اطبع هذه الصفحة


مؤسساتنا الثقافية والإعلامية
ومسؤولية فتح نوافذ الحوار مع الآخر

بقلم الدكتور / صالح بن علي أبو عرَّاد
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد في أبها


الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد ؛
فقد استمعت في لقاءٍ إذاعي للإعلامي التونسي المعروف الدكتور / محمد الهاشمي مؤسس ومدير قناتي ( المُستقلة ) و ( الديموقراطية ) وهو يتحدث لبرنامج ( حضارات ) في لقاءٍ قصيرٍ تعرض فيه لفكرةٍ رائدة ومُقترحٍ جميل مفاده أن على مؤسساتنا الثقافية والإعلامية في العالم العربي والإسلامي العناية بفتح قنوات الحوار الإيجابي الجاد والواعي مع كل الأُمم والحضارات المعاصرة سواءً أكانت شرقية أم غربية ، وعدم حصر ذلك مع دول العالم الغربي فقط ، فهناك حضاراتٍ عريقةٍ أُخرى كالصين ، والهند ، واليابان ، وروسيا ، وأسبانيا ، ودول أمريكا اللاتينية ، وجميعها ذات نصيبٍ وافرٍ من الإرث الحضاري والمعرفي الإنساني ، والذي من المؤكد أننا في حاجةٍ ماسةٍ إلى التعرف إليه ، ومد جسور التواصل الثقافي والفكري والحضاري معه .
وهنا أقول إن هذا المقترح جديرٌ بالعناية والاهتمام ، ولاسيما من قبل مختلف المؤسسات الإعلامية والثقافية في عالمنا الإسلامي عامةً والعربي خاصة ؛ إذ إن الحوار يُعد وسيلةً عصريةً عظيمة التأثير ، ولأنها غالبًا ما تستمد مشروعيتها وأهميتها من مشروعية ما تهدف إليه من خيرٍ وصلاح .
كما أن في العناية بهذه القضية ، والعمل المؤسسي الجاد على تحويلها واقعًا ملموسًا في حياتنا ضمانٌ - بإذن الله تعالى - لتحقيق الكثير من المنافع التي يأتي من أبرزها ما يلي :
أولاً / أن فتح باب الحوار يُعد وسيلةً إيجابية وعصرية ومناسبة لتبليغ رسالة الإسلام الخالدة إلى الآخرين من حولنا ؛ فالحوار يُعد قاعدةً أساسيةً من قواعد الدعوة الإسلامية التي أُمرنا بتبليغها وإيصالها بصورةٍ أو بأُخرى إلى الآخرين . وفي ذلك خدمةٌ لمهمتنا الرئيسة في هذه الحياة والمُتمثلة في القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى ، وإنقاذ الناس من أسباب الخُسران والهلاك ، ولاسيما أنه قد تيسّر لنا في هذا العصر ما لم يكن مُتيسرًا لمن كان قبلنا ، فكان واجبًا علينا أن ندعو إلى الله تعالى على علمٍ وبصيرة ، وأن نسعى لإقامة الحُجة على الناس بالحق ، وأن نُفيد في ذلك مما تيسّر لنا من وسائل الدعوة الممكنة والمتاحة عبر وسائل البث المباشر ، وشبكة المعلومات ، وغيرها من الوسائل والتقنيات الأُخرى ذات القدرة على الوصول إلى الآخرين والتأثير عليهم أينما كانوا .
ثانيًا / أن في فتح باب الحوار مع الآخر ردٌ واضحٌ وصريحٌ ومنطقي على من توجد لديهم بعض الشبهات ( وما أكثرها في الماضي والحاضر والمستقبل ) ، سواءً أكانوا من المسلمين أو من غيرهم ، ولاسيما إذا ما تصدى لذلك أهل العلم الشرعي الصحيح ، والفكر الواعي المُنطلق من ثوابت الدين ومصادره الخالدة ، وحرصوا على الالتزام بآداب الحوار وضوابطه لكون ذلك كفيلٌ - إن شاء الله تعالى - ببيان الحق ، وكشف الزيف ، وإبطال الباطل ، ومن ثم تحقيق النتائج الفورية الإيجابية التي تزيل الشبهات من النفوس ، وتُعيد أصحابها إلى الحق بالدليل والبرهان .
ثالثًا / أن في الإقدام على هذه الخطوة إشارةٌ واضحةً إلى أننا في عالمنا العربي الإسلامي لا يمكن أن نقبل بأن نكون خاضعين لهيمنة الحضارة والثقافة الغربية فقط ، ولاسيما أنها تُعد الحضارة المعاصرة الأولى التي تحظى بعظيم اهتمامنا في الوقت الحاضر ، وهذا وإن كان واقعًا إلا أنه غير صحيح ، ولا ينبغي أن يستمر إذ إن علينا أن نفتح الأبواب والنوافذ للحوار الإيجابي المعاصر مع بقية الأمم والحضارات المحيطة بنا فالحكمة ضالة المؤمن كما نعلم جميعًا .
رابعًا / أن في فتح باب الحوار الجاد والمُثمر مع الآخر ترجمةٌ واقعيةٌ لدعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ( أيده الله ) ، الذي دعا إلى فتح باب الحوار المُثمر والفاعل مع العالم من حولنا ، ولعل خير دليلٍ على ذلك تلك المؤتمرات الثلاثة التي عقدتها المملكة في كلٍ من : مكة المكرمة ومدريد ، والمؤتمر الذي دعت إليه الأمم المتحدة ، وجميعها تُعنى بالحوار مع العالم بين أتباع الأديان والثقافات ، والتي تهدف إلى إشاعة روح السلام ، والحرص على أن يتبنى العالم لغة الحوار والنقاش والتفاهم والتعايش السلمي بين أتباع الديانات والثقافات ، وأن تكون تلك اللغة بديلاً للغة الحرب والاستعلاء والاستعداء والخصام والنزاع والفُرقة .
خامسًا / أن في فتح باب الحوار الإيجابي تطويرًا وتوثيقًا للعلاقات الدولية بيننا وبين من حولنا من الدول على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والإعلامية والمجتمعية وغيرها ، سواءً أكان ذلك على مستوى الحكومات أو الشعوب . كما أن فيه تحقيقًا للتعارف والتعاون والتآلف بين الثقافات والشعوب والمجتمعات ، ومحاولة التقريب بينهم في الرؤى والأفكار ونحوها .
وهنا لا بُد من التأكيد على أهمية العناية بفتح باب الحوار الفكري ( على وجه الخُصوص ) مع بعض الدول ذات الحضارة المستقبلية المتوقعة مثل الصين التي تُشير كثير من الدلائل إلى أنها ستكون في المستقبل القريب قوةً عالمية على مختلف الأصعدة .
سادسًا / أن هناك الكثير من الأقليات والجاليات الإسلامية في معظم بُلدان العالم المعاصر ، ومن المعلوم أن بعض تلك الأقليات تُمثل في حقيقتها أكثرياتٍ هائلة العدد ، ولاسيما في بعض الدول كالصين والهند وروسيا ، ومن اللازم والضروري أن تكون هناك وسائل فاعلة وأساليب مُثمرة يمكن أن تُسهم بإيجابية في تقديم الصورة الحية والحقيقية للإسلام عندهم وعند مجتمعاتهم ، وأن تعمل بطريقٍ أو بآخر على بناء المفاهيم العامة لديهم وتصحيح الخاطئ منها ، والإسهام المباشر أو غير المباشر في تقديم العون والمساعدة الإيجابية لهم من خلال ثقافة الحوار معهم ومع مجتمعاتهم في مختلف المجالات الحياتية .
سابعًا / أن في فتح باب الحوار مع الآخر خدمة كبيرةٌ لفكرة نشر مبدأ السلام العالمي والتعايش مع الآخر على المستوى الأُممي ، ولاسيما أن الإسلام ليس دينًا مُغلقًا أو محصورًا على شعبٍ واحدٍ ، أو منطقةٍ مُحددة ، أو مجتمعٍ معين ، فهو دينٌ عالميٌ مشرع الأبواب لكل من يرغب في الحق ويبحث عنه ، وهو دينٌ يحمل راية الإنقاذ للبشرية من جهالاتها وضلالاتها التي أحاطت بها من كل جانب .
ثامنًا / أن يكون فتح باب الحوار مع الآخر قائمًا على مبدأ الاحترام المُتبادل حتى في وجود الاختلاف في الرؤى ووجهات النظر ، والسعي من خلال الحوار المعتدل إلى وجود مساحاتٍ مشتركةٍ ومُمكنةٍ من التقارب والتفاهم المُشترك ، ومن الضروري جدًا ألاّ يكون الحوار مشروطًا أو مرتبطًا ببنودٍ سابقةٍ ، أو إملاءاتٍ معينة ؛ لأن ذلك سيؤدي به إلى الفشل وعدم المصداقية .
تاسعًا / أن في فتح باب الحوار مع الآخر تجاوزًا لما نعاني منه ونشتكي إلى الله تعالى من انتشاره واستشرائه المؤسف والمؤلم في مجتمعاتنا ، وهو ما يتمثل في تلك الحوارات الطائفية والمذهبية الداخلية المقيتة الحاقدة التي ظهرت مؤخرًا على السطح فيما بيننا بشكلٍ مزعجٍ وصورٍ مؤسفة لا تُقدِّم أي فائدةٍ تُذكر أو نفعٍ يُرتجى.

وبعد ؛ فإن مختلف الوسائل الإعلامية والثقافية ولاسيما في عصرنا المتميز بثورة المعرفة وتقنية المعلومات والاتصال مطالبةٌ بأن تحرص على فتح أبواب الحوار وقنواته المختلفة مع الآخر سواءً على المستوى الرسمي أو غيره ، وكُلما كان الاهتمام بهذا الأمر تابعًا لجهاتٍ مؤسسيةٍ كان أكثر تنظيمًا وأعم نفعًا ، وهنا لا بُد من التأكيد على أن ذلك كله لا يمكن أن ينجح وأن يؤتي ثـماره إلا إذا تم إسناد مهمته ومسؤوليته إلى الأكفاء والأخيار الذين يوثق في دينهم وأمانتهم وعلمهم وعملهم وخُلقهم وسلامة توجههم وما أكثرهم بيننا ولله الحمد فكان من اللازم والضروري أن تُتاح لهم الفرصة وأن تُيسر لهم السُبل لأداء هذه المهمة العظيمة التي يؤمل منها تحقيق الخير والصلاح ، ويُرتجى منها الكثير من النفع والفائدة .

وهنا أقدم مقترحًا أرى - من وجهة نظري - أنه كفيلٌ - إن شاء الله تعالى - بأداء جزءٍ ليس باليسير من هذه الرسالة العظيمة والمهمة الكبيرة ، ويتمثل في أن تتولى ( الجامعات ) في عالمنا العربي الإسلامي دراسة وتنفيذ مجموعة من البرامج الفكرية الحوارية الإعلامية التي تكون مفتوحة مع الآخرين من حولنا ، مع مراعاة أن يتم تنفيذ تلك البرامج والمناشط الجامعية على أساس أنها جزءٌ رئيسٌ من رسالة الجامعات في خدمة المجتمع ، ومهمةٌ أساسيةٌ من مهامها في نشر العلم والمعرفة والوعي الإيجابي الذي يهدف إلى بيان الحق للناس ، وأن يتم ذلك كله وفق تخطيطٍ مدروسٍ وترتيباتٍ علميةٍ وعمليةٍ مُسبقة تعتمد في المقام الأول على ألاّ يقوم بها إلاّ المعنيين بهذه الرسالة من العُلماء ، والأساتذة ، والباحثين ، والدارسين ، ومن في حُكمهم من المختصين ، وفق خُططٍ علميةٍ واعيةٍ مرسومةٍ ، وبرامج مُعدّة إعدادًا متكاملاً ، وأن يُشرف عليها أهل العلم والدراية والخبرة والتخصص والكفاءة والحماس ، فلعل الله أن ينفع بها ، وأن تكون من الجهود التي تترُك أثرًا طيبًا ونفعًا مستمرًا للأجيال ، والله الهادي إلى سواء السبيل .

 

صالح أبوعرَّاد
  • كتب وبحوث
  • رسائل دعوية
  • مقالات تربوية
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية