اطبع هذه الصفحة


وصايا للخطباء(10) : صلة الخطيب بالله

د.أمير بن محمد المدري


بسم الله الرحمن الرحيم


تذكر أنك إنما تخطب وتتكلم بحول الله تعالى وقوته، فإن شاء جل وعلا أطلق لسانك، وإن شاء عقده، ولو وكلك الله إلى نفسك لعييت وعجزت.

إن حنجرتك التي هي وعاء خروج الأصوات، ولسانك وشفتيك وأسنانك التي تصيغ الحروف والنغمات، إنما هي خلق من خلق الله تعالى: (الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ )[فصلت: 21].

واعلم أن الله معك. . شاهد ومطلع عليك. . نظره أسبق من نظر المخاطبين إليك. فاعتصم بالله، وليكن لك في نبي الله موسى –عليه السلام- أسوة حسنة حيث ﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﯜ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ﯠ يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ [طه: 25-26].

ولابد أن تدرك أن أول أساسيات النجاح حسن الصلة بالله تعالى وعظيم الإيمان به وجميل التوكل عليه والخوف منه، وهكذا كان السلف الصالح عندما أخلصوا لله كان سمتهم ورؤيتهم موعظة مؤثرة، وأن الواحد منهم ليقول الكلمة يهدي بها الفئام من الناس، فقوة الصلة بالله تجلب التوفيق والتأثير في الآخرين كما كان الرجل الصالح محمد بن واسع إذا رؤي ذُكر الله.

والصلة بالله هي الصلة التي إليها يفيء الداعية ويرجع، وعليها يعتمد ويعوِّل، ومنها يستمد ويقتبس، ولها يدعو ويبتهل، وعندها تجد نفسه راحتها وعزاءها.

والشيخ الغزالي في كتابه «مع الله» يسميها «الدعامة الأولى في أخلاق الدعاة»، ولا يجوز عنده أن ينفك هذا الخلق عن داعية من الدعاة؛ إذ كيف تدعو الناسَ إلى أحد وصِلَتك به واهية ومعرفتك به قليلة؟ ويشهد التاريخ أنه ما من نبي أو داعية أو مصلح إلا وكان له من حسن الصلة بالله النصيب الأوفر والقدح المعلَّى، وكانت صلته بالله قوية لا تخبو، حاضرة لا تغيب.

وإذا كان حسن الصلة بالله مطلبا ضروريًّا لكل مسلم، فكيف يكون حكمها في شأن الداعية؟
«إن الدعاة الذين يكرسون أوقاتهم لله، ولدفع الناس إلى سبيله وصفِّهم في طريقه لا بد أن يكون شعورهم بالله أعمق، وارتباطهم به أوثق، وشغلهم به أدوم، ورقابتهم له أقوى وأوضح. وهذه الصلة تشمل في موكبها أرقى ما في الحياة، وأهم أسباب النجاة؛ ولهذا حقٌّ على الدعاة ألا يهنوا في الحياة، وألا يهونوا، وألا يعدلوا بنسبتهم إلى الله شيئا، وأن ينظروا إلى الحياة على أنهم أكبر منها، وأن تغلب رؤيتهم لله كل ما يملأ العين في زحام الأحياء وتكاثرهم»[ محمد الغزالي، مع الله].

الخطيب الناجح في سيره لإعلاء كلمة الله، وبيان شرعه ونشر سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأمره الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر، يمضي ذلك الداعية وقد وطنَّ نفسه على الجادة، وجاهدها على هوى المـادَّة، وعلمها أخلاقها ونقاها من أدرانها، وأدبها فأحسن تأديبها على منهاج النبيين وسنة سيد المرسلين وطريقة السلف ومن بعدهم من الخلف الصالحين المصلحين. فيغدوا صادق النية، شامخ الهمة، عظيم العزيمة، قد أحاط نفسه بمراقبة الحكيم العليم، وحصر همه أن يرضى عنه العزيز الرحيم، ورطب لسانه بذكر الملك الكريم، وملئ قلبه حب رب العالمين.

«إن الداعية حين تمتلئ نفسه بتقوى الله، وحين يستحضر في قلبه مراقبته وعظمته، وحين يواظب على التلاوة تدبراً وخشوعاً وحين يكون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- تخلُّقاً واقتداءً، وحين يصاحب الأخيار من أهل القلوب والمعرفة أخذاً منهم واكتساباً، وحين يذكر الله تعالى على الدوام تثبيتاً واطمئناناً، وحين يستمر في عبادة النافلة تقربَّاً وخشوعاً.

الداعية حين يكون بهذه الأحوال وهاتيك المجاهدات. . فإذا خطب أو تحدث أو دعا إلى الله رأيت الإيمان يبرق من خلال عينيه، والإخلاص يشرق من تقاسيم وجهه، والصدق يتدفق من حنان صوته، وخشوع لهجته. . . بل كلامه يسري في القلوب، ويبدّد ظلام النفوس. . كما يسري الماء البارد في النفوس العطشى. . أولائك الذين هدى الله فبهداهم يهتدي الخلق، وبدعوتهم يستجيب الناس، وبموعظتهم تخفق القلوب، وتذرف العيون، وبتذكيرهم يتوب العاصي، ويهتدي الضال»[«سلسلة مدرسة الدعاة» (1/218) عبد الله ناصح علوان – دار السلام] .

تلك بعض معالم روحانية الخطيب والداعية، لا يجدها وربي إلا من وضع الإخلاص نُصب عينيه، وإتقان العمل وعمل المستحيل لهذه الدعوة من أولويات حياته، عندها سيجد أنه من تلقاء نفسه قد أصبح كالعاشق لهذه الدعوة لا لشيء. . وإنما لأنه حبيب الله.

الخطيب الناجح: تجتمع فيه جوانب ثلاثة رئيسية:

أ‌- التأهيل العلمي والمعرفي وهذا ما ذكرناه في ثقافة الخطيب.
ب‌- التأهيل الروحي والأخلاقي بحيث يمتلك الخطيب الشحنة الإيمانية والجرعة الأخلاقية اللازمة للتأثير في الناس.
ج‌- التأهيل المهاري والفني المرتبط بأساليب الإقناع وطرائق الخطابة كتنويع نبرات الصوت ونحوه.

وصايا للخطباء (11) : التميز بالعزائم والطاعات

 

أمير المدري
  • كتب وبحوث
  • مقالات ورسائل
  • خطب من القرآن
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية