اطبع هذه الصفحة


ملازمة تلاوة القرآن

فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

 
 بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره, فمن أحبَّ الله جل جلاله أكثر من ذكره, فطوبى لمن وفقه الله عز وجل, وأعانه, وحبب إليه كثرة ذكره, قال ميمون بن سياه: إذا أراد الله بعبده خيراً حبب إليه ذكره.

وممن حُبّب إليه كثرة ذكر الله عز وجل: شيخ الإسلام ابن تيمية, قال العلامة ابن القيم: حضرتُ شيخ الإسلام ابن تيمية مرةً صلى الفجر, ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار, ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي, ولو لم أتغذ هذا الغذاء لسقطت قوتي, أو كلاماً قريباً من ذلك. وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها, لاستعد بتلك الراحة لذكر آخر, أو كلاماً هذا معناه.

وذكر الذهبي في ترجمة عبدالرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر, أنه لا يخلو لسانه من ذكر الله في قيامه وقعوده.

والقرآن أفضل الذكر, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: قراءة القرآن أفضل من الذكر

فيا سعادة من كان القرآن الكريم جليسه وأنيسه, وكان محباً له, مكثراً من تلاوته, قال سفيان بن عيينة: من أحبّ القرآن فقد أحبّ الله.

وملازمة تلاوة القرآن من عمل السلف, قيل لنافع: ما كان بصنع ابن عمر في منزله؟ قال: لا تطيقونه: الوضوء لكل صلاة, والمصحف فيما بينهما, ومن يقرأ في سير الصالحين من المعاصرين, يجد شدة ملازمتهم لتلاوة القرآن إناء الليل وأطراف النهار, وهذه بعض النماذج مما جاء في كتاب " شذا الياسمين من أخبار المعاصرين في قراءة القرآن الكريم وقيام الليل " لمؤلفه عبدالله بن زعل العنزي.


*
الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الغديان, عضو هيئة كبار العلماء, ( ت1431) رحمه الله, يقول ابنه الشيخ الدكتور محمد: أنه خرج مع الشيخ في سفر إلى الطائف بالسيارة, فما أن خرج من البيان, حتى بدأ في القراءة, فبدأ بالفاتحة, ودخلنا الطائف وهو في آخر الختمة, قرابة سبع أو ثمان ساعات ! وله في هذا الأمر أخبار أخرى  

*
الشيخ صالح بن علي الغصون, عضو هيئة كبار العلماء, ( ت 1419) رحمه الله يقول عنه تلميذه الدكتور طارق الخويطر: يقرأ القرآن في أي وقت تَسنح فيه القراءةُ، ولو كان قصيرًا, كما بين نزوله من السيارة إلى المنزل, وكما في زياراته التي يقوم بها, بل أكثر من ذلك, لما كنتُ أقرأ عليه بعض المتون في بيته, كنت إذا قمت لأحضر شيئاً عند باب الغرفة, سمعته يقرأ حتى أرجع,  ويُردِّد رحمه الله: إنني أريدُ أن يكون القرآن أنيسًا لي في القبر.

*
الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن هليل, القاضي في مدينة الرياض,  ( ت 1421) رحمه الله, حفظ القرآن وهو ابن خمسة عشر عاماً, حُبب إليه تلاوة القرآن ليلاً ونهاراً, اشتهر عند الناس بالحلم, ومن عجيب قراءته للقرآن الكريم, وكذلك من عجيب حلمه: أنه طرق باب منزله ليفتح له أهله, ولكنهم لم يسمعوه, فجلس على عتبة الباب, وقرأ ستة أجزاء من القرآن الكريم.    

*
سعد بن عبدالله العبيد ( ت 1428) رحمه الله, ممن يقرأ القرآن الكريم كثيراً, أصيب بمرض السرطان, وسافر إلى أمريكا للعلاج, يقول من صحبه في الطائرة: لما ركب الطائرة في مطار الرياض شرع بقراءة القرآن, إلى أن وصل إلى أمريكا, لم يقطعه إلا الصلاة, وكانت هذه حاله كذلك في رحلة العودة.

*
نورة بنت محمد الزومان ( ت 1417) زوجة العلامة الشيخ عبدالرحمن القاسم رحمهما الله, تقول المشرفة التربوية الأستاذة شيخة بنت محمد القاسم, في كتابها: " صالحات عرفتهن" عنها وهي_جدتها_أما العشرون سنة الأخيرة بعد ما تزوج الأبناء, ومات جدي رحمه الله, فكانت تقضي جل وقتها في تلاوة القرآن الكريم, من الصباح الباكر إلى أذان المعرب لا يقطع عليها إلا أداء صلاة أو تناول وجبة طعام, أو قيلولة بعد الظهر, أو لقاء ضيق قدِم للسلام غليها, أو ما شابه ذلك من الضروريات.

قالت لها إحدى القريبات: ألا يضيق صدرك ؟ فعجبت من سؤالها ؟ وأجابت: أيضيق صدري, وعندي كتاب الله!.


ومن كان ملازماً لتلاوة القرآن أكرمه الرحمن, وهذه بعض الامثلة لذلك:


رد الله عز وجل إليه بصره:

عبدالرحمن بن جميعان المطيري ( ت 1425) رحمه الله, قال الشيخ الدكتور عمر المقبل: هذا الرجل أكثر من رأيت تلاوة للقرآن الكريم, كان يختم كل ثلاث.

ضعف بصره في آخر عمره, بسبب الماء في عينيه, حتى أنه لا يستطيع قراءة القرآن الكريم, وقال الأطباء: لا نستطيع إجراء عملية له, لكبر سنه, وكان عندما يسأل عن حاله ؟ يقول: أنا بخير ولله الحمد والمنة, ولكني لا أرى المصحف _ يقولها بنبرة حزينة _ وكان يقول للشيخ عمر المقبل: والله يا أبا عبدالله ما عندي بها الدنيا غير القرآن يوسع صدري, فإذا راح بصري وش أبي بها الدنيا ؟ يقولها والدموع تتقاطر من عينيه. فقال الشيخ المقبل: أدع الله يا أبا عبدالله أن الله يزيل عنك هذا الماء, وأبشر.
 وفي أول يوم من رمضان عام ( 1420) فتح المصحف على عادته بعد صلاة الفجر, فردَّ الله سبحانه عليه بصره, ففرح فرحاً شديداً, واستمر يبصر إلى أن توفي.

قرأ القرآن بصوت جهوري وهو فاقد للحبال الصوتية:
الشيخ عامر السيد عثمان, ( ت 1408) رحمه الله, يقول الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري وفقه الله: حدثني أخي الشيخ محفوظ الشنقيطي _ مدير عام العلاقات بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف _ عن شيخ القرّاء بالمجمع الشيخ عامر السيد عثمان رحمه الله تعالى: أنه فقد حباله الصوتية في السنوات السبع الأخيرة من حياته, وكان يدرس تلاميذه القراءة, فلا يفصح لهم إلا بشهيق وإيماء, ثم مرض الوفاة, وكان طريح السرير بالمستشفى, ففوجئ أهل المستشفى بالرجل المريض فاقد الحبال الصوتية يقعد ويدندن بكلام الله, بصوت جهوري جذاب, مدة ثلاثة أيام ختم فيهن القرآن من سورة الفاتحة إلى سورة الناس, ثم أسلم الروح.


قرأوا القرآن الكريم وهم في غيبوبة:


*
الشيخ أحمد بن أحمد سعيد ( ت1411) رحمه الله, حفظ القرآن الكريم وهو ابن عشر سنين, كان يستحضر المتشابه في القرآن الكريم, مرض وفي أثناء الغيبوبة التي أصابته, أخذ يقرأ ويكرر كثيراً قول الله تعالى: ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) [البقرة:155-156] يقرأ القرآن وهو في الغيبوبة مما أثار دهشة الجميع

*
الشيخ عبدالمتعال بن منصور عرفة, ( ت 1413) رحمه الله, لما بلغ عمره تسع سنوات أتم حفظ القرآن الكريم, ولما مرض في الأشهر الأخيرة من عمره, ودخل في غيبوبة, كان يتلو القرآن....لا يدري شيئاً عن كل أحبابه الذين بجواره, ولكنه فقط يذكر آيات الله.

*
الشيخ عيسى بن بلقاسم الفاخري ( ت 1419) رحمه الله, ختم القرآن في سنة واحده, وعمره واحداً وعشرين عاماً, يقول تلميذه أبو منذر الفاخري: لقد عرفت الشيخ حافظاً متمكناً من حفظ كتاب الله بأكثر من رواية, لا يمل من قراءته والاستماع إليه, ولما زرته وهو على فراش الموت في غيبوبة المرض كان لا يتلفظ بشيءٍ غير القرآن.

*
الشيخ محمد بن عبدالعزيز المشيقح ( ت 1428) رحمه الله, حفظ القرآن الكريم منذ صغره, في مرض موته عندما كان يُقرأ القرآن عنده, ويخطئ من يقرأ يردُّ عليه وهو في غيبوبته.

ضابط للقرآن وهو في مرحلة الخرف:

*
الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الغيث ( ت 1411) رحمه الله, حفظ القرآن الكريم في صغره, يقول الشيخ الدكتور عبدالله الطيار: اشتهر في آخر حياته بعد أن وصل إلى مرحلة الخرف بضبط القرآن الكريم واتقانه, حيث يقرأ سوراً متعددة لا يخطئ أبداً, مع أنه لا يعرف من عنده, ولا يميز الناس.

خرجت أرواحهم وهم يتلون القرآن الكريم:

*
الشيخ صالح بن محمد الأخميمي, ( ت 1415) رحمه الله, حفظ القرآن الكريم, في يوم وفاته كان يقرأ القرآن, وتوفي وهو يقرأ سورة ياسين

*
الشيخ عبدالرحمن بن حمد السعدي ( ت 1431) عم الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي, رحمهما الله, حفظ القرآن في صغره وكان يختم كل ثلاثة أيام, توفي وهو يقرأ سورة يوسف.

وختاماً:
فلنحرص على كثرة تلاوة القرآن, ولكن لا يعنى هذا أن يكون هم الإنسان كثرة القراءة بدون تدبر, بل يقرأ ويكثر من التلاوة, ولكن بتدبر وحضور قلب, ومن أجل أن يقرأ المسلم القرآن الكريم بتدبر فعليه ألا يقرأه في أقل من ثلاث, قال رسول الله علية الصلاة والسلام: ( لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث ) [أخرجه أبو داود] قال سماحة العلامة ابن باز رحمه الله: الأفضل أن يتحرى في قراءته الخشوع والترتيل والتدبر, وليس المقصود العجلة, بل المقصود أن يستفيد, وينبغي أن يكثر القراءة في رمضان كما فعل السلف رضي الله عنهم, ولكن مع التدبر والتعقل, فإذا ختم في كل ثلاث فحسن, وبعض السلف قال: إنه يستثنى من ذلك أوقات الفضائل, وأنه لا بأس أن يختم كل ليلةٍ, أو في كل يوم كما ذكروا عن الشافعي, وعن غيره, ولكن ظاهر السنة أنه لا فرق بين رمضان وغيره.

وتلاوة القرآن من الأمور التي كان عليها الصحابة والتابعون لهم بإحسان, قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: خمس كان عليها الصحابة والتابعون لهم بإحسان: لزوم الجماعة, واتباع السنة, وعمارة المساجد, والتلاوة, والجهاد.

وإذا قرأ المسلم القرآن الكريم بتدبر, تأثر بهذه القراءة, فمنعته من المعاصي أو بعضها,
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإنسان إذا قرأ القرآن وتدبره, كان ذلك من أقوى الأسباب المانعة له من المعاصي أو بعضها.

وتلاوة القرآن بتدبر من أسباب صلاح القلب, قال إبراهيم بن الخواص رحمه الله: صلاح القلب في خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر, وخلاء البطن, وقيام الليل, والتضرع عند السحر, ومجالسة الصالحين.


فلنجاهد أنفسنا على كثرة تلاوة القرآن وقراءته بتدبر فنفوز بالأجور العظيمة, وتتأثر قلوبنا وينعكس ذلك على أعمالنا.

 


كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

 

فهد الشويرخ