اطبع هذه الصفحة


مختارات من كتاب الحديقة لمحب الدين الخطيب

فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

 
 بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فمن النعيم الذي أعده الله الكريم للمتقين في الجنة: الحدائق قال: عز وجل ( إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا) [النبأ:31_32] قال العلامة السعدي رحمه الله: لهم (حَدَائِقَ) وهي: البساتين الجامعة لأصناف الأشجار الزاهية بالثمار.

في حياتنا الدنيا حدائق, امتن الله بها على عباده قال سبحانه: ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ * أنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا ) [عبس:24_30] وقال جل جلاله: (
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ
) [النمل:60]  قال العلامة العثيمين رحمه الله: ( حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ) البهجة بمعنى الحُسن, لأن القلب يبتهج بها وينشرح بها الصدر.

وكما يوجد حدائق فيها أشجار وثمار يبتهج بها القلب, فيوجد كذلك كتب يفرح بها القلب ويسر, وهي كتب أهل العلماء الربانين, ممن تمسكوا بمنهج أهل السنة والجماعة قولاً وعملاً.

الكاتب الكبير: محب الدين الخطيب ( ت 1389) رحمه الله, له مصنفات عديدة, منها: تعليقاته على كتاب " العواصم من القواصم " للقاضي ابن العربي رحمه الله, ومنها:  كتابه: " الحديقة مجموعة أدبٍ بارعٍ وحكمةٍ بليغةٍ " وقد طبع في ثلاثة مجلدات كبار.قال الشيخ سليمان بن صالح الخراشي, الذي قام بالاعتناء بالكتاب: هذا الكتاب ...هو عصارة وثمرة خبرات ومطالعات الأستاذ الكبير, استحق بها كتابه أن يكون _ كاسمه _( حديقة ) ورافة, يقطف الناظر فيها ثمارها كل ما لذَ وطاب, من فروع العلم والثقافة وجميل الآداب, مع عدم خلوها من المواعظ والذكر النافعة لأولى الألباب ...وقد أحببت تقريب تلك الثمار اليانعة من المتشوقين لها, بالاعتناء بها, وإعادة طبعها من جديد...معلقاً على ما يستحق التعليق ومهذباً ما يحتاج إلى تهذيب.

وقد قام جزاه الله خيراً بالتعليق على تلك المواضع.

هذا وقد يسّر الله الكريم لي فاخترت بعضاً مما يوجد في الكتاب من حِكم وفوائد, أسأل أن ينفعني والمسلمين بها.


المسلم في الفتنة:

قال الحسن البصري رحمه الله: كن في الفتنة كابن لبون ( أي كابن الناقة في العام الثاني من عمره ) لا ظهر فيُركب, ولا لبن فيحلب.


المصائب:

المصائب عصا تسوق بها أبناء البشر إلى فراديس السعادة...فيا لسعادة أمة تذعن للخفيف من ضربات تلك العصا فتكتفى بأولاها عن أخراها, وويل لأمة تفقد نعمة الإحساس, فلا تؤدبها ضربات المصائب.
المصائب نتائج متحتمة, لذنوب متقدمة, وما كان الله ليصيب قوماً بمصيبة إلا بما قدمت أيديهم من أسبابها, فإذا انتبهوا بعدها إلى سوء سلوكهم, فأصلحوا من شأنهم وصاروا أمة صدق وحزم وشجاعة وتعاون وإنصاف, تكن المصيبة حينئذ سبب شفائهم من أمراضهم الأخلاقية, وعلاجاً لأدوائهم الاجتماعية.


الاتحاد قوة والتفرق ضعف:

هذه قاعدة عامة, وقانون مطرد, تمثله المحسوسات, وتثبتهُ الموجودات.
تأمل خيط القطن الرفيع ترى الطفل الصغير يقطعه بلا مشقة, ولكن إذا اجتمع عدد عظيم منه تعذّر على أقوى الرجال قطعهُ.
وانظر قطرة المطر تنزل من السحاب المرتفع فلا تخدش وجه الأرض, ولا تحركُ مثقال ذرةٍ من الرمل, وإذا تجمعت قطرات كثيرة صارت سيلاً جارفاً يخدُّ الأرض ويقتلع الصخور والأشجار.
ولا يغرُب عن فكرك حكايةُ المهلب بن أبي صفرة الذي جمع أولادهُ حينما قرُبت وفاتهُ, وطلب منهم رماحهم وربطها حُزمة واحدة, وأمرهم واحداً بعد واحدٍ بكسرها, فعجزوا, ثم فرقها فكسر كل واحدٍ رُمحهُ من غير تعبٍ ولا مشقة. عند ذلك قال لهم:

كُونوا جميعاُ يا بني إذا اعــترى      خطب ولا تتفرقوا آحـــاداً
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً       وإذا افترقن تكسرت أفراداً

اقرأ تاريخ أية أمةٍ من الأمم تجد الاتحاد والوفاق من أهم أسباب رقيها, والتقاطع والشقاق من دواعي تأخرها وسقوطها.

وتأمل الأسرة التي تمً الوفاق بين أفرادها تجدها آمنة مطمئنة حافظة مجدها القديم سائرةً في طريق العز والغنى, في حين أنك تجدُ نظيرتها التي سرى في أفرادها سًمّ التفرق وفتكت بها جراثيم الشقاق, قد خيمت عليها عناكب الفقر, وأحاط بها الذّلُّ والهوان فذهبت ريحها, وتغلب عليها أضعف أعدائها.

فالاتحاد أمر يدعو إليه الدين ويوجبه العقلُ ويؤيدُهُ التاريخ, لم يوفق إليه أُمة ولا أسرة ولا جماعة إلا علا شأنها, وعزّ سلطانها, وأمنت غوائل الدهر, وطوارئ الأيام.


القلم:

قال ابن المقفع: القلم بريد القلب, يُخبر بالخبر, وينظر بلا نظر.
وقيل: عقول الرجال تحت أسنَّةِ أقلامها.
قال ابن أبي داود: القلم سفير العقل ورسوله الأنبل ولسانه الأطول وترجمانه الأفضل  
وقيل: القلم أحد اللسانين.
وقال بعض الكتاب: القلم الردي كالولد العاق.
وقيل: القلم لسان اليد.
أهدى رجل إلى إبراهيم بن المدبر قلماً وكتب إليه:
قد وجهت إليك _ أعزك الله _ بمفاتيح العلوم, بادٍ جمالها, تام كمالها.


البلاغة:

سمع خالد بن صفوان رجلاً يتكلم ويُكثر فقال له: اعلم _ رحمك الله _ أن البلاغة ليست بخفة اللسان, وكثرة الهذيان, ولكنها بإصابة المعنى, والقصد إلى الحجة.
وذهب بعضهم إلى أن البلاغة هي سرعة الخاطر في الجواب. سأل معاوية صحاراً العبدي عن البلاغة فقال: " أن يُصيب فلا يخطئ, ويُسرع فلا يبطئ " ثم اختصر ذلك فقال: " لا يخطئ ولا يبطئ "  


الإيجاز:

قيل لأبي عمرو بن العلا: هل كانت العرب تطيل ؟ قال: نعم ليسمع منها. قيل: فهل كانت توجز ؟ قال: نعم ليُحفظ منها.
وقالوا: البلاغة لمحة إيجاز.
وقالوا: لا تنفق كلمتين إذا كفتك كلمة.


زهد الشيخ طاهر الجزائري:

أذكرني زهدُ عالم العراق في هذا العصر السيد محمود شكري الألوسي, بزهد صديقه عالم الشام الشيخ طاهر الجزائري, رحمهما الله.
أنفق شيخنا الشيخ طاهر, كل ما ملكت يداه في اقتناء نفائس الكتب, ولا سيما المخطوطات الفذة أو النادرة, فلما ضاق به وطنه دمشق, اختار القاهرة وطناً ثانياً, وصار يبيع فيها هذه النفائس, ويعيش بثمنها عيشة الكفاف, ومن عجيب أمره أنه كان يرضى من دار الكتب المصرية _ مثلاً _ بنصف القيمة التي كان يُمكن أن يحصل عليها من مثل المتحف البريطاني ثمناً لكتاب من كتبه, إيثاراً لبقاء الكتاب في الوطن الإسلامي على انتقاله إلى أوربا.


الطب العربي:

قال أبو بكر الرازي: ينبغي للطبيب أن يوهم المريض أبداً الصحة, ويرجيه فيها.
ومن أقواله: إن استطاع الطبيب أن يعالج بالأغذية دون الأدوية, فقد وافق السعادة.


الإفرنجي أمس واليوم:

قال الأمير شكيب أرسلان: إن الإفرنجي هو الإفرنجي...ما تغير شيء من طبعه, فهو اليوم كما كان عندما زحف إلينا من ثمانمائة سنة, بما فيها من الظمأ إلى الدماء, والقرم إلى اللحم, وإن هذه المدينة التي يتدرع بدعواها إن هي إلا غطاء سطحي لما هو كامن في طبعه, متهيئ للظهور لأدنى حادث.
فالمدنية العصرية لم تزد الإفرنجي إلا تفنناً في آلات القتل, وفصاحة في التمويه وتسمية الأشياء بغير أسمائها.


أحسن الجواب:

** قيل لأبي العيناء أي الجواب أحسن ؟ قال: ما أسكت المُبطل, وحيّر المحق.


الصديق العاقل:

كان لي أخ, هو أعظم الناس في عيني, وكان رأس ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه, كان خارجاً من سلطان بطنه, فلا يشتهي ما لا يجد, ولا يُكثر إذا وجد, وكان خارجاً من سلطان لسانه, فلا يتكلم بما لا يعلم, ولا يماري فيما علم, وكان أكثر دهره صامتاً, فإذا قال بذَّ القائلين, وكان يُرى ضعيفاً مستضعفاً, فإذا جد الجد فهو الليث عادياً, وكان لا يشكو وجعه إلا عند من يرجو عنده البرء. ولا يستشير صاحباً إلا أن يرجو منه النصيحة.


الإحسان إلى أهل الأذى:

قال بعضهم: دخلتُ الباديةَ فإذا عجوز بين يديها شاة مقتولة, وجرو ذئب مُقع, فنظرت إليها فقالت: أتدري ما هذا ؟ قلت: لا. قلت: حرو ذئب أخذناه, وأدخلناه بيتاً, فلما كبر قتل شاتنا, وقد قلت في ذلك شعراً, قلت لها: ما هو, فقالت:

بقرت شُويهتي وفجعتَ قلبي        وأنت لشاتنا ولد ربيـــــــــــــــبُ  
غذيت بدَرّها وربيت فينــــــــــا         فمن أنباك أن أباكَ ذيـــــــــبُ
إذا كان الطباعُ طباعَ ســـــــوء         فليس بنافع فيها الأديــــــبُ

الجندي المجهول:
يحكي أن سائحاً انجليزياً رأى صينياً يضع صحناً من الأرز المطبوخ فوق قبر, فقال له متهكماً: متى تظن أن فقيدك يقوم فيأكل هذا الأرز ؟ فأجابه الصيني بقوله: يكون ذلك متى جاء فقيدكم يستنشق روائح الأزهار التي تضعونه على قبره.


من:

من كثر رضاه عن نفسه كثر الساخطون عليه.
من مشي مع ظالم فقد أجرم
من مدح رجلاً بما ليس فيه فقد بالغ في ذمه.
من جهل شيئاً عاده.
من اليقظة إظهار الغفلة مع شدة الحذر.
من ساء نظره لنفسه قل نصحه لغيره.
من عرف نفسه لم يغتر بثناء الناس عليه.
من أيقن بالخلف جاد بالعطية.   
من استشار الرجال شاركها في عقولها.
من قال لا ينبغي, سمع ما لا يشتهي.


رُبَّ:

رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع.
رُب كلمة تقول لقائلها: دعني !
رُب أكلة تمنع أكلات.
رُب ساع فيما يضره.
رُب جامع مال لزوج حليلته.


حِكم:

* العلماء غرباء لكثرة الجهال بينهم
* العالم يعرف الجاهل, لأنه قد كان جاهلاً, والجاهل لا يعرف العالم, لأنه لم يكن عالماً
* دار الوفاء لا تخلو من كريم, ولا يستقر فيها لئيم.
* طوبى لمن كان بصره في قلبه.
* خير الناس من فرح بالخير للناس.
* أول عوض الحليم من حلمه أن الناس أنصاره على الجاهل.
* إذا أظلم القلب ضاق الصدر, وإذا ضاق الصدر ساء الخُلق.
* الإحجام في مواطنه, كالإقدام في مواضعه.
* الهمُّ نصف الهرَم
* كل شيء يبدو صغيراً ثم يكبر, إلا المصيبة فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر
*  كل شيء إذا كثر رخص, إلا الأدب فإنه إذا كثر غلا.
* الجاهل صغير وإن كان شيخاً.
* إخوان السوء كشجرة النار يُحرق بعضها بعضاً.
* خير مالك ما وقاك, وشره ما وقيته.
* لا تفتح باباً يعييك سده.


كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ