اطبع هذه الصفحة


ساحات القصاص ومزادات الدم بين الأعراف البالية والتقاليد الخاطئة

الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها
ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية

 
الحمد لله الذي عز جاهه ، وجل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه ، والصلاة والسلام على من بعثه الله بالدعوة المُحمدية ، وهدى به الإنسانية ، وأنار به أفكار البشرية ، وزلزل به كيان الوثنية ، وبعد ؛

فمما لا شك فيه أن لكل مجتمعٍ من المجتمعات مجموعة من العادات والتقاليد والأعراف التي تنتشر بين أفراده حتى تُصبح سلوكاً يكادون يتفقون عليه ، وقانوناُ يُحَكِّمونه في مختلف شؤون ومجريات حياتهم العامة والخاصة .

وانطلاقاً من كون هذه الأعراف والتقاليد والعادات التي تعارف الناس عليها وألفوها في مختلف شؤونهم الحياتية قد تمكنت في أنفسهم وأصبحت لازمةً لهم ، وضروريةً لتسيير شؤون حياتهم العامة والخاصة في معظم الأحيان إن لم تكن كلها ؛ فقد جاءت تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف وتوجيهات تربيته الإسلامية السامية لـتُقرَّ ما كان منها صالحاً وحسناً ، وتُشجع ما اتفق مع الفطرة السليمة وحافظ على الكرامة الإنسانية ، ولكنها رفضت ما كان منها متعارضاً مع أحكام وتوجيهات الشرع الحكيم .

وعلى الرغم من أن موقف الدين الإسلامي من العادات والتقاليد يُعد واضحاً وجلياً ؛ فإن واقع الحال يُشيرُ إلى أنه لا تزال هناك بعض الأعراف والتقاليد والعادات القبلية المتوارثة ، والمنتشرة في أماكن معينة وبيئاتٍ محددة من مجتمعنا ، والعجيب أنها لا تزال تحظى بالقبول عند أبناء تلك البيئات حتى أنني لا أُبالغ إذا قلت إنها سيطرت على عقولهم ، وتحَكّمت في سلوكهم ، وهيمنت على تصرفاتهم ؛ فأصبحت بمنزلة الشريعة الحاكمة والقانون السائد الذي يحكم ويُنظم ويُسيِّرُ مختلف تعاملاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية .

وليس هذا فحسب ، فقد تجاوز الأمر ذلك وأصبح غير مستغربٍ أن نرى ونسمع ونعيش نماذجَ غريبةً ، وصوراً مُضحكةً ومبكيةً في هذا الشأن ؛ فهناك من يبالغون في دفع المبالغ المالية الطائلة في ساحات القصاص ، وما يتبعها من أُعطياتٍ مادية بدعوى الصُلح والعفو .

وهناك من يربطون أنفسهم بأرديتهم ، ويكشفون عن رؤوسهم تعبيراً عن الأسف وطمعاً في الحصول على العفو المزعوم .

وهناك من يتمددون بأجسامه على الأرض ولا يرفعون رؤوسهم إلا إذا أُجيبت مطالبهم .

وهناك من يتجمهرون في تظاهراتٍ جماعية لم يُنـزل الله بها من سلطان لغرض الحصول على العفو من أهل المقتول .

وهناك من يحولون ساحات القصاص إلى مزاداتٍ علنيةٍ يصحُ أن نسميها بمزادات الدم التي بالغ البعض فيها بشكلٍ غير معقولٍ حتى لم تعد تقبلها النفوس ولا ترضاها العقول .

وهكذا تتعدد الصور المؤسفة ، والمشاهد المحزنة التي لا شك أنها تعكس مدى هيمنة هذه الأعراف والتقاليد والعادات البالية على العقول والأفكار ، والتي لا يشك عاقل في كونها تمثل انحرافاً عن الجادة ، ومخالفةً للمنهج ، وبعداً واضحاً عن تعاليم الدين الصحيح ومنهجه السوي ، ولاسيما أنها في مجموعها ليست بالعبادات التي يُقصد بها وجه الله تعالى ، ولا هي بالأمر المباح الذي يخلو من الشبهة ، ولا هي بالسلوك السوي الذي يتفق مع الفطرة الصحيحة والتربية السليمة ، ولكنها مجرد عاداتٍ وتقاليد وأعراف متوارثة لم يُنـزل الله بها من سلطان ، ولم يُقرها شرع ، ولا عقل ، ولا فهم ، ولا وعي .

وهنا أقول : إن كل ما أتمناه ويتمناه معي كل عاقل أن تهتم الجهات المعنية في حكومتنا الرشيدة وعلى وجه الخصوص وزارة الداخلية ، ومجلس الشورى بهذا الشأن الاجتماعي الذي يحتاج إلى ضبطٍ رسمي وتدخلٍ قوي من الدولة ؛ لأن الله يزعُ بالسُلطان ما لا يزعُ بالقرآن كما جاء في الحديث النبوي الشريف ، ولأن مثل هذه القضايا الاجتماعية وما يترتب عليها من الظواهر السلبية المؤسفة تحتاج إلى تدخلٍ رسميٍ حكومي لضبطها والقضاء على سلبياتها .

كما أن واقع الحال يوجبُ ويفرض أن تُعنى مختلف الجهات والقطاعات ذات الاختصاص بدراسة مثل هذه الظواهر الاجتماعية القائمة على العادات الخاطئة ، والتي تنطلق في أساسها من التقاليد البالية ، والأعراف الباطلة ، والعمل على تحليلها ومعرفة أسبابها ودواعيها ، ثم العمل على ضبطها وتصحيحها ، ومعالجة خللها ، وتوعية الناس بمساوئها وتحذيرهم من مخاطرها ، والإفادة من نقاط القوة فيها ، وإخضاعها أولاً وآخراً لميزان الشريعة ومنهج الدين الإسلامي الحنيف الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وفق الله الجميع لصالح القول والعمل والنية ، والله الهادي إلى سواء السبيل .


بقلم الدكتور / صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية المساعد
ومدير مركز البحوث التربوية بكلية المعلمين في أبها
E.mail:abo_arrad@hotmail.com


 

صالح أبوعرَّاد
  • كتب وبحوث
  • رسائل دعوية
  • مقالات تربوية
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية