اطبع هذه الصفحة


صور مشرفة من سير النساء

فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

 
 بسم الله الرحمن الرحيم
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...أما بعد : فلا يخفي أن الإطلاع على سير الأعلام مما يشحذ الهمم لسلوك سبيلهم, والاقتداء بهم, قال الشاعر : 

تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم        إن التشبه بالكرام فـلاحُ

وفي تاريخ أمة الإسلام تراجم لنساء تستحق أن تكون مثالاً يحتذي بها, وقدوةً يتأسى بها, فأم صالح عباسة بنت الفضل زوجة الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله, أثنى عليها الإمام أحمد, وقال : أقامت مع أم صالح عشرين سنة, فما اختلفت أنا وهي في كلمة.

وآسية بنت محمد بن خلف بن راجح زوجة الحافظ محمد بن عبدالواحد رحمهما الله, قال عنها زوجها : كانت دينه خيرة حافظة لكتاب الله...وكانت تؤثرني على نفسها.

 وآمنة بنت حمزة بن أحمد بن عمر بن أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامه زوجة الضياء الحافظ رحمهما الله, قال عنها زوجها : كانت خيرة موافقة حفظت عليَّ القرآن العزيز.

وفي كتب السير تراجم لنساء لهن مواقف عظيمة مع أبنائهن وأزواجهن, اخترت بعضها وحرصتُ أن تكون لنساء عشن قريبات من عصرنا, فغالبيتهن توفين في القرن الرابع عشر الهجري, أسال الله الكريم أن ينفع بها جامعها وقارئها وناشرها.

 

دعاء الأم لأبنائها بالتوفيق والهداية والصلاح

كل أمٍ تتمنى لأبنائها فلذات أكبادها كل خير وصلاح, وهذه الأمنية لابد من القيام بأسبابها, ومن أهم الأسباب لذلك : الدعاء لهم, ودعاء الوالد من أب أو أم مستجاب, فعن أبي هريرة رضي الله عنه, أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : ( ثلاثُ دعوات مُستجاباتٍ لا شك فيهنَّ, دعوة الوالد, والمسافر, والمظلوم)[أخرجه أبو داود والترمذي] قال العلامة السهارنفوري رحمه الله : ( دعوة الوالد ) لولده أو عليه, ولم يذكر الوالدة لأن حقها أكثر فدعاؤها أولى بالإجابة"

ولهذا حرصت الأمهات بالدعاء لأبنائهن بالصلاح والهداية, والحفظ من كل سوء ومكروه, فامرأة عمران, أم مريم, جدة عيسى ابن مريم عليه السلام, دعت ربها, أن يُعيذ ابنتها مريم, وذريتها, من الشيطان الرجيم, قال الله عز وجل : } فلما وضعتها قالت ربِّ إني وضعتها أُنثى والله أعلمُ بما وضعت وليس الذكر كالأُنثى وإني سميتها مريم وإني أُعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم { [آل عمران:36]

ولقد استجاب الله عز وجل لدعائها, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مولد يولد إلا نخسهُ الشيطانُ, فيستهل صارخاً من نخسةِ الشيطان إلا ابن مريم وأمه) ثم قرأ أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : } وإني أُعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم { [أخرجه مسلم] قال الإمام القرطبي رحمه الله : قال علماؤنا : فأفاد هذا الحديث أن الله تعالى قد استجاب دعاء أم مريم, فإن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء والأولياء إلا مريم وابنها.

فحري بكل أمٍ تريد الخير والصلاح لأبنائها أن تدعو لهم, وأن تتحين في ذلك أوقات وأحوال الإجابة, فتدعو في الحال التي يكون فيها العبد أقرب إلى ربه وهو حال السجود, وتدعو في الثلث الأخير من الليل, وتلح ولا تستعجل, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يُستجابُ لأحدكم ما لم يعجل فيقول : قد دعوت فلم يستجب لي ) [متفق عليه]  

قد دعت بعض الأمهات لأبنائهن بالصلاح والهداية والتوفيق, فاستجاب الله الكريم لهن, فأصبح هؤلاء الأبناء أعلام هدى ومنارات خير, بفضل وتوفيق من الله عز وجل, ثم بدعاء أمهاتهن, ومن هؤلاء :

الشيخ عبدالله بن محمد القرعاوي, رحمه الله ( ت 1389هـ)  

شغف بمزاولة التجارة فترة من حياته, إلا أن رغبة والدته كانت تكمن في طلب ولدها للعلم, وكانت تدعو الله ليل نهار, أن يشرح صدر ولدها للعلم, فاستجاب الله لدعائها فكان ابنها من طلاب العلم ومن ناشريه, فحصل له خير كثير في جنوب المملكة العربية السعودية, حيث افتتح المئات من المدارس التي كان لها دور في إخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم, ومازال طلابه وطلاب طلابهِ منارات في تلك البلاد, قال الشيخ بندر بن فهد الايداء في كتابه " المسيرة لداعية جنوب الجزيرة الإمام عبدالله القرعاوي " : قضى رحمه الله قرابة الثلاثين عاماً في الدعوة والتعليم في بيئة جاءها وهي مليئة بالشرك والخرافة, وهو رجل فرد, لكنه أمة وحده, رحل إلى الديار الجنوبية, فاجتث الأضرحة, ونشر التوحيد, بجنوب القرى على حماره, يمحو الأمية وينشر الهداية...وبقيت آثار دعوته إلى يومنا هذا كشجرة طيبة : ) أصلها ثابت وفرعها في السماء [ [إبراهيم :24]

 الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد, رحمه الله ( ت 1402هـ)

نشأ يتيماً, وفقد بصره, ولم يتجاوز سن التميز, وكانت والدته طرقة بنت صالح آل صالح التي توفيت رحمها الله وهو في السادسة من عمره, تحبه كثيراً,  وتدعو له دائماً بأن يكون من حفظة القرآن الكريم, وأن يكون إمام مسجد, فاستجاب الله دعائها, قال مؤلف كتاب " تاج القضاة في عصره سماحة الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد " الشيخ سليمان بن محمد العثيم : وقد حقق الله دعوتها, واستجاب لأمنيتها, فأصبح  أعظم مما تأمل وترجو, حيث صار علماً من أعلام الإسلام, ووعاءً من أوعية العلم, ورجلاً من رجلات الأمة والدولة, وبحراً من بحور المعرفة.

الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود, رحمه الله ( ت 1417هـ)

كانت والدته رحمها الله, تتعبد كل ليلة, وتدعو لابنها بالتوفيق...فكانت تلك الدعوات الصادقة خير معين لابنها بعد الله على شق طريقه في طلب العلم.

فكان هذا الابن الصغير بعد ذلك واحداً من أعلام هذا العصر, قال الشيخ ابن بسام رحمه الله, عنه في كتابه " علماء نجد خلال ثمانية قرون " كافح بلسانه وقلمه في سبيل الاحتفاظ بعقيدة الأمة طاهرة نقية عن البدع والانحرافات, وقال الشيخ إبراهيم بن محمد السيف في كتابه " المبتدأ والخبر لعلماء في القرن الرابع عشر " : ألف رحمه الله الكثير من الرسائل والكتب الهامة في مختلف الأمور الشرعية.

العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز, رحمه الله ( ت 1420هـ)

كان لدعاء والدته رحمهما الله له أثر فيما وصل إليه, جاء في كتاب " ترجمة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز " من إعداد الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم بن قاسم ومحمد زياد بن عمر التُّكلة : إن لوالدة الشيخ عبدالعزيز جارة صالحة, ولما أُصيبت عيناه شقَّ ذلك على والدته, فقالت هذه الجارة الصالحة : لا تحزني, ولكن ادعي الله له بعد أخذ بصر أن يعوضه البصيرة, فدعت له, وأخذت تلح في الدعاء له.

قلنا [ القائل الشيخ عبدالعزيز بن قاسم ومحمد التُّكلة ] : لعل دعاء هذه الوالدة الصالحة المشفقة استجيب في هذا الغلام اليتيم الضعيف, فصار عالم الأمة ومجدد العصر, فلا يعجزن أحد في الدعاء.

وإنه لحري بكل أمٍ أن تدعو الله جل جلاله أن يهدي أبنائها ويصلحهم وأن ينفع بهم أمتهم, وأن تحثهم وتشجعهم على طلب العلم, فما يدريها فقد يمنً عليها الكريم الرحمن فيكون أحد أبنائها من الأعلام الذين يكون لهم دور في إصلاح مجتمعاتهم, ويكون لها الثواب العظيم والأجر الكبير في ذلك.

تشجيع الأم لأبنائها على طلب العلم 

لقد أدركت بعض النساء بتوفيق من الله عز وجل, أهميه العلم في حياة أبنائهن, فكن نعم الموجهات والمشجعات لأبنائهن في طلب العلم, ولم يقتصر دور بعضهن على التشجيع, بل تجاوز الأمر ذلك, فكن  يشاركن في تعليم أبنائهن,  ومن هؤلاء :  

الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع, رحمه الله ( ت 1385 هـ)

توفي والده وهو صغير,  فكان لوالدته نورة بنت رشيد بن نصار آل شبيلي رحمها الله, دور في دفعه لطلب العلم, قال الشيخ رحمه الله : لما توفي والدي كنت صغيراً فقالت والدتي : اذهب إلى تلميذ جدك وشيخ أبيك, الشيخ : محمد بن عبدالله بن سليم في بريده, فاقرأ عليه, قال : فذهبت إليه, فرحب بي وأكرمني واعتبرني كأحد أبنائه ولازمته حتى توفي.

هذا الابن الصغير أصبح بعد ذلك : الشيخ العلامة, وشغل أعمالاً منها : أنه كان مدرساً في الحرم بمكة, ورئيساً لهيئة التمييز العليا, ورئيساً للوعاظ, ومديراً للمعارف, قال الشيخ عبدالإله بن عثمان الشايع في كتابه " العلامة الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع " : للشيخ محمد بن مانع مؤلفات قليلة...إلا أن هذه  المؤلفات نفع الله بها, حيث لقيت القبول والانتشار.

الشيخ عبدالله بن محمد القرعاوي, رحمه الله ( ت 1389هـ) 

قال الشيخ عن والدته رحمها الله : أدخلتني المدرسة فالمعلم يعلمني بالمدرسة, وهي تعلمني بالبيت, لأنها قارئة حافظة للقرآن وتختم بالشهر مرتين ومداومة على صيام ثلاثة أيام من كل شهر وعلى الستة من شوال وعشر من ذي الحجة وتحرص على التراويح والقيام مع جماعة المسجد وتستمع خطبة الجمعة والقراءة بين العشاءين والعصر.

فكن من ثمار هذا التعليم بعد توفيق الله عز وجل أن أصبح هذا الابن كما يقول عنه الشيخ عبدالله بن محمد المعتاز : الداعية الكبير, الذي كرس وقته وجهده في نشر عقيدة السلف الصالح في جنوب المملكة العربية السعودية, والتي كانت قبل قدومه إليها في جاهلية جهلاء, فأنقذها الله تعالى بسببه.

الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن قاسم, رحمه الله ( ت 1392هـ)

والدته (هيا بنت عباد العباد) رحمهما الله, كانت ذات يسار, ولها أملاك, لما توفى أخوه عبدالله, أراد والده محمد أن يبقى معه في المزرعة, لكنها رحمها الله دفعته إلى طلب العلم, ودفعت له من مالها.

لقد أصبح هذا الابن الصغير بعد ذلك علماً من الأعلام, ويكفيه فخراً جمعه لمجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية والذي يقع في (37) مجلداً, قال حفيده الشيخ عبدالملك القاسم في كتابه " الشيخ عبدالرحمن بن قاسم " : وقد أمضى الجد والوالد رحمهما الله, أكثر من أربعين عاماً في جمعه وترتيبه وطبعه, وقد وجدوا في سبيل ذلك من العناء والمشقة ما أحتسب أن يكون رفعة لهما وذخراً.

الشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي, رحمه الله ( ت 1393هـ) 

يقول الشيخ عن والدته رحمهما الله  : لما حفظت القرآن, وأخذت الرسم العثماني, عُنيت بي والدتي, وأخوالي أشد العناية, وعزموا على توجيهي للدراسة في بقية الفنون, فجهزتني والدتي بجملين أحدهما عليه مركبي, وكتبي, والآخر عليه نفقتي, وزادي, وقد هيأت لي ملابس كأحسن ما تكون, فرحاً بي, وترغيباً لي في طلب العلم, وهكذا سلكت سبيل الطلب والتحصيل.

لقد أصبح هذا الابن الصغير بعد ذلك علماً من أعلام القرن الرابع عشر, يقول الشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس في كتابه " ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ": الشيخ الإمام القدوة...صاحب كتاب ( أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ) من خير من يُقتدى به من رجال القرن الرابع عشر في العلم والتقى والورع والزهد في الدنيا وبذل الجهد في نشر العلم.

العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله 

والدته رحمها الله, كان لها تأثير عليه في الطلب, وكانت تشجعه وتحرضه على طلب العلم والتفقه في الدين, فكان من ثمار هذا التشجيع بعد توفيق الله عز وجل, أن أصبح هذا الابن الصغير : إمام أهل السنة والجماعة في هذا العصر, ومفتى عام المملكة العربية السعودية, والعلامة الذي يُرجعُ إليه في كثير من الأمور.

 إعانة الزوجة لزوجها على الخير

للزوجة دور لا يستهان به في صلاح زوجها, وتركه لدروب الردى, وسبل الغواية, متى ما استعانت بالله, وبذلت جهدها, وصبرت, واحتسبت, ولجأت إلى الله الكريم بالدعاء والتضرع, كما أنها تستطيع أن تكون عوناً لزوجها على أمور الخير, فتكون شريكة له في الأجر والثواب, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله ) [أخرجه مسلم]  وتوجد صور مشرفة لزوجات كن عوناً لأزواجهن على أمور الخير, منهن :  

زوجة الشيخ حمد بن علي بن عتيق : سارة بنت الشيخ كسران رحمهما الله

كانت حافظة لكتب الله عن ظهر قلب, حتى قيل إنها في أول ليلة من زفافها قرأت على زوجها الشيخ حمد, سورة البقرة من أولها إلى آخرها عن ظهر قلب.

زوجة الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن قاسم : نورة بنت محمد الزومان رحمهما الله

كانت ذات عقل ورزانة وورع وعبادة وقراءة للقرآن, تقول : كنت انزعج كلما أراد السفر, خاصة وأنه يغيب شهوراً متواصلة, فلما قلت له يوماً في ذلك قال لي : أنت خشيرتي [شريكتي] في الأجر, قالت رحمها الله : فما عدت أقول له شيئاً بعد ذلك.

زوجة الشيخ عبدالرحمن الحصين : نشمية بنت عبدالعزيز الرواف رحمهما الله

كانت امرأة صالحة, حافظة لكتاب الله الكريم, وقد حفظ زوجها القرآن الكريم على يد زوجته.

 إحسان زوجة الأب إلى ابن زوجها من غيرها

وخاتمة البحث لموقف عجيب غريب, وإن كان ليس بغريب على من يبحثون عن الأجر والثواب من الله الكريم, إنه موقف مشرف ليس لأمٍ ولا لزوجةٍ ولا لأختٍ ولا لعمةٍ ولا لخالةٍ, إنه لزوجة أب, أحسنت إلى يتيم, أسال الله الكريم أن يثيبها على ما قامت به, وأن يرفع درجتها في الجنان, فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنا كافل اليتم في الجنة هكذا ) وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما [أخرجه البخاري] وكافل اليتيم القائم بأموره, والشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي توفيت والدته, وله من العمر أربع سنوات, ثم توفي والده وله من العمر سبع سنين, فكانت زوجة والده, نعم الأم له, حيث كان لها حنو وشفقة عليه, أكثر مما يكون لأولادها, وهذا شيء غير مألوف من زوجة الأب تجاه أولاد ضرتها, ولا شك أن هذا من فضل الله عز وجل عليها, حيث كان لهذا اليتيم الذي اعتنت به شأن كبير في القرن الرابع عشر الهجري, فهذا اليتيم أصبح العلامة الشيخ السعدي صاحب تفسير : تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن" وصاحب المؤلفات النافعة, والذي تخرج على يديه طلاب علم وعلماء, من أبرزهم تلميذه العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحم الله الجميع.

رحم الله الكريم تلك النساء, ووفق الله نساء المسلمين للإقتداء بهن, والسير على دربهن.



 

فهد الشويرخ