اطبع هذه الصفحة


الاستبداد السياسي مدرسة فرعون تتكرر(1)

أمير بن محمد المدري
إمام وخطيب مسجد الإيمان – اليمن


الحمدُ لله معزّ من أطاعه واتقاه . ومذل من أضاع أمره وعصاه . الذي وفق أهل طاعته للعمل بما يرضاه . وحقق على أهل معصيته ما قدره عليهم وقضاه . أحمده سبحانه على حلو نعمه ومر بلواه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا رب لنا سواه ، ولا نعبد إلا إياه . وهو الذي في السماءِ إله وفي الأرض إله . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي كمل به عقد النبوة فطوبى لمن والاه وتولاه . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله حق جهاده . وكان هواهم تبعاً لهداه . وسلم تسليما كثيراً . أما بعد فيا أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته.
وبعد ..
أيها المسلمون :
من أعظم آلام الأمة اليوم الاستبداد والاستبداد السياسي خاصة : استبداد فئة معينة بالحكم والسلطان، برغم أنوف شعوبهم، فلا هم لهم إلا قهر هذه الشعوب حتى تخضع، وإذلالها حتى يسلس قيادها، وتقريب الباحثين بالباطل، وإبعاد الناصحين بالحق.
و الاستبداد اليوم له إمكانات هائلة يؤثر بها على أفكار الناس وميولهم، عن طريق المؤسسات التعليمية والإعلامية والتثقيفية والتشريعية، وأكثرها -إن لم يكن كلها- في يد الاستبداد.
وأول المتضررين من جراء الاستبداد والطغيان هو الدين ،فالإسلام لا ينتعش ويزدهر ويؤثر، ويدخل إلى العقول والقلوب، ويؤثر في الأفراد والجماعات، إلا في ظل الحرية التي يستطيع الناس فيها أن يعبروا عن أنفسهم، وأن يقولوا: (لا) و(نعم) إذا أرادوا ولمن أرادوا، دون أن يمسهم أذى أو ينالهم اضطهاد.
ومعظم أقطار الوطن العربي ـ والإسلامي ـ قد ابتليت بفئة من الحكام عناهم الشاعر بقوله:
أغاروا على الحكم في ليلة ففر الصباح ولم يرجع!
القلوب تكرههم، والألسنة تدعو عليهم، والشعوب تترقب يوم الخلاص منهم لتجعله عيدا أكبر، ومع هذا يُستفتى الشعب على حكمهم، فلا ينالون أقل من 99.999 (التسعات الخمس) المشهورة في كثير من بلاد العالم الثالث المقهور المطحون.
إن الاستبداد ليس مُفسدًا للسياسة فحسب، بل هو كذلك مُفسد للإدارة لأن الاستبداد يقدم أهل الثقة عند الحاكم، لا أهل الكفاية والخبرة، ويقرب المحاسيب والمنافقين، على حساب أصحاب الخلق والدين.
وبهذا تضطرب الحياة وتختل الموازين، وتقرب الأمة من ساعة الهلاك وإذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة.
والاستبداد مفسد للاقتصاد، لأن كثيرا من الأموال لا تنفق في حقها، ولا توضع في موضعها، بل تذهب لحماية أمن الحاكمين، والتنكيل بخصومهم في الداخل و الخارج، وشيوع ألوان النهب والسرقات، المكشوفة والمقنعة، لأموال الشعب، وانتشار الرشوة باسمها الخاص أو باسم العمولات والهدايا، والتستر على صفقات مريبة يكسب أفراد من ورائها ملايين، ويخسر الشعب من ورائها ملايين.
وإذا قرر الزعيم أمرا، فليس من حق أحد أن يسأله: لم؟ فليس في الشعب أحدٌ مثله ذكاءً وعقل، وحكمة ، فهو العلامة في كل فن، والفهامة في كل شيء وأما من حوله فمهمتهم أن يؤمنوا إذا دعا، وأن يصدقوا إذا تكلم.
من اجترأ واعترض، فيا ويله ماذا يلقى، لأنه باعتراضه يصبح عدو الحرية ولا حرية لأعداء الحرية!
والاستبداد مفسد للأخلاق، إذ لا ينفق في سوق الاستبداد إلا بضائع النفاق والجبن والذل والخنوع، وهي الرذائل التي تقتل العزة في الأنفس، والشجاعة في القلوب، وتميت الرجولة في الشباب، وذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم، يا ظالم فقد تودع منهم" كما قال عليه الصلاة والسلام ،فكيف إذا كان الاستبداد يلقنها كل يوم أن تقول للظالم: أيها البطل المنقذ العظيم؟!
والاستبداد كثيرا ما يتغاضى عن المجرم والمنحرف إذا كان من أنصاره فهو يظله ويستره، فإذا انكشف حماه ودافع عنه، ليعلم أتباعه دوما أن ظهرهم مسنود وأن ذنبهم مغفور.
وشعار الاستبداد دائما: من ليس معنا فهو علينا، أكثر من ذلك: أن يأخذ القاعد المتبطل مكافأة العامل المجد، وأن يعاقب البريء بدل المسيء! وتلك هي الطامة الكبرى.
أيها المسلمون:
يُحدثنا القرآنُ أنَّ سقوطَ الأمم وهلاكَ المجتمعات يبدأ حين يتسلمُ المسئوليةَ حفنةٌ من المترَفين الفَسَقة، أو الإداريِّين الظَّلَمة، أو المجرمين الطُّغاة، فيمارسون من مواقعِ السلطةِ كلَّ أسلوبٍ من شأنِه أن يئولَ إلى إلحاقِ التفكُّكِ والدمارِ بالجماعةِ أو الأمةِ التي ارتضتْهم قادةً لها، فاستبدُّوا بالأمر، واعتبروا رُؤاهم وتشريعاتِهم الذاتيَّةَ القاصرةَ المفكَّكةَ هي الحدود النهائية لموقف الإنسان في العالم، واستخدموا أقصى وأقسى درجاتِ القَسْوة والطَّيْش لِصَدّ قومِهم عن الحقِّ أو الدعوةِ إليه، يُردِّدون مقالةَ فرعون: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (29:غافر).
من أهم أسباب الاستبداد: اغترارُ المستبدِّ بقوتِه وأجهزتِه الأمنيَّةِ، وإعجابه بعقلِه وكياستِه وتفطُّنِه لدقائق الأمور، مع استجهال الناسِ المخالفين له ولرأيه، وقد قيل: "مَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ لَمْ يُشَاوِرْ، وَمَنْ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ كَانَ مِنْ الصَّوَابِ بَعِيدًا".
ومن أسباب الاستبداد كذلك: استصحابُ بطانةٍ من المنافقين الذين يستخفهم فيلوون الحقائق ويُزَيِّنون للمستبد الطغيانَ والإفساد، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: "نِعْمَ الْمُؤَازَرَةُ الْمُشَاوَرَةُ، وَبِئْسَ الِاسْتِعْدَادُ الِاسْتِبْدَادُ".
وقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الاستبداد، وقال: "إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ"[ أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فَضِيلَةِ الإِمَامِ الْعَادِلِ وَعُقُوبَةِ الْجَائِرِ 3/1461 (1830).] هو الذي يضرب الناس ولا يرحمهم، وهو مأخوذٌ من الحَطمْ، ، إذا كان قليلَ الرحمة برعيَّتِه، والذي يسوقهم سَوْقًا شديدًا عنيفًا لا رفقَ فيه، ويأخذهم بالشدة.ودعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الأمير المستبد فقال: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ"[ أخرجه مسلم في الموضع السابق: 3/1458 (1828.]
وذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ المستبدين الظلمةَ من أهل النار، وربط بين الاستبداد السياسي وبين حصول الانحلال الخلقي في الأمة فقال: "صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاَتٌ مَائِلاَتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا"[ أخرجه مسلم في كتاب: صفة جهنم، باب النَّارُ يَدْخُلُهَا الْجَبَّارُونَ 4/1680 ( 2128)..والاستبداد هو رأس أسباب الانهيار للمجتمعات، وكل أسباب الانهيار والسقوط التالية إنما تحصل أساسًا -أو على الأقل تنمو وتزدهر- في أجواء الاستبداد والكبتوقد سُئل مروانُ بنُ محمد آخرُ ملوك بني أمية: ما الذي أضعف مُلْكَك بعد قوة السلطان وثبات الأركان؟ فقال: "الاستبدادُ برأيي".
حين يفرض الحاكم المستبدُّ على الأمةِ ألَّا تسمعَ إلا له، وألَّا تسيرَ إلا خلفه، وحينما يمنعُها أن تبديَ آراءَها، وحين يسلبُها حريَّتَها وكرامتَها، وحين يبيع قضاياها الكبرى رخيصةً لعدوها، وحين يفرض عليها ما يريد، ولا يسمح لها أن تعلنَ رأيَها؛ فلا بد أن تسقط الأمةُ وتنهار، ولا تصمدَ أمام عدو.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. إنك على كل شيء قدير.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله أحاط بكل شيء خبراً، وجعل لكل شيء قدراً، وأسبغ على الخلائق من حفظه ستراً. أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى الناس كافة عذراً ونذراً. صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه.. أخلد الله لهم ذكراً وأعظم لهم أجراً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
عباد الله :
شتَّان بين دولةٍ أساسُ الحكم فيها السجنُ والكرباجُ والتعذيب، ودولةٍ يقول حاكمُها عمر بن الخطاب رضي الله عنه لوُلاته: "يَا أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللهَ عَظَّم حَقَّه فوقَ حقِّ خلقِه، فقَالَ فيما عَظَّمَ مِنْ حقِّه: ﴿وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)﴾ (آل عمران) أَلَا وَإِنِّي لَمْ أَبْعَثْكُمْ أُمَرَاءَ وَلَا جَبَّارِينَ، ولكِنْ بَعَثْتُكُمْ أَئِمَّةَ الهُدَي، يُهْتَدَي بِكُمْ، أدِرُّوا على المسلمين حقوقَهم، ولاَ تَضْرِبُوهم فَتُذِلُّوهُمْ، وَلاَ تُجَمِّرُوهُمْ (أي لا تحبسوهم بغير حق) فَتَفْتِنُوهُمْ، ولا تُغْلِقُوا الأَبْوَابَ دونَهم، فَيَأْكُلَ قَوِيُّهم ضَعِيفَهم، ولا تَسْتَأْثِرُوا عليهم فتَظْلِمُوهُم، ولا تَجْهَلُوا عليهم".
وفي رواية: "إِنِّي لَمْ أَبْعَثْكُمْ جَبَابِرَةً، وَلَكِنْ بَعَثْتُكُمْ أَئِمَّةً، فَلَا تَضْرِبُوا المُسْلِمِينَ فَتُذِلُّوهُمْ، وَلاَ تُجَمِّرُوهُمْ فَتَفْتِنُوهُمْ، وَلَا تَمْنَعُوهُمْ فَتَظْلِمُوهُمْ".
وصدق النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين قال: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِم الحُلَمَاءَ، وَجَعَلَ أَمْوَالَهُمْ فِي أَيْدِي السُّمَحَاءِ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ بَلَاءً اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِم السُّفَهَاءَ، وَجَعَلَ أَمْوَالَهُمْ فِي أَيْدِي البُخَلَاءِ، أَلَا مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فِي حَوَائِجِهِمْ رَفَقَ اللهُ بِهِ يَوْمَ حَاجَتِهِ، وَمَن احْتَجَبَ عَنْهُمْ دُونَ حَوَائِجِهِمْ احْتَجَبَ اللهُ عَنْهُ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ"[ عن ابن عباس وإسناده حسن].أفيمكنُ لظالمٍ متجبِّرٍ مستبِدٍّ عنيدٍ ومظلومٍ محرومٍ أُشرب قلبُه الذُّلَّ وسكنَ إلى الأوضاعِ الفاسدةِ أن يقيما أمةً لها شأنٌ ودولةً لها كيان محترم!!

عباد الله:
الإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان، فتعاليم الدين تنتهي بالناس إلى عبادة ربهم وحده، أما مراسيم الاستبداد فترتد إلى وثنية سياسية عمياء.
لقد تعلم المسلمون من دينهم أن طغيان الفرد في أمة ما جريمة غليظة وأن الحاكم لا يستمد بقاءه المشروع، ولا يستحق ذرة من التأييد، إلا إذا كان معبراً عن روح الجماعة ومستقيماً مع أهدافها
وإنطلاقا من قوله تعالى:﴿ وكذلك نفصل الآيات، ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ قدم القرآن الكريم عرضا شاملا لأهم معالم استراتيجية فرعون رمز الطغيان السياسي في كيفية إدارته للصراع الاجتماعي والسياسي في السيطرة على الوطن والمواطن، والذات والقيم والأشياء، ليحذر منها الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم!!
تبدأ مراحل مواجهة الاستبداد السياسي من قبل المستضعفين في الأرض، بمرحلة النضال السلمي، والمجادلة بالتي هي أحسن، والقول الحسن. كما في قوله تعالى :﴿اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى﴾ ،ولما كانت صورة المستبد عند الناس هي صورة البطش والإرهاب، فقد أجاب موسى وهارون ﴿… إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى﴾[ طه 45 ]،وذلك لأنه يملك مقاليد الأمور كلها بيده، من سلطة وأموال يسخرها الحاكم المستبد وبطانته لاستعباد الناس وإذلالهم، كما في قوله تعالى: ﴿وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم﴾ –يونس 88- أي أن عقوبتهم ليست في الآخرة فقط، وإنما في الحياة الدنيا، وعلى أيدي المستضعفين في الأرض.ونجد أن الحاكم المستبد يواجه هذا القول اللين لتحرير الناس من العبودية بالتكذيب أولا، وبالتشكيك في النوايا، كما قوله تعالى ﴿وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون، ألا يتقون * قال رب إني أخاف أن يكذبون﴾الشعراء 10-12. لكن الدعوة بالقول اللين، في مرحلتها السرية، تكسب بعض الأنصار من البطانة نفسها، نراها في قوله تعالى ﴿وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه…﴾ –غافر 28- .
كما نرى أن موقف الأنصار المؤمنين سرا، موقف وسط وحياد، يأخذه كثير من الناس في هذه المرحلة، نجده في قوله تعالى ﴿… وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصيبكم بعض الذي يعدكم.. ﴾ –غافر 28- لكن هذا الموقف ينقلب إلى مواجهة علنية، بعد إيمان السحرة، وانتشار الدعوة.
هنا ينتقل الحاكم المستبد من التكذيب إلى ابطش والإعدام، كما في قوله تعالى ﴿فلما جاءهم بالحق من عندنا قاولا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال * وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد﴾ غافر 25 و26. ولكن من هؤلاء الذين (قالوا اقتلوا)؟ لقد جاء الجواب في غافر 23 و24 بقوله تعالى ﴿ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب﴾.فالذي اتخذ قرار القتل ثلاثة هم فرعون رأس السلطة السياسية، وهامان رأس السلطة الدينية، وقارون ممثل الأغنياء، وأغنى واحد فيهم.
فالتحالف غير المقدس قائم بين هذه السلطات الثلاث لقمع المطالبة بالحرية والتحرير، ولكن رأس السلطة السياسية المستبدة هو المنفذ لرغبات هذه السلطات الثلاث،

عباد الله :
للاستبداد علامات ومعالم :فأول هذه المعالم: الاعتماد على الكذب والتدجيل، وتجاهل الحقائق والحقوق، والتملص من الواجبات ﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا.. ﴾.
ثانيا:التعذيب، والقتل، والسحل، وانتهاك الأعراض هي اللغة الحقيقية في منطق فرعون، وهي نظريته الأسمى في التعاطي مع المخالفين له في الرأي. وقد يتحول الطاغية تكتكيا إلى بعض الاختيارات الفكرية لأحتواء مخالفيه، ولكن منطقه الاستراتيجي السحق والسحل والتهميش هو الثابت والمعتمد﴿..إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، ويذبحون أبناءكم ، ويستحيون نساءكم.. ﴾.
ثالثا: من منطق الطغاة تمزيق النسيج الاجتماعي بضرب قيمه الاجتماعية، وتقسم المجتمع إلى شرق وغرب، وموالين ومعادين، وأغنياء وفقراء، ومتعلمين وجهلاء، ومن ثم تقسيم معارضيه إلى قوى متناحرة ومتنافرة، وتحويل أفكارهم إلى أفكار غثائية، وآلياتهم إلى أليات بالية. وفرعون بهذا المنطق يبث الفوضى ويثير دوافع الاحتراب بين طبقات المجتمع الممزق﴿ إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم.. ﴾.
رابعا: يترتب على هذا المنطق؛ منطق تمزيق النسيج الاجتماعي قيما وفكرا إلى تشبع نفسية الطاغية بالفرعونية، والشعور بالسيطرة التامة، والملكية الكاملة للوطن والمواطنين، ومن ثم فهو صاحب الحق المطلق في التصرف فيما يملك بدون مساءلة ولا مراجعة﴿ ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي، أفلا تبصرون﴾.
خامسا: وبهذه الملكية المطلقة ومطلق الملكية للوطن والمواطن يرى فرعون أنه صاحب الحق في صبغ الوطن والمواطنين بأفكاره ونظريته في كل قضية كبيرة أو صغيرة؛ سياسية أو اجتماعية، دينية أو دنيوية. وهو بذلك لا يستحى من أحد فكل الذوات والقيم والأشياء من ممتلكاته﴿ قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ﴾.
هذا وصلوا وسلموا على نبي الهدى ودين الحق، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.


أمير بن محمد المدري
إمام وخطيب مسجد الايمان -اليمن

 

أمير المدري
  • كتب وبحوث
  • مقالات ورسائل
  • خطب من القرآن
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية