اطبع هذه الصفحة


ثلاثون باباً للرزق
الباب الرابع:
كيل الطعام عند البيع

أنور إبراهيم النبراوي
@AnwarAlnabrawi


عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ»[1]. أي: أخرجوا بكيلٍ معلوم يبلغكم إلى المدة التي قدرتم، مع ما وضع الله من البركة في مد أهل المدينة بدعوته صلى الله عليه وسلم[2].
ويحمل على الطعام الذي يُشترَى، فالبركة تحصل فيه بالكيل لامتثال أمر الشارع، وإذا لم يمتثل الأمر فيه بالاكتيال نزعت منه لشؤم العصيان.
قال ابن الجوزي: يشبه أن تكون هذه البركة للتسمية عليه عند الكيل[3].
وقال ابن بطالٍ: الكيل مندوبٌ إليه فيما ينفقه المرء على عياله.
 ويحتمل أن تكون البركة التي تحصل بالكيل بسبب السلامة من سوء الظن بالخادم، لأنه إذا أخرج بغير حسابٍ قد يفرغ ما يخرجه وهو لا يشعر، فيتَّهِم من يتولى أمره بالأخذ منه، وقد يكون بريئًا، وإذا كاله أمن من ذلك[4].
وقيل: المراد أن يكيله منه لأجل إخراج النفقة منه، بشرط أن يبقى الباقي مجهولًا، ويكيل ما يخرجه لئلا يخرج أكثر من الحاجة أو أقل[5].
فقوله: (يُبَارَكْ لَكُمْ) قال المحب الطبري: إذا ادخرتموه طالبين من الله البركة واثقين بالإجابة، فكان من كاله بعد ذلك إنما يكيله ليتعرف مقداره، فيكون ذلك شكًّا في الإجابة، فيعاقب بسرعة نفاده، فإن الكيل عند المبايعة مطلوبٌ من أجل تعلق حق المتبايعين، فلهذا القصد يندب[6].
 وأمَّا الكيلُ عند الإنفاق فقد يبعث عليه الشح فلذلك كُره.
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا، حَتَّى كَالَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ، وَلَقَامَ لَكُمْ»[7].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لَقَدْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ، حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ»[8].
 
إضاءة

عند التأمل نجد أن الرزق يأخذ أشكالا مختلفة، وألوانًا متعددة، وآفاق رحبة؛ ليشمل كل ما ينتفع به الناس:
فيطلق الرزق على الطعام، قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران: 37].
ويطلق الرزق على الغيث، فيسمَّى ماء السماء رزقا، حيث تحيا به الأرض، ويحيا به العباد والبلاد، قال جلَّ في علاه: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر: 13] ، ومن الأرزاق الحديد أنزله بمنافعه المتعددة، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]، وأعظم الأرزاق نزول القرآن هدايةً للبشرية، قال تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ *مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 3،4].
وكما يكون الرزق في سماء الله العالية: بداية الآيات لا علاقة لها بهذه الفقرة {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]، كذلك هو في أرض الله الواسعة، التي قدَّر فيها الخيرات والأرزاق الطيبة، قال تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}: [فصلت: 10].
كذلك يكون الرزق في الإيمان، والعلم النافع، والعمل الصالح، والصحة والعافية، والسعادة وراحة البال، والزوجة الصالحة، والذرية الطيبة، والأمن والأمان، وغيرها من نعم الله التي يُنعِم بها على الناس أجمعين. 

 


أنور إبراهيم النبراوي
داعية إسلامي وباحث في الدراسات القرآنية والتربوية
ومهتم بشؤون الأسرة
Twitter: @AnwarAlnabrawi
E-mail: Aidn1224@gmail.com
 

----------------------------
[1]     أخرجه البخاري (2128).
[2]     شرح صحيح البخاري لابن بطال (11/262).
[3]     فتح الباري (4/346).
[4]     فتح الباري (4/346).
[5]     شرح النووي على مسلم (18/107).
[6]     فتح الباري (4/346).
[7]     أخرجه مسلم (2281).
[8]     أخرجه البخاري (6451) ومسلم (2973).

 

أنور النبراوي
  • مقالات
  • كتب
  • تغريدات
  • الصفحة الرئيسية