اطبع هذه الصفحة


لا تحسبوه شرًّا لكم

أنور إبراهيم النبراوي
@AnwarAlnabrawi


إن الحصيف الفطن، المسدَّد بنور الله وتوفيقه، لَيأخذُ من أحداث الزمان، وتقلُّبِ الأحوال، الدروسَ والعِبَر، قال تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}[النور: 44].
فالمؤمن ينظر للشدائد بمنظار الصبر والاحتساب، ويعلم أن وراء المحنة منحةً، وخلف النقمة نعمةً،وما يظنه شرا فإن مآله خير عظيم، ومكسب كريم؛ قال تعالى: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11]، من تكفيرٍ للسيئات، ورفع للدرجات، وعودة طيبة وصادقة إلى الرؤوف الرحيم، الكريم المنان،الذي خيرُه إلينا نازلٌ، وشرُّنا إليه صاعد - والله المستعان -قال تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61].
ولقد خلق الله الإنسانَ في كَبَدٍ، وجعله يكدح ويكابد في حياته، امتحانًا واختبارًا، قال سبحانه: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2]، وهذا البلاء هو كالظلِّ للإنسان، يحلُّ به تارة، ويفارقه أخرى، فالأيام دول :

     هي الأمور كما شاهدتها دول ---  من سره زمن ساءته أزمان .

أوَلا يرى هؤلاء الناس؟! أيجهلون ولا يرون أنهم يُختبرون بالرزايا والبلايا، والجوعِ والخوف، والمصائبِ والكوارث، وأمراضٍ تحل بالناس، ومتالفَ تصيب الأموالَ، وجوائحَ تأتي على الثمار، ونقصٍ من الأنفس والأولاد، وندرةِ أمطار، وارتفاعِ أسعار، وانتشارِ غبار، وعقوقِ أبناء، وضياعِ أوقات، وقلة في البركات، وتسلُّطِ أعداء، وخسارةِ أوطان وبلدان؟!
قال تبارك وتعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}[التوبة : 126].
 
{أولا يرون}؟! والاستفهام هنا استفهامُ إنكارٍ وتعجب، أي: كيف يرون الفتنَ والمحن تأتي من كل ناحية، ثم لا يتوبون من ذنوبِهم السالفة، ولا يعقب ذلك عودةٌ إلى الله، وأوبة صادقة، ولا تذكُّرٌ لأمر الله، حيث إن الله هو وحده من يبتلي الأممَ بالسراء والضراء، وبالأوامر والنواهي، وهو وحده الذي يكشف الضر ويعين المضطر، قال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}     [النمل: 62].
وقد كان للناس زاجر فيما يرون{أولا يرون}،إن تكرر المصائب والمضارِّ، وما يسلط الله على الناس، المراد منه هو: تنبيه الناسِ إلى سوء سيرتهم في جنب الله تعالى إذا لم يهتدوا إلى الإقلاع عما هم فيه من العناد والفساد، فإنهم لو رُزقوا التوفيقَ، لأفاقوا من غفلتهم، فعلموا أن ما يحُلُّ بهم كلَّ عام {مرةً أو مرتين} فيه تذكيرٌ لهم، ليرجعوا إلى الله، ويراجعوا دينَهم الذي ارتضاه الله للناس كافة، فإذا عاد الناسُ للدين، واستسلموا لله رب العالمين ، انقشعَتِ الفتنةُ، وعمَّ الرخاءُ، قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الأنفال: 39].
والفتنة: اختلال نظام الحالة المعتادة للناس، واضطراب أمرهم،{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}[البقرة: 191].
 ورغم ذلك لايتوبون من ذنوبهم السالفة ولايعتبرون فيما يستقبل من أحوالهم، وهو علامة حرمان :{ثم لا يتوبون وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
إنها الغفلة عمَّا يعرض عامًا بعد عام، من ضروبِ الابتلاء والاختبار، التي تُظهر استعدادَ النفوس للإيمان، والتفريق بين الحق والباطل، فهلاّ يتعظون بتلك الفتن الموجبة للتوبة.
إنه الجمود والإعراض عن التذكرة والاعتبار بآيات الله، وانطماس نور الفطرة.

قَدْ تُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ   ---    وَيُنْكِرُ  الفَمُ  طَعْمَ  المَاءِ   مِنْ   سَقَمِ

فينبغي للمؤمن أن يتفقَّدَ إيمانَه ويتعاهده، فيجدِّده وينميه؛ ليكون دائمًا في صعود وارتقاء.
إن الكفر والمعاصي هما سبب كلِّ بلاء وشرٍّ في الدنيا والآخرة، كما هو الحال في الأمم السابقة، أصابَهم العذابُ والنكال، بالطوفان، والريحِ العقيم، والصيحةِ، والغرق، والخسف، وغيره، وكل ذلك بأسباب كفرهم وذنوبهم، قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[العنكبوت: 40].
لهذا، أَمَرَ الله العبادَ بالتوبة والضراعة والافتقار إليه عند وقوع الفتن والبلايا والرزايا، من الأمراض، والجراح، والقتال، والزلازل، والريح العاصفة، وغيرها، فقال سبحانه وتعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام: 43].
فبيَّن سبحانه وتعالى أن قسوة قلوبهم، وتزيينَ الشيطان لهم أعمالَهم السيئة، كلُّ ذلك صدَّهم عن التوبة، والضراعة، والاستغفار، التي جعلها الله أسبابًا لزوال المصائب والمصاعب.
وقد ثبت عن الخليفة الراشد عمرَ بنِ عبدالعزيز رحمه الله أنه لما وقع الزلزال في زمانه، كتب إلى عماله في البلدان، وأمَرَهم أن يأمروا المسلمين بالتوبة إلى الله، والضراعة إليه، والاستغفار من ذنوبهم "[1]"، قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال: 53].
فإن الله سبحانه بعدْله وكرمه لا يسلب العبد نعمةً وَهَبَه إياها، أو يغيِّر أحوال الناس؛ إلا بعد أن يغيِّر العباد أحوالهم، ونيَّاتِهم وقلوبهم، وسلوكهم وأوضاعهم؛ بل إن الله يزيد النِّعمَ لعبده، ويُبقيها له متى ما عرَف العبد ربَّه فأطاع وشكر. و إلا سلبها الله منه ، وأزالها عنه، إذا هو عصى وكفر، أو أنكر وبطر، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[الشورى: 30].
قال ابن القيم رحمه الله :(ومن تأثير المعاصي في الأرض: ما يَحُلُّ بها من الخسف والزلازل، ويمحق بركتَها، وكثيرٌ من هذه الآفات أحدثها الله - سبحانه وتعالى -..بما أحدث العبادُ من الذنوب)"[2]".
وقال رحمه الله: (فإن الذنوب والمعاصي تُحدِث في الأرض أنواعًا من الفساد في المياه والهواء، والزروع والثمار، والمساكن)"[3]".
وغير ذلك من الآثار السيئة في الدنيا والآخرة،كمنع إجابة الدعاء، وضيق الصدر، وسوء الخاتمة، وعذاب الآخرة، إضافةً إلى ما يُرى ويشاهد من الفساد في البر والبحر، قال جل وعلا:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لم تَظهَر الفاحشةُ في قومٍ قط، حتى يُعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعونُ والأوجاع التي لم تكن مضتْ في أسلافهم الذين مضَوْا)"[4]".
فإن للطاعات والحسنات آثاراً طيبة على الفرد والمجتمع ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : (إن للحسنة لنورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوةً في البدن، وسَعةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق، ولاشك في حصول خلاف ذلك من آثار سيئة وعقوبات عاجلة وآجلة نتيجةً لفعل الذنوب والمعاصي ، وإن للسيئة لظلمةً في القلب، وسوادًا في الوجه، ووهنًا في البدن، وضيقًا في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق)" [5]"، ويمحو تلك الآثار السيئة والمصائب، ويزيلها عن العبد عودته إلى الله وكثرة استغفاره ، قال تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء : 110]، فربما كان الجزاء معجَّلاً في الدنيا قبل الآخرة، كما هو معلوم ومشاهد.
أما موقف المسلم من أهل البلاء ومن تعرَّض للمصائب هو العمل بمقتضى أخوة الإيمان، ومظلة الجسد الواحد، قال صلى الله عليه وسلم:(وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا)[6]. وأن نكتسب ما نصير به نحن المسلمين كإخوان النسب: من المحبة، والمودة، والشفقة، والرحمة، والنصرة والمواساة.
إمَّا بدعائه، وإمَّا بماله، أو بجاهه، أو بفِكره، وربما بهمِّه ونصحه، وغير ذلك من ألوان النصرة والاعتصام.
وختامًا نقول لأحبابنا وأهلينا من المصابين والمنكوبين في الأرض قاطبة:
فرَّج الله عنكم، ورحم الله أمواتكم، وتقبَّل شهداءكم، وجبَر الله مُصابكم، وعافاكم وعفا عنكم، ثم إن لكم البشرى، فإن عفو الله عظيم، وفرَجَه قريب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)[7]، فوراء كل عسرٍ يُسرانِ من الله اللطيف المنان.

إِذَا ضَاقَتْ بِكَ  الدُّنْيَا  ----   فَفَكِّرْ فِي (أَلَمْ نَشْرَحْ)
فَعُسْرٌ    بَيْنَ    يُسْرَيْنِ   ---  مَتَى  تَذْكُرْهُمَا  تَفْرَحْ


----------------------------------
[1] أخرجه ابن عساكر في تاريخه [65/321].
[2]انظر الجواب الكافي ص65.
[3]انظر الجواب الكافي ص64.
[4]أخرجه ابن ماجة [4019] والحاكم في المستدرك [8623] وقال صحيح الإسناد وحسنه الألباني في الصحيحة [106].
[5]ذكره ابن كثير في تفسيره [7/361] وقال:وقال بعضهم ولكن بدون وان للسيئة لظلمة .....].
[6]أخرجه البخاري ومسلم.
[7]أخرجه أحمد [2803] والطريابي في القدر [155] واسناده حسن.


 

أنور النبراوي
  • مقالات
  • كتب
  • تغريدات
  • الصفحة الرئيسية