناس تجتمع عيه سكرة الموت, وحسرة الفوت, قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قال الحسن: اتق الله يا ابن آدم, لا يجتمع عليك خصلتين, سكرة الموت, وحسرة الفوت

وقال ابن السماك: احذر السكرة والحسرة, أن يفجأك الموتُ وأنت على الغرة, فلا يصف واصف قدر ما تلقى ولا قدر ما ترى.     

قال الله عز وجل: (
حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100] قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: يخبر تعالى عن حال من حضره الموت من المفرطين الظالمين, أنه يندم في تلك الحال, إذا رأى مآله وشاهد قبح أعماله, فيطلب الرجعة إلى الدنيا, لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها, وإنما ذلك ليقول: ( لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ) من العمل وفرطت في جنب الله.

وقال الله سبحانه وتعالى: (
وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [المنافقون:10-11]

يتحسر المفرط على ما فرط, ويسأل الرجعة التي هي محال, ليعمل صالحاً بأداء المأمورات واجتناب المنهيات, لينجو من العذاب. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: فكل مفرط يندم عند الاحتضار, ويسأل طول المدة, ولو شيئاً يسيراً, ليستعتب ويستدرك ما فاته, وهيهات.

فبالدار البدار قبل الندم والحسرة, قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: واعلم أن الإنسان ما دام يؤملُ الحياة فإنه لا ينقطع أمله من الدنيا, وقد لا تسمح له نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها, ويُرجيه الشيطان التوبة في آخر عمره, فإذا تيقن الموت, وأيس من الحياة, أفاق من سكرته بشهوات الدنيا, فندم حينئذ على تفريطه ندامة يكادُ يقتل نفسه, وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحاً, فلا يجابُ إلى شيءٍ من ذلك, فيجتمعُ عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت.


فحري بكل مسلم أن يكثر من ذكر الموت, وأن يستعد له, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هاذم اللذات ) يعني الموت.[أخرجه الترمذي] قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: الواجب على المؤمن الاستعداد للموت وما بعده في حاله الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة, قال الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ*َلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [ الحسر:18-19]

فالحذر من الغفلة عن الموت, قال الإمام ابن قدامه المقدسي رحمه الله: خطر الموت عظيم, وإنما غفل الناس عنه لقلة فكرهم وذكرهم له, ومن بذكره منهم إنما يذكره بقلب غافل, فلهذا لا ينجع فيه ذكر الموت, والطريق إلى ذلك أن يفرغ العبد قلبه لذكر الموت كالذي يريد أن يسافر إلى مفازة مخطرة, أو يركب البحر, فإنه لا يتفكر إلا في ذلك, وأنفع طريق في ذلك ذكر أشكاله وأقرانه الذين مضوا قبله فيذكر موتهم ومصارعهم تحت الثرى. وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: غاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة يستدركون فيها ما فاتهم منن توبة وعمل صالح, وأهل الدنيا يفرطون في حياتهم فتذهب أعمارهم في الغفلة ضياعاً, ومنهم من يقطعها بالمعاصي.

فهل من مستفيق من غفلته, ومفيق من سكرته, وخائف من صرعته, قبل أن يقول عند مفارقة هذا العالم, (
يا ليتني قدمت لحياتي ) [الفجر:24] و  ( ا حسرتا على ما فرطت في جنب الله  ) [الزمر:56]

قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
والعجب كل العجب من غفلة من تُعد لحظاته، وتُحصى عليه أنفاسه، ومطايا الليل والنهار تسرع به ولا يتفكر إلى أين يُحمل، ولا أي منزل يُنقل.


وإذا نزل بأحدهم الموت قلِق لخراب ذاته وذهاب لذاته، لا لما سبق من جناياته، ولا لسوء منقلبه بعد مماته، فإن خطرت على قلب أحدهم خطرة من ذلك، اعتمد على العفو والرحمة، كأنه يتقين أن ذلك نصيبه ولا بد.

فلو أن العاقل أحضر ذهنه، واستحضر عقله، وسار بفكره، وأنعم النظر وتأمل الآيات - لفهِم المراد من إيجاده، ولنظرت عين الراحل إلى الطريق، ولأخذ المسافر في التزود، والمريض في التداوي.

والحازم يعد لما يجوز أن يأتي، فما الظن بأمر متيقن؟


فرحم الله عبداً ذُكّر فاتعظ, واستمع فانزجر, اللهم أكرمنا بالخاتمة الحسنة
.


كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

 

فهد الشويرخ