اطبع هذه الصفحة


من أقوال السلف في المرض والعلاج

فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

 
 بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فالصحة نعمة عظيمة ومنحة كبيرة من الله عز وجل لعبده, فهي تاج على رؤوس الأصحاء, لا يراه إلا المرضى, فمرض البدن أو النفس له آفات ذكرها أهل العلم, منها: أنه يمنع من العبادات, ويشوش القلب, ويمنع من الذكر والفكر, وينغص العيش.

ولكن لا يعنى هذا أن المرض كله شر, بل فيه منافع, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: النفوس تكتسبُ من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركوناً إلى العاجلة, وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة, فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته, قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه, فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه, ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منه, ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.

فمن أُصيب بمرض فقد الله عز وجل به خيراً. وكم من نفوس تابت وأنابت إلى الله عندما أصيبت بالأمراض. فإسماعيل بن محمد بن يوسف البرزالي, مرض بالسل ستة أشهر, وحصل له في المرض إقبال على الطاعة وملازمة الفرائض, حتى كان يصلي إيماء, قال له والده قبل موته بيوم: أيش تريد ؟ قال: أشتهي أن يغفر الله لي.

للسلف أقوال في المرض, والعلاج, يسّر الله الكريم لي فجمعتُ بعضاً منها, أسأل الله أن ينفع بها الجميع.

ـــــــــــــــــ

المرض:

** قال الحسن: أيام الوجع...أما والله ما هي بشرّ أيام المسلم...ذُكِّرَ فيها ما نسي من معاده, وكُفِّرَ بها عن خطاياه.

وكان إذا دخل على مريض قد عوفي قال له: يا هذا إن الله قد ذكرك فاذكره, وأقالك فاشكره.

** قال الإمام النووي رحمه الله: الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم...الحكمة في جواز المرض عليهم, ومصائب الدنيا, تكثير أجرهم, وتسلية الناس بهم.

** قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر ما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين. وتتعلق قلوبهم به لا بغيره فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه...من هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض أو حصول اليسر.

** قال العلامة ابن القيم رحمه الله: كثير ما تكون الآلام أسباباً لصحة, لولا تلك الآلام لفاتت, وهذا شأن أكبر أمراض الأبدان. فهذه الحمى فيها من المنافع للأبدان ما لا يعلمه إلا الله, وفيها من إذابة الفضلات وإنضاج المواد الفجة وإخراجها ما لا يصل إليه دواء غيرها, وكثير من الأمراض إذا عرض لصاحبها الحمى استبشر بها الطبيب, وأما انتفاع القلب والروح بالآلام فأمرّ لا يحسّ به إلا من فيه حياة. فصحة القلوب والأرواح موقفة على آلام الأبدان ومشاقها. وقد أحصيتُ فوائد المرض فزادت على مائة فائدة.  

** قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: هذه الأسقام والبلايا كلها كفارات للذنوب الماضية ومواعظ للمؤمنين حتى يتعظوا بها في المستقبل عن شر ما كانوا عليه.

ــــــــــــــــــ

** قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: المرض يكفر الخطايا فإن حصلت العافية فقد حصلت الفائدتان وإلا حصل ربح التكفير.

وقال: الأمراض بدنية كانت أو قلبية, تكفر ذنوب من تقع له, والمراد بتكفير الذنب ستره, أو محوه أثره المترتب عليه من استحقاق العقوبة.

** قال العلامة العثيمين رحمه الله: فإن قال قائل كان النبي صلى الله عليه وسلم يوعك كما يوعك الرجلان منا, فهل يفهم من هذا أن الإنسان إذا كان معروفاً بالصلاح وشُدِّد عليه المرض الذي مات فيه أن هذا يدل على حسن الخاتمة؟

فالجواب: رُبما يدل على هذا, وقد ابتُلي الرسول علية الصلاة والسلام بهذا ليتم له مقام الصبر, لأن مقام الصبر مقام عالٍ, يحتاج إلى أمر يُصبر عليه.

** قال العلامة عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين رحمه الله: المصائب تكفر الذنوب, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يصيب المسلم من نصب, ولا وصب, ولا هم, ولا غم, حتى الشوكة يُشاكها, إلا كفّر الله بها من خطاياه.) فلذلك كان كثير من السلف يفرحون بالأمراض ونحوها, كما نفرح نحن بالعافية والشفاء. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء, وإن الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم, فمن رضي فله الرضا, ومن سخط فله السخط.))

** قال العلامة الألباني رحمه الله: " الآن تفرغت لعبادات أكثر مما مضى من عمري: التسبيح والتحميد."  قالت ابنته سكينة: كان ذلك في آخر عامٍ من عمره لما منعه المرض من دخول مكتبته الحبيبة, وحيل بينه وبين الانكباب على الكتب, فوجد في الوقت بحبوبة اغتنمها في ذكر ربه جل جلاله, أسأل الله الرحمن الرحيم أن يرحمه, وأن يتقبل منه عِلمه وعمله, آمين.  

ــــــــــــــــــــ

** قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: المرض يصاب به العبد ليس شراً محضاً, بل فيه مصالح ومنافع أعظم, ومن تلك المنافع:

الأمر الأول: تكفير الذنوب والسيئات: قال صلى الله عليه وسلم (ما يُصيبُ المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم, حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)

الأمر الثاني: ظهور عبادة الصبر, وعبادة الصبر عبادة عظيمة الشأن كما قال تعالى ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]  

الأمر الثالث: ظهور عبودية الرضا بالله رباً, فنرضى عن الله أن قدّر لنا المرض, ونعلم أنه لم يقدره علينا إلا لمصلحتنا, وأنه لا يريد بنا إعناتاً ولا سوءاً, ولا شراً, وإنما يريد بنا الخير والإحسان.

الأمر الرابع: أن تظهر عبودية فعل الأسباب لجلب التداوي بإذن الله إلى غير ذلك من العبادات في هذا.

العلاج:

** قال العلامة ابن القيم رحمه الله:

& كان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواع: أحدها: بالأدوية الطبيعية. والثاني: بالأدوية الإلهية. والثالث: بالمركب من الأمرين.

& قوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه والصدقة، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، هذه الأدوية قد جربتها الأمم فوجدوا لها من التأثير في الشفاء، ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء.

ـــــــــــــــــــ

& من أعظم علاجات المرض فعل الخير والإحسان والذكر والدعاء, والتضرع والابتهال إلى الله, والتوبة, ولهذه الأمور تأثير في دفع العلل, وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية, ولكن بحسب استعداد النفس وقبولها وعقيدتها في ذلك ونفعه.

& المريض له مدد من الله يُغذيه به زائداً على ما ذكره الأطباء من تغذيته بالدم وهذا المدد بحسب ضعفه وانطراحه بين يدي ربه, فيحصل له من ذلك ما يُوجب له قرباً من ربه فإن العبد أقربُ ما يكون من ربه إذا انكسر قلبُهُ ورحمةُ ربه عند ئذٍ قريبة منه

&كل طبيب لا يداوي العليل بتفقد قلبه وصلاحه وتقوية روحه وقواه بالصدقة وفعل الخير والإقبال على الله والدار الآخرة فليس بطبيب بل متطبب قاصر.

& الطبيب إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح وعلاجهما, كان هو الطبيب الكامل, والذي لا خبرة له بذلك وإن كان حاذقاً في علاج الطبيعة وأحوال البدن نصف طبيب.

& اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا يُعدل عنه إلى الدواء, ومتى أمكن بالبسيط لا يعدلُ عنه إلى المركب. فلا ينبغي للطبيب أن يولع بسقي الأدوية, فإن الدواء إذا لم يجد في البدن داءً يُحلِّله, أو وجد داءً لا يوافقه, أو وجد ما يوافقه فزادت كميته عليه, أو كيفيته, تشبَّث بالصحة وعبث بها.

& المريض...إن كان ولياً لله حصل له من الأغذية القلبية ما تقوى به قوى طبيعته وتنتعش به قواه أعظم من قوتها وانتعاشها بالأغذية البدنية وكلما قوى إيمانه وحبه لربه...وقوى يقينه بربه...وجد في نفسه من هذه القوة ما لا يُعبرُ عنه.

& كنت آخذ قدحاً من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مراراً وأشربه, فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء, والأمرُ أعظم من ذلك, ولكن بحسب قوّة الإيمان.

ــــــــــــــ

& لا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة, فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول, واعتقاد الشفا به وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان, فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور _إن لم يتلق هذا التلقي – لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها

& الأدوية الطبيعية الإلهية تنفعُ من الداء بعد حصوله وتمنعُ من وقوعه وإن وقع لم يقع وقوعاً مضراً وإن كان مؤذياً والأدوية الطبيعية إنما تنفع بعد حصول الداء.

** قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير. وتأثير ذلك...أعظم من تأثير الأدوية البدنية, ولكن...أمرين: أحدهما: من جهة العليل وهو صدق القصد, والآخر من جهة المداوي وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل

** قال العلامة ابن باز رحمه الله: الموسيقي ليست بعلاج, ولكنها داء, وهي من آلات الملاهي, فكلها مرض للقلوب وسبب لانحراف الأخلاق, وإنما العلاج النافع والمريح للنفوس إسماع المرضى القرآن والمواعظ المفيدة والأحاديث النافعة أما العلاج بالموسيقى وغيرها من الآت الطرب فهو مما يعودهم الباطل, ويزيدهم مرضاً إلى مرضهم ويقلً عليهم سماع القرآن والسنة والمواعظ المفيدة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

** قال العلامة العثيمين رحمه الله: من آمن بأن الله على كل شيء قدير، فإنه يطرد عنه اليأس؛ لأن الإنسان قد يُصاب بمرض مثلًا فيَيْئَس مِن برئه بعد العلاج، فيُقال له لا تيئس إن الله على كل شيء قدير وأنت إذا أراد الله أن يبقي المرض بك فقد يكون خيرًا لك لأنك تكسب من ورائه الثواب من الله عز وجل لأنه لا يصيب المؤمن من همٍّ ولا غمٍّ ولا أذًى حتى الشوكة يُشاكها، إلَّا كفَّر الله به يعني: من ذنوبه فأنت لا تيئس إذا أصابك مرضٌ لا يُرجى زوالُه مثلًا، فإن الله على كل شيء قدير.

ـــــــــــــ

متفرقات:

** دخل رجل على بشر بن الحارث وهو مريض, فقال له الرجل: أوصني. قال: إذا دخلت على مريض فلا تطل القعود عنده.

** قال ابن وضاح: أفضل العيادة أن لا يطيل الرجل في القعود عند المريض.

** قال الشعبي: عيادة حمقى القرى, أشدُّ على أهل المريض من مرض صاحبهم, يجيئون في غير حين عيادة مريض, ويطيلون الجلوس.

** قال العلامة ابن القيم رحمه الله:

& شاهد الناس كثيراً من المرضى تنتعش قواه بعيادة من يُحبونه, ويعظمونه, ورؤيتهم لهم, ولُطفهم بهم, ومكالمتهم إياهم, وهذا أحد فوائد عيادة المرضى التي تتعلق بهم.

& تفريج نفس المريض وتطيب قلبه وإدخال ما يسُرُّه عليه, له تأثير عجيب في شفاء علته وخفتها, فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك, فتساعد الطبيعة على دفع المؤذي

& أربعة تمرض الجسم: الكلام الكثير, والنوم الكثير, والأكل الكثير, والجماع الكثير

& أربعة تهدم البدن: الهم, والحزن, والجوع, والسهر.

** قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:

& جواز إخبار المريض بشدة مرضه, وقوة ألمه, إذا لم يقترن بذلك شيء مما يمنع, أو يكره من التبرم, وعدم الرضا, بل حيث يكون ذلك لطلب دعاء, أو دواء, وربما استحب, وأن ذلك لا ينافي الاتصاف بالصبر المحمود.

& لا يطيل العائد عند المريض حتى لا يضجره... ولا يحضر في وقت غير لائق بالعيادة...ولا يتكلم عنده بما يزعجه, ويقلل السؤال, ويظهر الرقة ويُخلص الدعاء ويوسع للمريض, ويشير عليه بالصبر, ويحذره من الجزع.


كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ