اطبع هذه الصفحة


ودخلت السجن

محمد بن سرّار اليامي

 
 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعد..,
إن أرحام الأحزان ..
وملتقى الهموم ..
ومجمع الغموم ..
ومدفن كل سعادة ..
ومجزرةُ الآمال ..
تقبع خلف .. تلك الأسوار ..
نعم .. خلف تلك الأسوار ..
حيث تؤدُ الهمةُ ، ويذبح الطموح ..
ويطفئ شرارُ اللموع والتميز ..
وتنداح الأحلام إلى آلام ..
في كل شيء أغلال ..
في اليمين .. وفي الشمال ..
في الحيطان الجامدة جمود الموت ..
في الباب الموصد جُعِلَ فناراً على القاطنين ..
بيت الوحشة ..
بيت صمت رهيب .. ما طرق الدنيا مثله ..
بيت أشبهُ ما يكونُ بحياةٍ برزخية..
الشهد المذاب فيه ملح أجاج ..
والعافية فيه كافية ..
والأمل فيه سرابٌ بقيعة ..
طعام أهله الصبر ، وخبزهم الثبات ، وشرابهم الغصص والمنغصات ..
وأحلامهم الحرية ، والفرج ، واللقاء ..
وواقعهم القيد ، والوحدة ، والفراق ...
إن وحشت الصمت لتكاد تخنق أحدهم عن تنفس هواء الإنسانية ، وعن طعم ماء البشرية ، فيصرخ صارخهم ، ويقول قائلهم :

إلى الله فيما نالنا نرفعُ الشكوى  ***  ففي يده كشف المضرة والبلوى


ودخلت السجن

قُدِّمت لي دعوة من إدارة السجون فدلفت إلى أحد السجون يُسابقني أو يكاد ..
حُبُّ الاستطلاع ، وطرافة الجديد ولذتهُ ..
وقد قيل : لكلِّ جديد لذة ..
دخلت لأخبرهم كيف يخرجون !!!!
نعم .. كانت كلمتنا بعنوان " الطريق إلى الخروج من السجن " ..
وتعلمون وأعلم أنها في امتثال أمر الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والاستعداد ليوم الرحيل ..
وطفقت أدلف بسيارتي الصغيرة .. حتى وقفت عند الباب ..
وكان ضني أنه باب أو بابين وانتهى الأمر ...
فإذا بها عشرات وعشرات .. ووالله ما استطعت أن أعدها حين دخولي لكثرتها ..
دخلت من باب إلى باب ، ومن سجّان إلى سجّان ، ثم أخذ بيدي آخذ إلى موقع قد أُعد للمحاضرة .. ودخلت ..
فإذا بعالم من البشر ، وإذا بعلاقاتهم الاجتماعية على أرفع ما يكون ، إذ أن السجن بحاجة ماسة لهذا الجانب ..
والمقصود .. أني رأيت الشاب الغرير ، والشيخ الهرم الكبير ..
فعجبت ، وقلت في نفسي ولم أبدها لهم :
إن كان هذا الصغير بلا تجربة ، فأين الكبير منها ؟؟، ولكن يخلق ربك ما يشاء ويختار ..

هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها  *** ما عُذرُ أشمط يستهويهِ شيطانُ

وعلمتُ طعم الحرية ، بل وذقتهُ والله عندما خرجت بعد المحاضرة ، وكأني طائرٌ أُطلق من قفص فعاد يغرد ..
كان كل شيء هادئ ..
بل ويوحي بالسكون القاتل ، وقمتُ على وجل لأخرج ما في جعبتي ،وأنثر كنانتي ..
وما إن حمدتُ الله وبدأت ، وإذا بالدموع كسيلٍ جرار ..
نعم .. إنها دموع التوبة ..
إنها من حَرِّ الخطيئة ..
إنها أسفاً ... ولوعة ..
إنها شهود التقصير ..
إنها ما يملكونه فقط ..
وعندها شعرتُ بنعمة السلامة ، فهي نعمة عظيمة أن يسلمك الله ..
وعندها أحسست بستر الله العظيم ، وعلمت أنه طالما أضفاه علينا فسترنا ،ولم يفضحنا ..

فسبحان من يعفو ونهفو دائماً  *** ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعهُ *** جلالهُ عن العطى لذي الخطا

وتمت المحاضرة ، والقلوب حاضرة ، والدموع متناثرة ، والأمل يشرق في كل قلب لطريق الخروج من السجن ..
نعم .. طالما حلموا بذلك ..
بل إن أحدهم قال لي :
هذا والله العظيم هو حلمي الوحيد ..
والآخر يقول :
أرى أطفالي وأعيش بينهم ..
و والله لا أعود بعد ذلك إلى ما كنت فيه ..
ولأكفُّ كفاً ما كفَّ أحدٌ أحسن منه ..
ولسان حاله يقول ..:

ماذا على طيف الأحبة لو سرى  *** وعليهم لو سامحوني في الكرى
فاقتهم لا عن رضى وهجرتهم  *** لا عن قِلى ورحلتُ لا متخيراً
لا عيشتي تصفو ولا رسم الهوى *** يعفو ولا جفني يصافحه الكرى
ومن العجائب أن يقيل بظلكم  *** كل الورى ونبذتُ وحدي بالعرا

ثم فاضت عيناهُ بدمعٍ غزيرٍ ،وتوارى عني يكفكف الدمع ..
ثم خرجت إلى الدنيا ..
والله لكأني سجينٌ خرج ..
أتعلمون كم أمضيتُ بين أظهرهم ..
ساعة فقط .. إي والله ..
هي أثقل على ظهري من ثهلان ..
وأشدُّ من قرض بالمقاريض ، ونشر بالمناشير ..
لكن إنما هي صبر ساعة ..

وما هي إلا ساعةٌ ثم ينقضي *** ويذهبُ هذا كله ويزولُ

وتذكرتُ " ولكنّ عافيتك هي أوسعُ لنا " ، فعلمت أن العافية لا يعدلها شيء..
وأننا في نعمة الحرية لا نشعر بها لنشكرها ..
ووالله لو ذاق أحدنا الحبس .. لطالت بلابلهُ ، ولكثرت قلاقله ..، ولخابت في حياته آمالُه ولزادت آلامهُ ..
بل يُرسلُ على قلبه شواظ من نار الحنين .. ، ونحاس الأنين ، فلا تثمر الشجرة ، ولا تزهر الزهرة ، وتذبل الثمار في أكمامها ، والزهور في أشجارها ..
فلا جمال ، ولا سعادة ، ولا هناء ، ولا صفاء ..
كيف لا .. وهو يرى حُريته تُنحرُ بين يديه ..
كيف لا .. وهو يرتحلُ إلى عالم الصمت ..
ليست ساعة .. بل سنونٌ وسنونٌ ..
_ نسأل الله العافية والسلامة _
أيها الطليق الحُرّ .. أشكر لربك هذه النعمة ، وألزم طريق العافية والسلامة ، فإنه سبيل النجاة من الهموم والغموم ..
إلـــــزم تســـــــلم ..

وقد خرجت من هذه الزيارة بدروس منها :..
1- البعد عن مواطن الريب مطلب عظيم لحصول العافية والسلامة.
2- إن كان هذا الهمُّ والغمُّ والوحشة في هذه الدار ثمرة الذنب فكيف به في الآخرة .
3- انتظار الفرج عبادة ، ولزوم التفاؤل معالجٌ للقلوب مُسَمِّحٌ للنفوس ، باعث على الطمأنينة .
4- اشتداد الكرب مؤذنٌ بقرب الفرج ، واشتداد الحبل مؤذنٌ بانقطاعه .
5- لزوم عتبة الرب الكريم ، والدعاء وصدق اللجوء إليه جل في علاه .
6- المتاب من كُلِّ ما ألمَّ بالإنسان فهذه فرصة نادرة .
7- مراجعة الحسابات مع رب البريات ، وحسن التعامل معه .
8- اغتنام الأوقات والفرص الحياتية ، و اجعل منها مدخلاً لإسعاد النفس ، أو قل على الأقل لدفع التعاسة وصنع الشراب الحلو من الليمون ، وإيقاد شمعة النجاح .
9- فتح صفحة حسابٍ جديدة على جميع مستويات الحياة من توبة ، وترك للصحبة السيئة ، والعمل الدؤوب المتواصل لجلب الرزق ، والبعد عن مواطن التهم وغيرها ..
10- الإفادة مما هو موجود من كتب وحِرّف للانتفاع من دقائق العمر الثمينة .
11- حفظ كتاب الله جل عز ، فهي فرصةٌ ثمينةٌ لذلك ، وكذلك حفظ السنة المطهرة .
12- في كلِّ وادٍ بنو سعد ، وفي كل سجنٍ مظلوم ، فليعلم هذا السجين إذا كان مظلوماً أنه مستجاب الدعاء ، فلا ييأس ولا يحزن , " إن الله يدافع عن الذين آمنوا" ولا ينسى "وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين "..
13- ليتيقن أن في سجنه رحمة له ، كيف لا وهو يُحفظُ من قرناء السوء ، وهو يحدُّ من سوءه ، وهو أيضاً يُعانُ على نفسه ليصلحها .
14- أحذر من رفقاء السوء حتى في داخل السجن، فإن مصاحبتهم سم زعاف.
15- جرّب حياةً بلا ألم ، ونجاحاً وفلاحاً في العمل ، جرب ذلك وأحكم أنت .
16- أشغل فراغك بالخير ، وإلا أشغلك الشيطان بالشر .
17- تذكر أنك قدوةُ لإخوانك الصغار ، وأبناؤك وبناتك ،" فهل يستقيم الظل والعود أعوج" .
18- تذكر أن الدنيا يوم لك ويوم عليك ، وساعةٌ دون ساعة ، ولباس دون لباس حتى نرد على الله جل في علاه ، فاجعلها في طاعة .
19- اعتبر بأحوال السالفين ، وطالع قصص السلف الصالحين .
20- تذكر أن الفرج بيدي مالك الملك ، فأكمل عبادتك له ، وخضوعك ، وخشوعك له يفرج عنك ويفتح عليك .
21- بادر بالاستفادة من هذه التجربة وإن كانت مرة قبل أن تُبادر.
22- اعلم أن الحياة مدرسة ، من لم يدخلها لن يدخل ساحة التجربة والحكمة " ولا حكيم إلا ذو تجربة" .
23- اجعل في مساحات ذاكرتك ، وأدراج عقلك جزءاً للتفكر في آيات الله المبصرة ، ونعمة الغامرة .
24- ليكن المصحف أنيسك ، والعلم جليسك ، والكتاب لك خيرٌ من أحبِّ الأحباب.
25- انظر إلى عاقبة الذنوب من الذل والهوان في الدنيا قبل الآخرة ، فتخلص ما استطعت منها قبل المغادرة .
26- تذكر " أنا جليس من ذكرني" حديث قدسي ، فالزم لسانك ذكره ، وشكره ، والثناء عليه ، فإن نعمه لا تُحصى ..
فؤادٌ دأبهُ الذكرُ *** وعينٌ ملؤها عِبَرُ
27- جدد حياتك ، وصحح إيمانك فهذه فرصة .
28- تذكر حياة القبر ، فإن هذا السجن أشبهُ بالبرزخ بين الدنيا والآخرة ، فتذكر ماذا أعددت له ؟؟..
29- المرء يُحشر مع من أحب ، فاختر لنفسك .
30- تعلم الشريعة ، وافهمها ،فما عُصي الله بذنب إلا بسبب الجهل .
31- فإذا خرجت فتذكر خروجك من هذه الدنيا .
32- أكتب تجاربك ليستفيد منها الجيل ، ولتكن لهم مشعل هداية .
33- اربط نفسك بأهل الصلاح ، واحرص على التواصل معهم .
34- الزم نفسك ببرنامج مفيد يومي .
35- لا تنسى جلسة الإشراق فإن الروح فيها إشراق .
36- " وصدقة السرِّ تطفئ غضب الرب " كما في الحديث .
37- والصيام فإن أجرهُ بلا حدِّ ولا عد ، وتذكر الحديث القدسي " إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به "..
38- واعلم أن الحلم بالتحلم ، والعلم بالتعلم ، وأن الذهب الإبريز لا تزيده النار إلا لمعاناً .
39- وأن ساعة الضيق يعقبها ساعة الفرج وما أقربها ، فقد تكون في ساعة إجابة للدعاء ، فاغتنم ساعة الإجابة وادع الله الكريم .
40- علِّق القلب بالرب ، واصدق في التعامل ، وأحسن في العمل ، فإن الله يحبُ المحسنين .

هذه مشاعر وخواطر سطرتها بقلمي الكليل على ضيق من الوقت ، وكثرة في المشاغل معزياً بها نفسي وكل من ابتلي بالسجن في حياته ، والله أسأل أن يهديني وسائر المسلمين للسلامة من الآفات ، والشرور ، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه ، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، وأن يأخذ بأيدينا في المضائق ، وأن يفك أسر المأسورين ، وأن يقضي الدين عن المدينين ، وأن يردَّ الغائب على المنتظرين .
وأن يمنّ بماء الوصال على قلوبٍ كواها الهجر والحرمان ، وأن يبرد أكباداً ألهبها قرُّ الفراق فذابت في الأعماق .. إنه وليُّ ذلك والقادر عليه .
وصلى الله وبارك على نبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم .
 

محمد اليامي
  • رسائل دعوية
  • رسائل موسمية
  • فوائد من الكتب
  • المتميزة
  • كتب دعوية
  • الصفحة الرئيسية