اطبع هذه الصفحة


متاع قليل
(2) متاع وَبَلاء!

أنور إبراهيم النبراوي
@AnwarAlnabrawi


  إن جميع هذا المتاع من ملذات وشهوات يبدو في ظاهره زينةً وجمالاً، وهو في حقيقته ابتلاء للناس وامتحان:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7].
إن حياتنا ومماتنا في هذه الدنيا إنما هو اختبار، الفائز والرابح فيه هو الأحسن عملًا:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الملك:2]، فالناس يتفاضلون عند الله، ليس بمتاع الدنيا وبما يملكون، ولكن بما يعملون من عمل حسن:{أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، فالعمل الصالح - بعد رحمة الله وفضله - وسيلة النجاة والفلاح: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]، وهذا دون غفلة عن الدنيا أو نسيان، فإن التوسط مطلوب، والاتزان منهج العقلاء بما حباهم الله من الإيمان والسداد؛ فإنهم يجعلون زينة الله في الأرض عونا لهم عند خالق السماء: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } [القصص: 77].

إن للمرء أن يستمتع بما حباه الله، دون إهمال للعمل الصالح، ودون غفلة عن الموت وما بعد الموت، فكل نفس ذائقة الموت لا محالة مهما عُمِّرَت في الدنيا:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، فما بقاء المرء في هذه الحياة الدنيا إلا ابتلاءً واختبارًا، ثم المرجع والمآل بعد ذلك إلى الله وحده؛ للحساب والجزاء.
وما وجودنا في هذه الحياة بالتكاليف أمرًا ونهيًا، وبتقلُّب الأحوال خيرًا وشرًا، إلا ابتلاء وامتحان:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]، فقد صيَّر الله تعالى الإنسان ذا سمعٍ يسمع به، وبصرٍ يبصر به؛ ليدرك حقيقة المتاع، وليبقى على حذر دائم، فمهما أحاطه النعيم، ومهما كان العبد صالحًا وشاكرًا لربه؛ فإنه في اختبار دائم.
{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا*لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 16، 17]، أي: لو ساروا على بصيرة وثبات لأسقيناهم ماء كثيرًا موفوراً نغدقه عليهم، فيفيض عليهم بالرزق والرخاء، ولكن ربما حمل ذلك الماء -الذي هو أصل الأرزاق- في طيَّاته الاختبار والابتلاء أيشكرون أم يكفرون ؟! 
قال عمر رضي الله عنه : أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة.
وأشد ما تكون الفتنة بمتاع الدنيا -من أصناف النساء والبنين والمال والزينة-حين يراه الناس في أيدي الفجَّار بينما أيادي الأبرار منه خالية؛ كالذين تمنوا كنوز قارون([1])، أو حين يرى الناس أهل الخير والإيمان في عسر ومشقة وابتلاء، بينما غيرهم في قوة وثروة وسطوة واستعلاء.
  والله عز وجل يعلم وقع هذه الفتنة في النفوس، ولكنه جل وعلا أظهر للناس هوان وحقارة تلك القيم في ميزانه عزَّ وجلَّ، كما بيَّن سبحانه نفاسة ما يدَّخره للأبرار الأتقياء عنده، والقلب المؤمن يطمئن لاختيار الله وتقديره، فلا يركن لفتنة الأموال والأولاد، بل يجعل تلك النعم وسيلة شكر لله وأداة لطاعته ومرضاته؛
طمعاً في الأجر العظيم عند الله:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15].
قال علي رضي الله عنه عن الدنيا: أولها عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، من استغنى فيها فُتِن، ومن افتقر فيها حَزِن.
وتتجلى فطنة العبد الشاكر لربه حين يسخِّر ما آتاه الله من فضله في طاعة الله ومرضاته، ومن ذلك الأموال والأولاد، فإن الواجب عليه أن يشكر الله بهما، ويجعلهما وسيلة للغاية السعيدة والتي هي الجنة.
  وسلاح العبد المؤمن في هذه الدار دار الفتن والابتلاء والاختبار؛ هو الصبر والشكر، صبر على البلاء، وشكر على النعماء، فإذا أُعطٍي شكر، وإذا ابتُلي صبر:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]، أي: وجعلناكم -أيها الناس- بعضكم لبعض ابتلاءً واختبارًا بالهدى والضلال، والغنى والفقر، والصحة والمرض: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32]
       {أَتَصْبِرُونَ} أي: هل تصبرون فتقوموا بما أوجبه الله عليكم، وتشكروا له؛ فيثيبكم مولاكم، أو لا تصبرون فتستحقوا العقوبة؟
{وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} إن ربك بصير بمن يجزع أو يصبر، وبمن يكفر أو يشكر، مطَّلع على كل شيء، ويجازي كلًّا بما عمل.
وربك بصير بكل صابر زاهد فيما عند الناس، متعفف غير متطلِّع ولا متشوِّف إلى ما في أيديهم؛ عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال:"ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ) ([2]) .
وفي الآية مواساة وتسلية لكل من صبر على بلايا الدنيا وشدة الحياة، وما يقع فيها من ظلم وضيق، فربك بصيرٌ يجازي كل صابر ومظلوم قانعٌ بقسمة الله راضٍ بقدره:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]
وفي الآية تهديد ووعيد لكل ظالم ومعتدٍ يقف في طريق أرزاق العباد واستقرارهم، فربك بصير وسوف يجازيه بعدله وقوته:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } [الشعراء: 227].
 
***
 

أنور إبراهيم النبراوي 
 داعية إسلامي وباحث في الدراسات القرآنية والتربوية
 ومهتم بشؤون الأسرة
Twitter: @AnwarAlnabrawi                                                  
E-mail: Aidn1224@gmail.com
 

-------------------------------------------
([1]) قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ*وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ*فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ* وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}.[القصص: 79 - 82]
([2])سنن ابن ماجه برقم (4102)، (2/1373)، السلسلة الصحيحة برقم (944)، (2/624)..

 

أنور النبراوي
  • مقالات
  • كتب
  • تغريدات
  • الصفحة الرئيسية