اطبع هذه الصفحة


تأملات في سورة فاطر

أمير بن محمد المدري
إمام وخطيب مسجد الإيمان – اليمن

 
الحمد لله الذي أنزل كتابه الكريم هدى للمتقين، وعبرة للمعتبرين، ورحمة وموعظة
للمؤمنين، ونبراساً للمهتدين، وشفاءً لما في صدور العالمين، أحمده تعالى على آلائه، وأشكره على نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحيا بكتابه القلوب، وزكى به النفوس، هدى به من الضلالة، وذكر به من الغفلة، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي كان خلقه القرآن فصلوات الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيها من القول والعمل، ورضي الله عن جنده وحزبه، ومن ترسم خطاه وسار على نهجه، ما تعاقب الجديدان، وتتابع النيران، وسلم تسليماً كثيراً

أما بعـد عباد الله إن كل مشكلة وكل معضلة وكل ضيق وكرب سلاحه بالإيمان والتقوى
قال جل وعلا
((وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ))آل عمران120
((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ))الطلاق2
((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ))الطلاق4
((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ))الطلاق5
((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ))الاعراف 96
هذا وعد الله ومن أصدق من الله قيلا ومن أصدق من الله حديثا .
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين الأبرار .

عباد الله
سنقف وإياكم مع آيات من سورة مباركة أنها سورة فاطر إنها سورة مكية ، تنطلق لتحقق أهداف السورة المكية فتبني العقيدة وتغرس مكارم الأخلاق وتتحدث عن توحيد الملك

الخلّاق – جل وعلا –
تبدأ السورة المباركة بالحمد لله الكلمة العظيمة المباركة كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم ((والحمد لله تملأ الميزان)) .
تبدأ السورة بالحمد لله كما بدأت سورة الأنعام والفاتحة والكهف وسبأ .
((الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) الفاتحة
(( الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ{1})) الانعام
((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ{1}))
فما ذُكر الله بأفضل من الحمد فالحمد كله راجع إلى الله وحده
والحمد لله هي العبادة الوحيدة التي تستمر في الآخرة ففي جنة الله يقول المؤمنون كما قال تعالى : (( وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفورٌ شكور
الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصبٌ ولا يمسنا فيها لغوب )). فاطر
( وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) الاعراف
الله أكبر فأهل الجنة لا يصلون ولا يصومون ولكنهم يحمدون الله ويلهمون التحميد كما يلهمون النفس .

عباد الله : المؤمن يحمد الله على كل حال وبالتالي لا يحزن عليه حبيب لأنه يأتيه دائماً وهو حامدٌ لله عز وجل لا يشكو حاله ولا يشمت عليه عدو لأنه حامد راضي بما قسم الله له وبما ابتلاه .
((الحمد لله فاطر السماوات والأرض)) فهو سبحانه مبدع وخالق السماوات والأرض على غير مثال منشئ هذه الخلائق كلها التي نرى بعضها من فوقنا ومن تحتنا والتي لا نعرف منها إلا القليل .

أيها المسلمون لا يحتاج القلب الموصول بالله الى علم دقيق بمواقع النجوم في السماء وأحجامها ومساراتها ليستشعر الرهبة والروعة في هذا الخلق العظيم
المؤمن يكفيه مشهد واحد ليوّحد الله ويحمده ويسبحه مشهد النور الفائض في الليلة الظلماء أو مشهد الغروب الزاحف في الظلام . الموحي بالوداع والانتهاء .
بل يكفي المؤمن زهرة واحدة يتأمل في ألوانها واصباغها وتشكيلها وتنسيقها ليسّبح الله المبدع .
تأمل في نبات الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصـات *** بأحداق هي الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شاخصاتٍ *** بأن الله ليس له شريــكُ
فيا عجباً كيف يعصى الإلـه *** أم كيف يجحده الجاحــدُ
وفي كل شيءٍ له آيــةٌ *** تدل على أنه الواحــد
((الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة)) بعضهم له جناحان ووبعضهم له أربع يزيد في الخلق ما يشاء .
من فخامة الأجسام وتفاوت الأشكال والأجنحة .
قال تعالى : ( فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون ) فصلت
وقال تعالى : ( عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) التحريم
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل ليلة الإسراء وله 600 جناح بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( أطّت السماء وحُق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد لله وراكع .. )
عباد الله إن لله ملائكة منذ خلقهم ساجدون ولله ملائكة منذ خلقهم وهم راكعون فإذا ما قامت القيامة قالوا يارب سبحانك ربنا ما عبدناك معه عبادتك
سبحانك ربنا ما شكرناك من شكرك
سبحانك ربنا ما قدرناك حق قـدرك
سبحانه جل وعلا يزيد في الخلق ما يشاء
خلق آدم من غير أبٍ ولا أم
خلق حواء من أب بدون أم
خلق عيسى من أم بلا أب
خلقنا جميعاً من أم وأب
وجعل أماً وأباً ولكن يجعل من يشاء عقيماً
فالله يزيد في الخلق ما يشاء يزيد من بعض الجوارح عند بعض الناس ما يشاء يعلم أكثر مما يعلم النـــاس
فمن الناس من يسمع أكثر ما يسمع الناس
يـرى أكثر مما يــرى النـاس
يشـم أكثر مما يشـم النــاس
سبحان من قسم الحظوظ
فلا اعتراض ولا ملامة .
أعمــى وأعشــى وبصير
ورزقـــــاء اليمامــــة
قال تعالى : (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)2
نعم أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا مانع لما أعطى ولم معطى لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد .
عباد الله هذه الآية حين تستقرفي قلب المؤمن سيتم التحول العجيب في كل شيء لأن هذه الآية تقطعه عن كل قوّة في السماوات والأرض وتصله بقوة الله وحده و تُيّئسه من كل من في السماوات والأرض وتصله برحمة الله .

هذه الاية عباد الله تغلق أمام العبد كل باب في السماوات والأرض وتفتح أمامه باب الله الذي يملك كل شيء وبيده خزائن كل شيء له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه واشهد ان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الداعي إلى رضوانه وعلى اله وصحبه وجميع أخوانه
وبعد

عباد الله :
ورحمة الله تتجلى في كل شيء ينام الإنسان على الشوك مع رحمة الله فإذا هو مهاد فيه كل الرحة وينام الإنسان على الحرير وقد أمسكت عنه رحمة الله فإذا هو شوك وألــم .
سبحان الله يعالج الإنسان أعسر الأمور مع رحمة الله فإذا هي أيسر الأمور وقد تخلت عنه رحمة الله فإذا هي من أعسر الأمور وأشقّها مع رحمة الله فإذا هي أيسر الامور ويعالج أعسر الامور وقد تخلت عنه رحمة الله فإذا هي من أشق الامور وأعسرها

عباد الله إعلموا أنه لا ضيق مع رحمة الله لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب الجب أو في شعاب الهلاك .
فهؤلاء أصحاب الكهف خروجوا من قصورهم التي ما وجدوا فيها رحمة الله وانطلقوا في رحاب الله إلى الكهف قال تعالى : (( فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً )).
هاهو ابن القيم يقول : كنا إذا ضاقت علينا الدنيا انطلقنا إلى شيخ الاسلام ا بن تيمية وهو في سجنه فنستمع إلى ذكر الله فيفّرج الله علينا همنا .
شيخ الاسلام ابن تيمية الذي حُبس وسُجن والسجان يغلق الباب وهو يقرأ قول تعالى ((فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ))الحديد13 ابن تيمية الذي قال : ( ما يفعل أعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري وصدري في يدي ربي )
عباد الله : المال والولد والزوجة والقوة والجاه والسلطان تصبح مصادر قلق وتعب ونكد إذا أمسكت عنها رحمة الله
فإذا فتح الله ابواب رحمته كان فيها السكن والسعادة والطمانينة
يبسط الله الرزق مع رحمته فإذا هو متاع طيب ورخاء في الدنيا وزاد في الاخرة ويمسك رحمته جل وعلا فإذا الرزق مصدر قلق وحسد وبغضٍ وبخل .

يمنح الله الذرية مع رحمته فإذا هي في الحياة زينة ومصدر فرح واستمتاع ومضاعفة الاجر وخلف صالح ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء نكد وشقاء وتعب

يهب الله القوّة والصحّة مع رحمته فإذا هي نعمة وحياةٌ طيبة وتلذذ بالحياة ويمسك رحمته فإذا الصحة والقوّة بلاء يحطم الجسم ويفسد الروح
اللهم امنحنا رحمتك في كل شيء
يعطي الله السلطان والجاه مع رحمته فإذا هما أداة إصلاح ومصدر أمن ويمسك رحمته فإذا هما مصدر قلق على فوتهما ومصدر طغيان وبغيٌ بهما
رحمة الله وجدها ابراهيم عليه السلام وهو في النار ((قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ))الأنبياء69
النار سبب والله رب الاسباب النار تحرق لكن الله جعلها لا تحرق
رحمة الله وجدها يوسف عليه السلام وهو في غيابت الجُب
رحمة الله وجدها يونس عليه السلام وهوفي ظلمات ثلاث في بطن الحوت وفي ضظلمة البحر وفي ظلمة الليل فأنطلق بالتسبيح ((فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }الأنبياء87
رحمة الله وجدها كليم الله موسى وهو طفل مجرّد من كل قوّة في اليم لكن معه رحمة الله ترعاه
عباد الله لو غرست هذه الحقيقة في قلب المومن لاصبح كالطود الشامخ أمام كل شيء لا يخاف أحداً إلا الله ولا يرجو إلا ثواب الله ولا يسأل أحداً إلا الله ولا يستعين الا بالله شعاره ((وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ))يونس107
نعم إنها أية واحدة من القران تفتح طريقاًللنور وتفجر ينبوعاًمن الرحمة وتشق طريقاًممهداًالى الرضا والثقة والطمانينة والسعادة

ايها المسلمون رحمة الله وسعت كل شيء لكن لا تُنال هذه الرحمة إلا بأمور منها
أولاً الاحسان في كل شيء الاحسان في العبادة الاحسان في الصلاة ان تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
الإحسان في المعاملة مع الناس وخي إحسان الى الناس دعوتهم الى الخير قال تعالى ((إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ))الأعراف56
ثانياً تنال رحمة الله بالتقوى والزكاة والايمان بالله واتباع محمد صلى الله عليه وسلم
قال تعالى ((وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ{156} الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ )) الاعراف
ثالثا تُنال رحمة الله برحمة الاخرين فالراحمون يرحمهم الرحمن ومن لا يرحم لا يُرحم
ولقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لاناس بالرحمة منهم

قال صلى الله عليه وسلم ((رحم الله رجلا سمحاً إذا باع سمحا إذا اشترى سمحاً إذا قضى سمحا إذا اقتضى ))
قال صلى الله عليه وسلم ((رحم الله رجلا صللى قبل العصر أربعا))
اللهم ارحمنا اجمعين وادخلنا في رحمتك وامنحنا رحمتك في كل شيء وادخلنا دار رحمتك يارب العالمين
اللهم اغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك وبطاعتك عن معصيتك
اللهم قوي إيماننا وارفع درجاتنا وتقبل صلاتنا يارب العالمين
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير محمد صلى الله عليه وسلم
وعلى وصحبه من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
 

أمير المدري
  • كتب وبحوث
  • مقالات ورسائل
  • خطب من القرآن
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية