اطبع هذه الصفحة


خطبة الجمعة في الجامع الكبير بسبت تُنومة
الجمعة ( 19 ) شوال 1435هـ

أ . د / صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية ومدير مركز البحوث التربوية
بكلية التربية في جامعة الملك خالد


الحمدُ للهِ الذي رضيَ بالشكرِ من عباده لنعمِهِ ثـمناً ، والذي يغفرُ الخطايا لمن أساءَ وجنا ، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ هو ، يجزلُ العطايا لمن كان محسِناً ، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ، إمامَ الهدى صلى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ الأمناءِ ، وسلَّم تسليماً كثيراً ، أما بعد :
فيا عباد الله ، اتقوا الله تعالى في أنفسكم قولاً وعملاً ، واتقوا الله تعالى في أماناتكم ، واعلموا بارك الله فيكم أن الله سبحانه وتعالى يقول وقوله الحق : { ..... وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } ( سورة البقرة : الآيات 155 – 157 ) .
عباد الله ، موضوع خُطبتي لهذا اليوم سيكون بإذن الله تعالى عن أمرٍ من الأمور وحالةٍ من الحالات التي تمُر بنا جميعاً ، صغيرنا وكبيرنا ، ذكرنا وأُنثانا ، أفرادنا وجماعاتنا ، عالمنا وجاهلنا ، غنينا وفقيرنا ، رئيسنا ومرؤوسنا ، قوينا وضعيفنا ، صحيحنا وسقيمنا ، فلا يسلم منها أحد ، الا وهي حالة العزاء والتعزية التي تُعد مما شرعه لنا ديننا الحنيف الذي حثنا على معالي الأمور ومكارم الأخلاق ؛ فكان من محاسنه وفضائله أن شرع لنا العزاء ، الذي يُقصد به : مواساة ذوي الميت ، وتسليتهم ، وحثهم على الصبر والاحتساب ، إضافةً إلى الدعاء للميت ، والترحم عليه ، والاستغفار له .
والتعزية مستحبة عند جميع الفقهاء ، سواء سبقت الدفن أم جاءت بعده ، لأنها من التعاون على البر والتقوى الذي جاء الأمر به في كتاب الله العظيم ، ومما ثبت الحث عليه في سنة رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم .
والتعزية تعني التصبير على ما أصاب الإنسان من المصائب ، وعَزَّاه أي صَبَّره على ما أصابه وألمَّ به ، وخَفَّف عنه ، وواساه ، وشاطره الأسى . وهي سُنةٌ نبويةٌ مشروعة ، وفيها أجرٌ كبيرٌ وفضلٌ عظيم ، إلاّ أنها ليست من الواجبات التي أوجبتها تعاليم الشريعة ؛ فهي من المستحبات التي ندب إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله وفعله لما رواه ابن ماجه عن عبد الله بن أبي بكر بن مـحمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة " ( خرجّه ابن ماجه وغيره وحسنه الألباني ) .
وعن أنس ( رضي الله عنه ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من عزّى أخاه المؤمن في مصيبة كساه الله حُلة خضراء ، يُحْبَرُ بها يوم القيامة ، قيل : يا رسول الله ما يُحبرُ ؟ قال : يغبط " ( أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد وحسنه العلامة الألباني ) .
وهناك من العُلماء من يرى أن التعزية قد تكون واجباً إذا ترتب عليها صلة رحم أو دفع القطيعة فإنها تجب لهذا الاعتبار .
ومن تربية الإسلام وتيسيره أنه ليس من الضروري أن يذهب المُعزي إلى الإنسان المصاب لأجل رد سنة العزاء وتحصيل أجر هذه الفضيلة إذا كان في ذلك مشقةً عليه كالسفر الطويل أو نحو ذلك ، ولأنه يمكن الاكتفاء بما يسّره الله تعالى في وقتنا الحاضر من الوسائل المختلفة كالاتصال الهاتفي أو العزاء الكتابي ونحو ذلك مما جرى به العرف .
كما أن من السُنة أن يكون العزاء في أي مكان يجد الإنسان فيه أخاه المصاب ، وليس لازماً أن يكون العزاء في مكانٍ مخصص أو وقتٍ مُحدد كما قال بذلك أهل العلم ، فقد جاء عن الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله تعالى - أنه قال : " العزاء ليس له أيام محدودة ، بل يشرع من حين خروج الروح قبل الصلاة على الميت وبعدها ، وليس لغايته حدٌّ في الشرع المطهر سواء كان ذلك ليلاً أو نهاراً ، وسواءً كان ذلك في البيت ، أو في الطرق ، أو في المسجد ، أو في المقبرة ، أو غير ذلك من الأماكن .
ومما يُخالف السنة في العزاء أن يستعرض المُعزون في عزائهم بكثرة العدد ، أو إطالة الكلام ، أو كثرة الأسفار ، أو تكليف النفس المشقة والعناء ذهاباً أو إياباً .
وللعُلماء كلامٌ حول موضوع اجتماع الناس لأجل العزاء ، فلم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ( رضي الله عنهم ) كانوا يجلسون للعزاء أبداً .
ومن هنا فإن من العُلماء من يرى أنه لا بأس بالاجتماع في مكان العزاء لأهل المصاب وقرابته إذا دعت الضرورة لذلك ، ولم يترتب على اجتماعهم مفسدةٌ أو ضرر أو تعطيلٌ لمصالحهم ، كما أن من العُلماء من يرى أن الاجتماع للعزاء مكروهٌ ، وبخاصةٍ إذا ما ترتب عليه أو نتج عنه تعطيل مصالح المسلمين ، أو التكليف عليهم ، أو أدى إلى تغيبهم عن أعمالهم ، ونحو ذلك .
واعلموا بارك الله فيكم أنه ليست هناك صيغةٌ محددةٌ للتعزية ، وأن أي عبارةٍ يمكن أن تؤدي المطلوب فهي مقبولة شريطة أن تشتمل على ما دعت إليه الشريعة كالدعاء للميت بالمغفرة والرحمة ، أو الدعاء للحي بالصبر والسلوان وجبر المصاب وحسن العزاء ، أو حث ذوي الميت على الصبر والاحتساب ، ونحو ذلك مما يناسب الحال ولا يخرج عن المألوف . ولعل من أكثر العبارات المعروفة في مجتمعنا أن يقول المعزي لأهل العزاء : " أحسن الله عزاءكم ، وعظّم الله أجرّكم ، وغفر الله لميتكم " ، وهي عبارةٌ مناسبةٌ ومتوافقةٌ مع المنهج الشرعي ولله الحمد .
كما أنه لا بأس للجيران والأقارب بتقديم الطعام وصنعه لأهل الميت نظراً لانشغالهم بمصابهم ومراعاةً لظروفهم ، وهذا أمرٌ طيبٌ ، وهو من السنة النبوية لما صحَّ عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم أمر يشغلهم " .رواه ( أحمد وأبو داود والترمذي ) .
وعلى المصاب أو المصابين أن يصبروا وأن يحتسبوا ، وأن يرضوا بقضاء الله تعالى وقدره ، كما أن من هدي النبوة أن يسترجع المصاب بأن يقول : ( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ) ، وأن يسأل الله الأجر في مصيبته ، وأن يطلب الخلف من الله تعالى ، لـما روي عن أم سلمة ( رضي الله عنها ) أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من عبد تصيبه مصيبة ، فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها " ( رواه مسلم ) .
وهنا لا بُد من التذكير بأنه ليس على الإنسان المسلم ذكراً كان أم أُنثى أن تدمع عينه ، أو يحزن قلبه ، فذلك أمرٌ جُبلت عليه طبيعة الإنسان وفطرته ، شريطة أن يكون صابراً ومحتسباً ، وراضياً بما قدّره الله تعالى وقضاه ، غير متسخطٍ ولا نائحٍ .
وهنا نُشير إلى أن من البدع التي وفدت على مجتمعنا قراءة سورة الفاتحة على روح الميت ، فليس ذلك من السُنة النبوية ، ولم يرد فيه نصٌ شرعيٌ ولا دليل من الكتاب أو السنة ، كما أن من البدع كثرة الكلام ورفع الصوت عند الدفن في المقبرة ؛ إذ إن هذا الموقف يستوجب من الحاضرين الخشوع والتذلل والاتعاظ والاعتبار .
ويأتي من البدع المنتشرة لبس زي معين للعزاء كأن يرتدي أهل المصاب ملابس سوداء اللون كرمزٍ للعزاء وإظهار الحزن ، وفي ذلك يقول الشيخ محمد بن عثيميين رحمه الله : " لبس السواد عند المصائب شعار باطل لا أصل له ،وهو أَمر باطلٌ ومذموم " .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب وتقصير ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان للأوابين غفورا .ً

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه ، والشُكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله الأخيار ، وصحابته الأطهار . أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أنه إذا كان من حق الأخ المسلم المُصاب أن يُعزى ، وأن تتم مواساته والوقوف معه فيما أصابه ؛ فإن للميت حقٌ أن يُدعى له بخير ، وأن يُترحم عليه ، وأن يُسأل الله تعالى له المغفرة والرضوان .
وقد أرشدتنا تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف إلى أن الإنسان الميت ينتفع بإذن الله تعالى بأعمال البر التي تصدر عن غيره إذا أهديت إليه سواءً أكانت من أهله وولده أو من غيرهم ، ويكون للمُهدي بإذن الله تعالى مثل أجر ما قدّمه وأهداه للميت . وخير دليلٍ على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصلي على أموات المسلمين ، ويدعو لهم ، ويزور المقابر ، ويدعو لأهلها ، واتبعته أمته في ذلك حتى صار هذا من الأمور المعلومة بالضرورة من دين الإسلام .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه " . أما الصدقة والدعاء الصالح فهما من الأمور المشروعة وسواءً أكانت هذه الصدقة مالاً أو دعاءً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " .
وقد ذكر الله تعالى مكافأة الوالدين بدعاء أبنائهما لهما ، فقال تعالى : { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } ، وعن أبي أسيد ( رضي الله عنه ) أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم : هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما ؟ قال : " نعم ، الصلاة عليهما ( أي الدعاء لهما ) ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما " ( رواه أبو داود وابن ماجه ) .
فيا عباد الله : لا تنسوا أموات المسلمين من صالح الدعاء ، وجميل الصدقة ، وسلموا عليهم عندما تمرون بمقابرهم ، أو عندما يردُ ذكرهم ، وأخلصوا في الدعاء لهم لعل الله أن يرحمهم ويُخفف عنهم .
ثم اعلموا - بارك الله فيكم - أن أصدق الحديث كتاب الله تعالى ، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتـها ، وكل محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وكل ضلالةٍ في النار . واعلموا أن الله تعالى أمركم بالصلاة والسلام على النبي فقال جل شأنه : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } ( الأحزاب : 56 ) . وقد صحَّ عنه ( صلى الله عليه وسلّم ) أنه قال : " من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشرًا " . فاللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد ، وعلى آله وصحبه الطاهرين ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين : أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ، وتابع التابعين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، ودمِّر أعداء الملة والدين ، اللهم أحفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وبارك اللهم لنا في دنيانا التي فيها معاشنا ، وأحفظ الله لنا ولاة أمرنا ، وأرزقهم البطانة الصالحة التي تدُلهم على الخير وتُعينهم عليه .
اللهم إنا نسألك في هذه الساعة رضاك والجنة ، ونعوذ بك اللهم من سخطك والنار . اللهم أصلح لنا ديننا ، وأصلح لنا دنيانا ، وأصلح لنا آخرتنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير ، والموت راحةً لنا من كل شر .
اللهم ارحم أمواتنا وأموات المسلمين ، وأغفر اللهم لنا ولهم ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، واجعل اللهم لنا من رحمتك ورضوانك أوفر الحظ والنصيب . اللهم أرحم أمواتنا وأموات المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ، ولنبيك بالرسالة ، وماتوا على ذلك .
عباد الله : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } .
وَأَقِمِ الصَّلاةَ ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .

 

صالح أبوعرَّاد
  • كتب وبحوث
  • رسائل دعوية
  • مقالات تربوية
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية