اطبع هذه الصفحة


خطبة الجمعة في مسجد قرية آل عشَه بسبت تُنومة
2 المُحـرم 1442هـ.
بعنوان:(ومضى عامٌ، وجاء عام)

أ . د / صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية ومدير مركز البحوث التربوية
بكلية التربية في جامعة الملك خالد


الحمد لله الذي جعل في تتابع الأعوام عبرةً، وفي تصـرُمها تذكرةً، وفي أفولها آيةً واضحةً بينة، وصلاةً وسلاماً على نبينا محمدٍ النّبـيُّ الأوّابُ؛ خير من شب وشاب، وخيرُ من تاب إلى الله تعالى وأناب، صلّى الله عليه وسلمّ، وعلى آله وصحبه، والتّابعين لهم بإحسان إلى يوم الحسابِ. أما بعد:
فأوصيكم ونفسـي - أيها الأحباب - بتقوى الله تعالى، فبالتقوى يصل المسلم إلى بَر السلامة، ويسعد بإذن الله سبحانه في دنياه، كما أنه يسعد في حياته البرزخية، ويسعد في آخرته.
عباد الله، ها نحن نودعُ عاماً مضـى ونستقبل عاماً أتـى، وهذا الأمر وإن كان في نظر الكثير من الناس أمراً عاديّـــــاً؛ إلاّ أن حقيقة الأمر تؤكد غير ذلك؛ إذ إن اختلافِ اللّيلِ والنّهار، وتقلّبهما في إقبالٍ وإدبارٍ، إنما هو تذكِرةٌ للإنسان وإشعارٌ له بضـرورةِ الاستعداد للرّحيلِ من هذه الدّار الفانية، إلى دارِ الخلودِ والقرار فهي الدار الباقية، ولهذا قالَ جل من قائلٍ في كتابِه المبينِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورً} [الفرقان:62].
ومن طريف ما جاء في التذكير بهذا الشأن ما ورد في بعض كُتب أهل العلم حيث جاء في كتاب (حلية الأولياء) لصاحبه الحافظ أبـي نعيم ما نصه:
"مُضِـيُّ عام -أيها المسلمون- يعنـي مُضيَّ أكثر من نصف مليون دقيقة من حياة كل واحدٍ منا!
نبَضَ القلبُ في هذا العام قرابة (40) مليون نبضة، وزَفَـرت النفس (11) مليون زفرة!
مضتْ هذه الدقائق وتلك السويعات بما أُودِع فيها مِن خيرٍ وشـر، فالموفَّق مَن ندم على تفريطه بكل ساعةٍ بل بكل دقيقة، بل بكل ثانية، والمغبون من لم يكتَـرث بذلك ولم يُلقِ له بالاً، يقول الحسن البصـري (رحمه الله):
"إن المؤمن قوّامٌ على نفسه، يحاسِب نفسَه لله، وإنما خفَّ الحسابُ يومَ القيامة على قومٍ حاسبوا أنفسَهم في الدنيا، وإنما شق الحسابُ يوم القيامة على قومٍ أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة" [الجزء الثاني: ص157].
واعلموا يا عباد الله أنّ خير ما يختمُ به الإنسان المسلم عامه ويستقبل به العام الذي يليه أن يحرِص علـى التّوبة النّصوح، التـي تكون صادقةً مع النفس، وخالصةً لله سبحانه؛ فيمحو الله بها الخطايا والذنوب، ويتجاوز بها عن العبد في أي وقتٍ، قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَـىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: من الآية 8].
وصحَّ عن أبي مُوسى الأَشْعَرِيِّ، (رضِي الله عنه)، عن النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم)، أنه قَالَ:
"إِن الله تَعَالَى يبْسُطُ يدهُ بِاللَّيْلِ ليتُوب مُسيءُ النَّهَارِ، وَيبْسُطُ يَدهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مغْرِبِها" [رواه مسلم].
فيا إخوة الإيمان: إننا نودع عاماً شهيداً علينا، ونستقبل عاماً جديداً مقبلاً إلينا. فبماذا نودع عامنا الماضـي؟ وكيف سنستقبل عامنا الجديد؟
سمع أحد العُلماء رجلاً يقول: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَقَالَ له: أَتَعْرِفُ تَفْسِيرَ هذا القول؟ تَقُولُ: أَنَا للهِ عَبْدٌ، وَإِلَيْهِ رَاجِعٌ، والمعنى أن مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ للهِ عَبْدٌ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ رَاجِعٌ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَمِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَسْؤولٌ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَسْؤولٌ؛ فَلْيُعِدَّ لِلسُّؤَالِ جَوَابًا، فَقَالَ الرَّجُلُ:
فَمَا الْحِيلَةُ؟ قَالَ العَالِم: تُحْسِنُ فِيمَا بَقِـيَ، لعل الله أن يغْفِرَ لَكَ مَا مَضَـى، فَإِنَّكَ إِنْ أَسَأْتَ فِيمَا بَقِـيَ أُخِذْتَ بِمَا مَضَـى وَبِمَا بَقِـيَ.
فنسأل الله سبحانه أن يغفر لنا وأن يرحمنا وأن يعفو عنّا، وألاّ يؤاخذنا بغفلتنا وتقصيرنا، وأن يشملنا بعظيم كرمه وجميل مغفرته وعفوه.
عباد الله، إن علينا أن نقف مع أنفسنا وقفةً صادقةً لنحمد الله تعالى كثيراً على ما نحنُ فيه من النِعَم التي لا تُعدُ ولا تُحصى، ولنشكره سبحانه على ما وفقّنا إليه من الخير والصلاح في القول أو العمل، وأن نتوب إليه (جل جلاله) من الذنوب والخطايا والتقصير، وان نستغفره سبحانه، وأن نُتبع السيئة الحسنة لتمحوها بإذن الله تعالى.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله دائماً وأبداً، والشُكر لله سِـراً وعلناً، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ الذي ما ترك خيراً إلاّ دلّنا عليه، ولا فضلاً إلاّ أرشدنا إليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فيا عباد الله، أُذكِّر نفسي وإياكم بعملٍ صالحٍ يسير، وسُنةٍ نبويةٍ مؤكدةٍ، لها فضلٌ عظيمٌ، وأجرٌ وثوابٌ كبيرٌ، ويتمثل هذا العمل الصالح في صيام اليوم العاشـر من شهر الله المحرم، وصيامُ يومٍ قبله أو يومٍ بعده لمن استطاع مخالفةً لليهود الذين يصومون هذا اليوم لوحده. فقد قال ابن عباس (رضي الله عنهما)، كما في الصحيح لما سُئل عن صوم يوم عاشوراء:
«مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ» (رواه البخاري ومسلم).
ويوم العاشـر من شهر المحرم يومٌ صالحٌ لأن صيامه يُكفِّر بإذن الله تعالى سنةً ماضيةً كما في جاء في الحديث الصحيح، فعن أبي قتادة (رضي الله عنه)، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال في صيام يوم عاشوراء: «أحتسبُ على الله، أن يُكَفِّرَ السنة التي قبله» (رواه مسلم).
وقد جاء أن بعض علماء السلف كانوا يتحرون صيام يوم عاشوراء ولو كانوا في سفر، ويقولون: "إِنَّ رَمَضَانَ لَهُ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، أما عَاشُورَاءُ فيَفُوتُ ولا يُمكن تعويضه".
وفي هذا حثٌ على أهمية المبادرة إلى صيامه لمن كان حاضـراً أو كان مسافراً؛ لأنه عملٌ صالحٌ، وغنيمةٌ كُبرى، وفضيلةٌ ينبغـي للمؤمن أن يحرص عليها، وأن يبادر إلى فعلها لعل الله أن يقبلها وأن يحط بها من الذنوب والخطايا، قال سبحانه: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [سورة البقرة: من الآية 197].
وفقنا الله وإياكم لكل عملٍ صالحٍ، ولكل قولٍ صالحٍ، ولكل نيةٍ صالحة. ورزقنا وإياكم حُسن الحياة، وحُسن الممات، وحُسن الختام، وحُسن المآل.
ثم اعلموا (بارك الله فيكم) أن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأن خير الهدي هدي نبينا محمدٍ (صلى الله عليه وسلم)، وأن شـر الأمور محدثاتـها، وأن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
واعلموا أن الله تعالى أمركم بالصلاة والسلام على النبـي؛ فقال جل شأنه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمً}. فاللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الطاهرين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، وتابع التابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
نسأل الله تعالى أن يستعملنا في طاعته ورضاه، وأن يجعل عامنا هذا عام خيرٍ ورُشد، وعزٍ ونصـرٍ وتمكينٍ لأُمة الإسلام.
اللهم اجعلنا ممن طال عمره وحسُن عملُه، ونعوذ بك اللهم أن تكون حياتنا غبناً، وأعمارنا نقصاً. اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَارِنَا أَوَاخِرَهَا، وَخَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ لِقَائِكَ.
اللَّهُمَّ إِنّا نسْأَلُكَ خَيْرَ مَا نأتِـي، وَخَيْرَ مَا نفْعَلُ، وَخَيـرَ مَا نعْمَلُ، وَخَيْرَ مَا نُبطَنَ، وَخَيْرَ مَا نُظَهِرَ، ونسألك اللهم الدَّرَجَاتِ العُلَـى مِنَ الجَنَّةِ يا أرحم الراحمين.
اللَّهُمَّ اشْفِ مَرْضَانَا، وَارْحَمْ مَوْتَانَا، وعَافِ مُبْتَلاَنَاْ، وأهدِ ضَالنا، وأصلِح أحوالنا، ومتِّعنَا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وعافية أبداننا، وأحفظ اللهم بلادنا من كل شـرٍ أو ضُـر، ووفق ولاة أمورنا لما فيه النفع والفائدة، والصلاح والإصلاح، والأمن والإيمان، والسعادة والسـرور.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: {إنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَـى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْـيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكُركُم، وأشكُرُوه على نِعَمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
وَأَقِمِ الصَّلاةَ.


 

صالح أبوعرَّاد
  • كتب وبحوث
  • رسائل دعوية
  • مقالات تربوية
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية