اطبع هذه الصفحة


زيارة إلى بيت المصطفى (2-3)

د.أمير بن محمد المدري


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله بارئ النَّسم وخالق الخلق من عدم, نجي نوحاً في السفينةِ من الغرقِ الذي عم, وسلَّم موسي من طغيان فرعونَ ونجاه من اليم, وأشهد أن لا اله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له شهادة من آمن به وأسلم وانقاد واستسلم, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ونبيه وخليله، وأمينه على وحيه، قرن الله ذكره بذكره علي لسان كل ذاكر, وشَرُفت برسالته المنائر والمنابر, اللهم صلّ وسلم علي محمدٍ وعلي آله الأطهار الأبرار وصحبه المصطفين الأخيار .

يارب احشرنا في زمرته، واعنا على اتباع سنته، ,وأوردنا حوضه.
هذا هو اللقاء الثاني مع تلك الرحلة الماتعة، والزيارة المباركة التي عشنا جزءًا منها بين جَنَبات بيت النبي المصطفى، ذلك البيت الرائع الجميل الذي عاش بين جدرانه أفضل وأكمل وأعظم زوج وطئت قدمه الأرض عليه الصلاة والسلام، عاش فيه مع تسع نسوة هن زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. بيت الطهر والنقاء بيت الإيمان والصفاء، بيت ينزل إليه وحي السماء.
كان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يحب المرأة. . إنسانا ً. . وأُمّا ً. . وزوجة. . وبنتاً. . وشريكة في الحياة.
ها هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يحدثنا عما علمه وسمعه وشاهده فيقول: كنا ـ معشر قريش ـ نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخِبتُ على امرأتي فراجعتني ـ أي: ردت علي القول وناظرتني فيه ـ فأنكرت أن تراجعني، قالت: ولِمَ تنكر أن أراجعك؟ ! فوالله، إن أزواج النبي ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم إلى الليل، فأفزعني ذلك، وقلت لها: قد خاب من فعل ذلك منهن، ثم جمعتُ عليّ ثيابي فنزلت فدخلتُ على حفصة ابنتي ـ زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ فقلتُ لها: أي حفصة، أتغاضب إحداكن النبي اليوم حتى الليل؟ ! قالت: نعم، قلت: قد خبت وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلِكي؟ ! الحديث، [أخرجه البخاري].
أيها الأحباب: لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحاكم السياسي، والقائد العسكري والمفتي الشرعي، والزوج المثالي، والأب القدوة في بيته- -صلى الله عليه وسلم- - نعم فالإسلام دين ودولة وخلق وعلم، ودنيا وآخرة.
ولم يحول النبي - -صلى الله عليه وسلم- - بين أهله وبين ما أباح الله تعالى فمن ذلك ما ترويه عائشة -رضي الله عنها- أنها قَالَتْ: ©خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأنا خَفِيفَةُ اللَّحْمِ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: تَقَدَّمُوا ثُمَّ قَالَ لِي: تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ فَسَابَقَنِي فَسَبَقْتُهُ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ فِي سَفَرٍ آخَرَ، وَقَدْ حَمَلْتُ اللَّحْمَ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: تَقَدَّمُوا ثُمَّ قَالَ لِي: تَعَالَيْ أُسَابِقُكِ فَسَابَقَنِي فَسَبَقَنِي فَضَرَبَ بِيَدِهِ كَتِفِي وَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ» [أخرجه أحمد [6/ 39]، وأبو داود [3/ 29- 30]، كتاب الجهاد: باب في السبق على الرجل، حديث [2578]، والنسائي في "الكبرى" [5/ 303- 305]، كتاب عشرة النساء].
أخلاقٌ عالية، ومعاملةٌ مثالية راقية، رسول الله رئيس الدولة يتسابق مع زوجته؛ ليدخل عليها السرور والفرحة، ليسمو بالحياة الزوجية لتكون أقدس علاقة وأقوى رباط، لا تزيدها العواصف والمشاكل الزوجية إلا قوة إلى قوتها.
أخي القارئ:
إن بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يخلو مما يكون بين الضرائر من النزاع والشقاق والتنافس، ومع هذا كان مثالاً للزوج الحكيم الحليم الذي لا تأخذه العزة بالإثم أو يعجل في العقاب، أخرج البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أن نساء رسول الله كُنّ حزبين، فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسَوْدة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله عائشة -رضي الله عنها- ، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله أخّرها، حتى إذا كان رسول الله في بيت عائشة بعث صاحب الهدية إلى رسول الله في بيت عائشة، فكلّم حزبُ أم سلمة فقلن لها: كلمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكلم الناس فيقول: «من أراد أن يهدي إلى رسول الله هدية فليهدها حيث كان من بيوت نسائه»، فكلمته أم سلمة بما قلن فلم يقل لها شيئًا، فسألنها فقالت: ما قال لي شيئًا، فقلن لها: فكلّميه، حتى تكرر ذلك ثلاثًا فما زاد أن قال لها: «لا تؤذيني في عائشة؛ فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة»، فقالت: أتوب إلى الله من ذاك يا رسول الله، ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله فأرسلت إليه تقول: إن نساءك يُنشدنك العدل في بنت أبي بكر، فقال: »يا بُنيّة، ألا تحبّين ما أحب؟ ! « قالت: بلى، فرجعت إليهن فأخبرتهن، فقلن لها: ارجعي إليه فأبت، فأرسلن زينب بنت جحش فأتته فأغلظت وقالت: إن نساءك يُنشدنك الله العدل في بنت ابن أبي قُحَافة، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة -رضي الله عنها- وهي قاعدة فسبّتها، حتى إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لينظر إلى عائشة -رضي الله عنها- هل تكلّم، فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها، قالت: فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عائشة وقال: «إنها بنت أبي بكر»[ أخرجه البخاري 3/204 ].
انظر ـ يا رعاك الله ـ كيف عرف رسول الله طبيعة المرأة وضعفها في المواقف وسرعة ثورتها، حتى إنها لم تدرك وصفها لرسول الله بترك العدل، بل وأسرعت إلى عائشة وسبّتها ورسول الله جالس، بل وأغلظت القول للنبي -صلى الله عليه وسلم- بأكثر من ذلك، وعلى الرغم من هذا كله لم يؤاخذها ولم يعاتبها، بل ترك المجال لعائشة أن تدافع عن نفسها، وعفا هو عن حقّه-صلى الله عليه وسلم- .
وأخرج البخاري عن أنس -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصَحْفَة فيها طعام، فضربت التي النبيُ في بيتها يدَ الخادم، فسقطت الصَّحْفَة فانْفَلَقت، لو كنت أنت أخي الحبيب قل لي ماذا ستفعل؟
ثم جمع النبي فِلَقَ الصَّحْفَة، وجعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصَّحْفَة، ويقول: »غارت أمُّكم«. ثم حبس الخادم حتى أُتِي بصَحْفَة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصَّحْفَة الصحيحة إلى التي كُسِرت صَحْفَتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرت.
فلله درّه من مُربّ، عدلٌ في التعامل، ورفقٌ بالجاهل، لا صراخ ولا تهديد ولا وعيد، فسبحان من أدّب نبيه فأحسن تأديبه.
بيت كريم فيه تُغرس الأخلاق، ويُعلم فيه تعاليم الدين، والقيم النبيلة.
فعن أنس -رضي الله عنه- قال: © بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: قالت لي حفصة إني بنت يهودي، فقال النبي- -صلى الله عليه وسلم-- ©: إنك لابنة نبي، وإن عمك نبي، وإنك لتحت نبي ففيم تفخر عليك؟ ثم قال: اتقي الله يا حفصة ® [أخرجه أحمد 3/135 (12419). وعبد بن حميد (1248). والترمذي (3894)].
وسمع عائشة تغار من حفصة وتقول حسبك من صفية كذا وكذا تعني أنها قصيرة فقال: ©لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته® [صحيح الجامع 5140. ].
وروى الإمام أحمد وصححه الألباني عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: جاء أبو بكر يستأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- , فسمع عائشة و هي رافعة صوتها على رسول الله - -صلى الله عليه وسلم--? فأذن له , فدخل , فقال لها وهو غاضب: يا عائشة أترفعين صوتك على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-?! وأراد ضربها : فحال النبي بينه و بينها. قال: فلما خرج أبو بكر جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها - يترضاها -ألا ترين اني قد حلت بينك وبين أبيك® .
الرسول - -صلى الله عليه وسلم-- خير من مشى على الأرض يترضى زوجته فلما كلمها ضحكت قال: ثم جاء أبو بكر فاستأذن عليه , فوجده يضاحكها , فأذن له , فدخل , فقال له أبو بكر: ©يا رسول الله! أشركاني في سلمكما , كما أشركتماني في حربكما ®. وضحك الثلاثة في بيت من؟ في بيت محمد - -صلى الله عليه وسلم-- ألا يستحق أن يقول الله عنه: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [القلم: 4].
كان --صلى الله عليه وسلم-- إذا غضبت زوجته وضع يده على كتفـها وقال»: اللهم اغفر لها ذنبـها وأذهب غيظ قلبها، وأعذها من الفتن. «أرئيتم مثل هذا الحب والعاطفة؛ إنه المصطفى الذي رفع شعار لأمته: ©خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي«[صحيح، أخرجه الترمذي: كتاب النكاح - باب حسن المعاشرة (1977)، وابن حبان: كتاب النكاح - باب معاشرة الزوجين - ذكر استحباب الاقتداء بالمصطفى. . . حديث (4177). قال البوصيري في زوائد ابن ماجه: هذا إسناد ضعيف. . . ولكنه ذكر شواهد له (2/117، 118)، وصححه الألباني بشواهده. في السلسلة الصحيحة (285)].

لقد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمثلة رائعة من خلال حياته اليومية في التعامل مع المرأة كزوجة . . فنجده:

أولاً: يمتدحها فمن أعظم ما يكسب قلب المرأة أماً وأُختاً وزوجة المدح يقول: -صلى الله عليه وسلم- »إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». [ صحيح البخاري: كتاب المناقب (3769، 3770)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2431، 2446) عن أبي موسى الأشعري وعن أنس بن مالك . ]
ثانياً: ينظر إلى محاسنها ويتغافل عن مساوئها: لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة إن كره منها خُلقاً رضي منها آخر «. [ صحيح مسلم ح (1469). ]
ثالثاً: لا ينشر خصوصياتها: قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن من أشر الناس عند الله منزله يوم القيامة الرجل يفضى إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها. «[ أخرجه أحمد (3/69)، ومسلم (1437) بمعناه، وفي إسناده: عمر بن حمزة العمري. قال ابن حجر في التقريب (4918): ضعيف. وضعف هذا الحديث الذهبي في ميزان الاعتدال (3/192). وانظر آداب الزفاف للألباني ص (142). ]
رابعاً: يعرف مشاعرها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة -رضي الله عنها- : «انى لأعلم إذا كنت عنى راضية وإذا كنت عنى غضبى. . أما إذا كنت عنى راضية فانك تقولين لا ورب محمد وإذا كنت عنى غضبى قلت: لا ورب إبراهيم» [(مسلم 2439). ]
خامساً لا يضربها، ولا يهنها، قالت عائشة -رضي الله عنها- »: ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأة له قط» [صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2328)].
لقد عاشت زوجاته معه عليه الصلاة والسلام عيشةً كريمة ملؤها الحب والوئام فلا صخب بينهم ولا صراخ ولا عنف ولا إهانة.

إليكم بعض الإحصائيات مما تعانيه المرأة في بلاد الغرب الذين يدّعون حقوق المرأة، فمثلا بريطانيا تستقبل شرطة لندن وحدها مائة الف مكالمة سنويا من نساء يضربهن أزواجهن على مدار السنين الخمس عشرة الماضية، و79% من الأمريكيين يضربون زوجاتهم، و 83% دخلن المستشفى مرة واحدة على الأقل للعلاج من أثر الضرب ومليوني فرنسية يضربهن أزواجهن سنويا فأين حقوق المرأة المزعومة.
عباد الله: إن العلاقة بين الزوجين لا تنقطع بالموت، بل يبقى حبل الود بإكرام أهل ود الزوج أو الزوجة حتى بعد موته، ولنا في نبينا الأسوة الحسنة في مثل هذا.
تقول عائشة -رضي الله عنها- كما عند مسلم: ما غِرْتُ للنبي -صلى الله عليه وسلم- على امرأةٍ من نسائه ما غِرْتُ على خديجة؛ لكثرة ذكره إياها، وما رأيتها قط.
وكان رسول اللّه إذا ذبح الشّاة يقول: «أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة»، قالت: فأغضبته يومًا فقلت: خديجة -رضي الله عنها- ! فقال رسول اللّه: «إنّي قد رُزِقت حُبّها«[ صحيح مسلم: ج4/ص1888 ح2435]
واستأذنت هالة بنت خويلدٍ أخت خديجة على رسول اللّه، فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك فقال: »اللّهمّ هالة بنت خويلدٍ«، فغِرْت فقلت: وما تذكر من عجوزٍ من عجائز قريشٍ، حمراء الشّدقين، هلكت في الدّهر، فأبدلك اللّه خيرًا منها؟ ! زاد الإمام أحمد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: »ما أبدلني الله خيرًا منها؟ ! قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد النساء»[ أخرجه أحمد (6/117، رقم 24908) قال الهيثمي (9/224): إسناده حسن ] .
الله أكبر انظروا إلى الوفاء المحمدي.
عباد الله: نحن بحاجة إلى أن نعود ونلتصق بسيرة وحياة النبي --صلى الله عليه وسلم- لنحيا حياة طيبة مباركة
زيارتنا لبيت النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تنتهي بعد وللحديث بقية .

زيارة إلى بيت المصطفى (3-3)
 

أمير المدري
  • كتب وبحوث
  • مقالات ورسائل
  • خطب من القرآن
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية