صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







 خلاصة دروس في التكفير

الشيخ صالح بن محمد الأسمري

 
الحمدُ لله نَحْمَده، ونستعيْنه، ونستغفرُه، ونستهديه، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنفسنا، وسيئاتِ أَعمالنا؛ مِنْ يهده اللهُ فلا مضلَ له، ومن يضللْ فلا هادي له، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أَنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إِلَى يوم الدين.
أما بعد.
فإن مسائل التكفير من المسائل العظيمة التي زلت فيها أقدام, وضلت فيها أفهام ,وطاشت فيها أقلام, فأصبح كثير ممن ينتسب إلى أهل العلم _ وهم منهم براء _ لا يتورعون عن تكفير المخالف؛ لأدنى شبهه سواء كانت على المستوى الفردي, أم الجماعي ..!!
ولذلك أحببت أن أجمع في هذه الورقات خلاصة دروس ألقيت حول ( التكفير ) تذكرة للمنتهي , وتبصرة للمبتدي .
وأصل هذه الدروس لشيخنا المفضال صاحب الأفضال / صالح بن محمد الأسمري _ حفظه الله _ التي ألقاها في جامع الملك عبدالعزيز ( بمكة المكرمة ) تحت عنوان يوسم ب( دروس في التكفير ). ومن أراد أن يتوسع في ذلك فليراجع
( الأشرطة ), وقد سُجّلت هذه الدروس أيضاً من قبل إذاعة القرآن الكريم نفع الله بها
** الأسس المنهجية حول بحثه للمسائل:
وقد سار شيخنا _ حفظه الله _ في هذه الدروس المباركة على أسس, وقوانين عظيمة لم يخرج فيها عمّا قرره أهل العلم .
وهذه الأسس مبنية على دعامتين:
الدِعَامَة الأَوّلى: تَقْرِير مَسَائِل الاعْتِقَاد عَلَى وَفْق مَنْهَج أَهْل السُنَّة والجَمَاعَة.
الدِعَامَة الثانية: تَقْرِير المَسَائِل العلمية, والفقهية الشَّرْعِيَّة عَلَى قانونها المتبع, فلا بدع، وذَلِك راجع إِلَى شيئين:
 أَوَّلُهُمَا : ذكر الدليل المعتبر، والأدلة عند أَهْل الفقه والنظر مِنْ حيث الخِلاف والوفاق تأتي عَلَى جهتين:
 الأَوّلى: فجهة اتفق عَلَى اعتبار أدلتها، وتصحيح دلائلها وجماعها أربع أدلة:
 أَوَّلُهَا: كتاب الله.
 ثَانِيْهَا: سنة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم .
 ثَالِثُهَا: الإجماع.
 رابعها: القياس.
 الثانية: فجهة مختلف فيها، وفيها أدلة كثيرة أشار ابن الصلاح -يَرْحَمُه الله- إِلَى أَنَّها تأتي إِلَى نحو ثلاثين دليلاً,
ومن ذَلِك قول الصحابي وفعله، ومن ذَلِك شرع مِنْ قبلنا؛ إِلَى أدلة اشْتُهِر ذكرها في كتب الأصول عند الأئمة الفحول؛ كالموَفْق ابن قدامة -يَرْحَمُه الله- في كتابه: [روضة الناظر وجنة المناظر].
 وثانيهما: فهو أَنَّ تكون الصيرورة عند العمل والإفتاء إِلَى قولٍ, أو مذهبٍ مرتكزٍ عَلَى ركيزتين:
 الركيزة الأَوّلى: فهو أن يكون محفوظاً، وضد المحفوظ الشاذ.
 الركيزة الثانية: فهو أن يكون معمولاً به، وضد المعمول المهجور

فائدة
أَنَّ المَسَائِل عند بحثها، والأحكام عندإثباتها؛ لا بد فيها مِنْ تحرير العبارة، وذكر الحكم مقيداً بقيوده، فلا يؤخذ الحكم عارياً مِنْ قيوده، والبيان خالياً مِنْ تبعاته التي تُذْكَر، فإنَّ الذي يأخذ الحكم بلا قيوده؛ كمثل الذي يأخذ الدين دون تفاصيله، كذا قال جماعة مِنْ الفقهاء في ذَلِك، ومنهم ابن الهمام –يَرْحَمُه الله-

** مباحث الدروس :
قال شيخنا حفظه الله (...
وسيرتكز الحَدِيْث في مَسْأَلَة التَكْفِيْر بحثاً, وذكراً عَلَى محاور ثلاث:
 المحور الأَوّل: في بيان حقيقة التَكْفِيْر وحكمه.
 المحور الثاني: في بيان ضوابط التَكْفِيْر وقيوده.
 المحور الثالث: في ذكر الشُبُهَات؛ تفنيداً لها، وبياناً لعوارها.)

فائدة:
ذَلِك أَنَّ الحكم مبني عَلَى صحة التصور، وأَنَّ الحكم لا بد أن يعقب بقيوده وضوابطه، فإذا درس المرء الحق بقيوده، فلابد مِنْ إزالة الشُبُهَات التي ربما خطفت ذهناً وأردت عقلاً، وهَذَا معروف عند الأئمة؛ ولِذَلِك قالوا: بحث المَسَائِل الاعْتِقَادية لا بد أن يكتمل مِنْ جميع الأَوْجُه، وذكروا مِنْ ذَلِك أَوْجُهاً أربعةً مشهورةً:
 أَوَّلُهَا: تصور المَسْأَلَة عَلَى وجهها.
 ثَانِيْهَا: معرفة قيودها مَع الحكم وما يتبعه.
 ثَالِثُهَا: معرفة ما يتعلق بلواحق المَسْأَلَة مِنْ فروع وما إليه.
 رابعها: معرفة الشُبُهَات مَع تفنيدها.
فإذا اجتمع للمرء في مَسْأَلَة اعتقادية تلك الأوجه الأربعة عَلَى حقيقتها المعتبرة، فإن المنفعة تحصل، والتأسيس يتحصل، وبه ينبت المرء ويكتمل، والله المستعان وعليه التكلان.)

المحور الأَوّل: في بيان حقيقة التَكْفِيْر وحكمه.

يتعلق الحَدِيْث عَنْ المحور الأَوّل مِنْ محاور مَسْأَلَة التَكْفِيْر بثلاث أساسات:
 أَوَّلُهَا: خطورة التَكْفِيْر.
 ثَانِيْهَا: حقيقة التَكْفِيْر.
 ثَالِثُهَا: حكم التَكْفِيْر.

 أما الأَوّل:
وهو خطورة التَكْفِيْر، فإن للتكفير خطراً وللنعت الآخرين أو الفعال والصفات في كلٍ أثراً، جماع ذَلِك ثلاثة أشياء:
 الشيء الأَوّل: ما جاء مِنْ وعيدٍ وتهديدٍ مِنْ الشارع في التكفير، ومن ذَلِك ما جاء في الصحيحين أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: [مِنْ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما] ، وقد تكلم جمع من أهل العلم حول فقه الحديث وبيّنوا عظم شأن تكفير المسلم ؛ ومن ألئك الحافظ ابن حجر في ( الفتح ), والشوكاني في ( السيل الجرار ).
 الشيء الثاني: أَنَّ التَكْفِيْر مسألة شرعية لا بد من إلحاقها بمسائل الشرع, فلا يحكم على أحد _ سواءً كانوا جماعات أم أفراد _ بالكفر لقباً, ونعتاً, ووصماً إلا إذا حكم الشارع عليه بذلك ,وقرر ذلك جماعات من أهل العلم ؛ ومن أولئك : الإمام الغزالي في كتابه ( فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ), وكذا القاضي عياض في ( الشفا ) ,وشيخ الإسلام في ( درء تعارض العقل والنقل ) وكذا في ( الرد على البكري )
 الشيء الثالث : آثَاره: فإنَّ الإنسان إذا حَكَمَ بالكفرِ عَلَى أحد ثبت بذَلِك أحكام وآثَار، والحكم عَلَى أحد بذَلِك -عَلَى ما سيأتي في ضوابط التَكْفِيْر إن شاء الله- يتنوع إِلَى نوعين:
 النوع الأَوّل: فهو أن يحكم عليه أَنَّه كافر؛ فيعلق الحكم باسم الفاعل المعين، فهَذَا يتبعه أحكام المرتد بأحكام الردة المعروفة المقررة عند الفقهاء؛ فتطلق منه زوجته، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يصلي عليه؛ إِلَى غير ذَلِك مِنْ الأحكام المقررة عند الفقهاء في كتاب:(الردة) وما يتبعه.
 النوع الثاني: فهو أن يحكم حكماً وصفياً، فيقال: مِنْ قال كذا فهو كافر، فيتحقق أن فلاناً مِنْ الناس قد قال هَذِه المقالة الكفرية، فإذا كان قد قالها معتقداً لها -وهو الأصل في إطلاقات العقلاء- اختياراً فإنَّه يتبع ذلك أحكام.
فمن ذَلِك أن لا يُصَلَّى وراءَ صاحبِ بدعةٍ كفريةٍ، ومن ذَلِك مِنْ يقول بأَنَّ القرآن مخلوق، ولكنه لا يكفر لتأول عنده، كما وقع مِنْ الإمام أحمد –رحمه الله ورضي عنه- مَع المأمون ومن معه؛
وخرج أبو داود في: [مَسَائِله عَنْ الإمـام أحمـد –يَرْحَمُه الله-] أَنَّه قال عَنْ الجهمية:’’أنا أعيد، ومتى ما صليت خلف أحد ممن يقول: القرآن مخلوق فأعيد لِذَلِك‘‘
وبنحو ذلك جاء عن الإمام البربهاري –يَرْحَمُه الله- في [شرح السُنَّة]:

 وأما الأساس الثاني: فيتعلق بحقيقة التَكْفِيْر، وللتكفير ثلاث حقائق معروفة:
 أَوَّلُهَا : الحقيقة اللغوية؛ حيث أرجع ابن فارس –يَرْحَمُه الله-في [مقاييس اللغة] الكفر مِنْ حيث الأصل إِلَى التغطيةموز
وهَذَا المعنى متفق عليه، قرره ابن منظور في:[اللسان]، وقرره الفيروز أبادي في :[القاموس]، وقرره الزبيدي الحنفي في شرحه:[عَلَى القاموس] في آخرين، والشأن فيه مشهور، وأشعار العرب وما يتعلق بذَلِك في نثرهم كثير في ذَلِك.
 ثَانِيْهَا: فهو معنى وحقيقة الكفر في الكتاب والسُنَّة، ومرد ذَلِك في النص الشرعي إِلَى خمسة معان، ذَلِك أَنَّ النصوص في الكتاب والسُنَّة جرت عَلَى هَذَا المجرى، وقد ذكر ذَلِك جماعة؛ ومن أولئك: ابن الجوزي -يَرْحَمُه الله-كما في كتابه:[نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر]، وذكر الخمسة عَنْ الفقهاء حكاية:
 الأَوّل: إطلاق الكفر عَلَى أَنَّه المضاد للتوحيد، وهَذَا بينٌ مشهور(
 الثاني: إطلاق الكفر عَلَى أَنَّه ضد النعمة، ويقال: كَفَرَ بالنعمة؛ أي أَنَّه ردها أو لم يقم شكرها عَلَى وجه الشكر الصحيح شرعاً، ولِذَلِك أمثلة يأتي بيانها قريباً إن شاء الله.
 الثالث: التبري ...
 رابعها: ما يتعلق بمعنى الجحود...
 خامسها: التغطية وهو المعنى الأصيل لـ(الكَفر والكُفر) في اللغة العربية ..)

 
ثالث الحقائق: ما يتعلق بالكفر الشرعي
وحقيقته مركبة من شيئين :
 الأول: أن التكفير إطلاق الكفر على الغير سواء أكان فعليا أم قوليا وقد بين حقيقة التكفير الإمام السبكي في ( الفتاوي ).
 ثانيهما: هو أنه متعلق بالكفر الأكبر، هَذَا هو المشهور عند الأئمة والفقهاء؛ حيث يقولون كفر فلان.
وحد الكفر الأكبر اختلفت عبارات الأئمة في ذَلِك؛ إلا أَنَّ مِنْ العبارات المستحسنة -التي تجمع قطر الكفر الأكبر وعمومه- قولة ابن حزم الظاهري –يَرْحَمُه الله- في كتابه: [الإحكـام]، وكذا هي في [المحلَّى] له ، وكذا في [الفصل في الملل والنحل]؛ حيث قال: ’’وهو -أي الكفر في الدين- صفة مِنْ جحد شيئاً مما افترض الله تعالى الإيمان به -بعد قيام الحجة عليه؛ ببلوغ الحق إليه- بقلبه دون لسانه أو بلسانه دون قلبه أو بهما معاً، أو عمل عملاً جاء النص – أي الشرعي – بأَنَّه مخرج له بذَلِك عَنْ اسم الإيمان‘‘
وعليه فقد علق المَسْأَلَة بشيئين:
 الشيء الأَوّل: فهو وقوع الكفر الاعْتِقَادي أو القولي أو العملي مِنْ صاحبه.
 الشيء الثاني: فهو حصول الضوابط المعتبرة شرعاً، وأشار إِلَى جملة في ذَلِك، ومن ذَلِك: قيام الحجة؛ بحيث تبين عَلَى المرء الحجة.
، ويشار هنا إِلَى شيئين يتعلقان بذَلِك:
 أَوَّلُهُمَا: أَنَّ ثمة كفراً دون الكفر الأكبر؛ وهو ما يسمى ب( الشرك الخفي أو الأصغر )
 ثانيهما: وهو أن هناك فرقا بين الظاهر والباطن , فالمنافق يحكم بأنه مسلم في الظاهر وقت عدم إظهار ما يوجب إخراجه من الدين مع كونه في الباطن على الكفر وكذلك العكس.

 ثالث الأساسات هو حكم التَكْفِيْر:
فالتَكْفِيْر له جانبان مِنْ حيث نزول الحكم عليه:
 الجانب الأَوّل: فهو ما يتعلق بتكفير كافر ثبت كفره، أو ثبت أَنَّ عنده كفراً؛ فيحكم عَلَى الكفر أَنَّه كفر، ويحكم عَلَى الكافر أَنَّه كافر، فلا يجوز عدم تكفير الكافر، ومن لم يكفر معلوم الكفر فهو كافر حينئذ ؛ أي مِنْ لم يحكم عَلَى مِنْ تيقن أَنَّه كافر بالكفر، ولكن حكم عليه بالإيمان فهو كافر؛ لأَنَّه تكذيب للشارع.
وهَذَا أمر قد قرره الفقهاء، مِنْ ذَلِك الرحيباني –يَرْحَمُه الله- في: [شرح غاية المنتهي] ,;`وكذا البهوتي في [كشاف القناع]–يَرْحَمُه الله-.
وبهَذَا قضى أصحاب المذاهب المتبوعة في باب الردة والأمر بذَلِك مشهور؛ ولِذَلِك قرر إمام الدعوة المجدد داعية التوحيد الإمام محمد بن عبد الوهاب –يَرْحَمُه الله- أَنَّ مِنْ أصول الكفر ونواقض الإسلام؛ هَذَا الأصل – أي أَنَّ مِنْ لم يكفر الكافر معلوم الكفر أو صحح مذهبه فإنه يكون كافراً حينئذ.

 الجانب الثاني: فهو ما يتعلق بتكفير مِنْ ثبت له أصل الإيمان بيقين،
فهَذَا فيه نظران:
 النظر الأَوّل: أَنَّ التسرع فيه -دون تروي وتثبت مِنْ اكتمال موجبات, وقيود التَكْفِيْر- حرام لا يجوز،
 النظر الثاني: فهو أَنَّ يكون التَكْفِيْر بموجباته, أو بعد تثبت فهَذَا صحيح بضوابطه وقيوده التي لا بد مِنْ التثبت فيها والتروي.

المحور الثاني: بيان ضوابط التَكْفِيْر وقيوده.
ضوابط التكفير وقيوده
فإنَّ الضوابط جماعها ثلاثةٌ:
 أما الضابط الأَوّل / فهو أنه لا بد مِنْ التثبت مِنْ أَنَّ ما حُكِمَ أَنّه كفر -مِنْ اعتقاد أو قول أو عمل- أنه كذَلِك في الشريعة؛ أي أنه يخرج المرء مِنْ ملة الإسلام ويجعله كافراً كفراً أكبر،وقد قرر ذلك جماعات ومن ألئك شيخ الإسلام في ( منهاجه )
، وجماع ما يتعلق بهَذَا الضابط شيئان:
 الشيء الأَوّل: فهو أن يكون ما وقع مِنْ اعتقاد , أو عمل , أو قول يفقد صاحبه أصل الإيمان الواجب؛ إذ إنَّ أَهْل السُنَّة والجَمَاعَة يجعلون الإيمان عَلَى نوعين:
 النوع الأَوّل: أصلٌ.
 والنوع الثاني: فكمال، وهَذَا الكمال يأتي عَلَى مرتبتين في الحكم:
 الأَوّلى: المرتبة الواجبة، ويدخل في ذَلِك الواجبات؛ سواءاً أكان واجب الفعل, أم واجب الترك.
 الثانية: فهي المرتبة المستحبة المستحسنة شرعاً، ويدخل في ذَلِك المستحبات وترك المكروهات، وهَذَا كله يدخل فيه جملة الإيمان.
لأن الإيمان يطلق في الشرع عَلَى جهتين:
 الجهة الأَوّلى: فإطلاقٌ عام؛ يدخل فيه جميع ما يتعلق بشعب الإسلام ويدل عَلَى ذَلِك الحَدِيْث المخرج في الصحيحين وفيه يقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم : (الإيمان بضع وسبعون -أو قال وستون شعبة-، ثم ذكر أَنَّ أدناها: إماطة الأذى عَنْ الطريق).
ومعلوم مِنْ الدين بالضرورة أن إماطة الأذى عَنْ الطريق ليس مِنْ أصل الإيمان الواجب الذي لا بد أن يفعله أو يأتي به الإنسان عند إرادته الدخول في الدين؛ وكل عملٍ -في الشريعة- جاء الأمر بفعله أو الأمر بتركه هو داخل في هَذَا المعنى العام.
 الجهة الثانية: فهو إيمانٌ خاصٌ استعمل عَلَى ما به يكون المعتقد صحيحاً، وأصله راجع إِلَى أصل الإيمان المنوه إليه في حديث جبرائيل الطويل؛ وفيه: (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)؛ والحَدِيْث مخرج في الصحيحين، هَذَا ما يتعلق بالإيمان أصلاً وكمالاً.
والمرء إذا انتقض أصل إيمانه خرج مِنْ الملة إجماعا، حكى الإجماع في ذَلِك عامة الأئمة وأَهْل الفقه والنظر ؛ ومن أولئك: ابن بطة العكبري-يرحمه الله- كما في [الإبانة الصغرى]( وكذا الموَفْق ابن قدامة المقدسي-يرحمه الله- في [المُغْنِي] في باب الردة ، وكذلك قرره جماعات، والأمر فيه مشهور مستفيض.
 الشيء الثاني: أن يحكم الشارع الحنيف عَلَى قول أو فعل أو اعتقاد أنه كفر أكبر أو شرك أعظم، فحينئذ يكفَّر مِنْ وقع فيه ويكون كفراً يخرج مِنْ دائرة الإسلام؛ ولِذَلِك عُنِيَ الفقهاء بتعداد ما حكم عليه مِنْ أعمال وأقوال وما إليهما في دواوين الفقه المعروفة وجعلوا ثمَّةَ باباً مستقلاً في ذَلِك سموه بباب: (الردة) وذكروا فيه ذَلِك كله .
تبيه:
العمل داخل في حقيقة الإيمان وعلى ذلك أدلة.
 
الضابط الثاني / في ثبوت المكفر وقوعاً عمن يراد تكفيره سواء أكان مِنْ آحاد الناس , أو طائفة وجماعة، فلا بد مِنْ التثبت في ذَلِك
فائدة:
الأخذ بالوازم مطرح في باب القذف فمن باب أولى في باب التكفير ولذلك قال الفقهاء قالتهم المشهورة وهي ( أن لازم المذهب ليس مذهبا مالم يلتزمه صاحبه ).
 الضابط الثالث / ما يتعلق بالشروط التي لا بد مِنْ اعتبارها وادّكارها عند تَنْزِيْل حكم الكفر عَلَى إنسان بعينه, أو عَلَى طائفة بعينها.

فائدة:
إن مراعاة قواعد شروط وقيود التَكْفِيْر إنما تكون مَع مِنْ ثبت له عقد الإسلام بيقين، وهي قاعدة متفق عليها؛ ذكرها شيخ الإسلام, والحافظ ابن حجر-يرحمهما الله-، بل ذكرها بعض الفقهاء في باب الردة؛ إشارة مِنْ بعضهم إِلَى ذَلِك.
وعليه فمن لم يدخل في الإسلام أصلاً , أو لم يثبت دخوله في الدين مِنْ حيث الأصل فإن ذَلِك لا يراعى معه؛ لأن الأصل فيه استبقاء كفره خِلافاً لمن كان قد دخل في الإسلام بيقين، وبشيء واضح مبين، فإن ذَلِك لا يُخْرَج عَنْ الدين والإسلام، ويُسْتَبْقَى إسلامه وإيمانه عَلَى ما هو عليه.

وشروط التَكْفِيْر تعدادها خمسة؛ أجملها الأئمة والفقهاء:
 الشرط الأَوّل: أن يكون الذي يراد تكفيره عاقلاً؛
 الشرط الثاني: فهو البلوغ – أي بلوغ سن الاحتلام –، وهَذَا هو الذي عليه الجمهور والأكثرون؛ مِنْ أن الصبي المميز أو مِنْ راهق العاشرة مِنْ سني عمره وهو دون سن الاحتلام؛ فإنه لا يكون كافراً مرتداً؛ إذا قال قالة كفر أو فعل فعلاً يوجب خروجه مِنْ ملة الإسلام.
وهَذَا هو الذي عليه أكثر الفقهاء عَلَى ما حكاه جماعة، ومن أولئك الموَفْق ابن قدامة -يرحمه الله- في [المُغْنِي] في باب الردة، وهو مذهب المالكية عَلَى المُعْتَمَد والمشهور قرره عنهم جماعة؛ ومن أولئك الدسوقي في: [حاشيته]( ، وكذا هو مذهب الشافعية عَلَى المُعْتَمَد والمشهور؛ قرره عنهم جماعة؛ ومن أولئك: رملي الصغير في [نهاية المحتاج](.
وكذلك هو المرجوع إليه في مذهب الإمام أبي حنيفة-يرحمه الله-،"واعتمده متأخرو أصحابه عَلَى ما قرره واعتمده جماعة؛ ومن أولئك: ابن عابدين-يرحمه الله- كما في حاشيته المشهورة، وهي رواية مُعْتَمَدة عَنْ الإمام أحمد -يرحمه الله-حكاها في:[الإنصاف] حكاية اعتماد. فهَذَا المذهب هو مذهب الجمهور والأكثر.
وأما الحنابلة فإنهم قد خالفوا في ذَلِك عَلَى المشهور المُعْتَمَد عنهم؛ حيث إن الصبي إذا مَيَّز ولم يناهز الاحتلام ووقعت منه الردة وحكم عليه بأنه مرتد، ثم إذا بلغ يستتاب ثلاثاً، فإن تاب كانت عودته صحيحة، وإلا فيقام عليه الحكم مِنْ قبل ولي أمر المسلمين أو مِنْ ينوّبه مِنْ نوّابه، قرر ذَلِك مذهباً للحنابلة جماعات، ومن أولئك: المرداوي -يرحمه الله- كما في:[الإنصاف] ، وهَذَا هو المشهور عند الحنابلة.
إلا أن القول الأَوّل هو الأقرب والمشهور
 الشرط الثالث: أن يكون المحكوم بردته مختاراً وضده المكره.
وقد قرر اعتبار الاختيار عند تَنْزِيْل التَكْفِيْر عند آحاد الناس أو طوائف معينة وجماعات أَهْل السُنَّة والجَمَاعَة، وممن حكى ذَلِك عنهم وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية -يرحمه الله- وهو عنه مشهور، ومن المواضع التي ذكر فيها ذَلِك وقرره وانتصر له وحرره: [الاستقـامة] ، وكذا في [مجموع فتاويه].

أما وذَلِك كذَلِك فإن هُنَاك تنابيه لا بد أن تُعْرَف:
 أَوَّلُهَا: أن الإكراه شرط، فليس كل وعيد وتهديد يقع به مسمى الإكراه,
فللإكراه شرط وقد ذكره الفقهاء في بحث مَسْأَلَة الإكراه عَلَى الطلاق في كتاب الطلاق، وأتوا عَلَى ذَلِك، وقد لخص الموَفْق ابن قدامة -يرحمه الله- شرط الإكراه وأطنب كما في كتابه: [المُغْنِي]، حيث قال -وفي كلامه طول_؛ إلا أنه لأهميته وحصره للشروط نذكره بنصه- قال:’’ومن شروط الإكراه ثلاثة أمور (في بعض النسخ وشرط الإكراه ثلاثة أمور):
 أحدها: أن يكون مِنْ قادر – أي عَلَى تنفيذ ما توعد المرء به وخُوُّف بشأنه- قادر لسلطان أو تغلب كاللص ونحوه.
 ثَانِيْهَا: أن يغلب عَلَى ظنه نزول الوعيد به إن لم يجبه عَلَى ما طلبه،‘‘؛ وفرق بين ظن يتأرجح بين الوقوع وعدمه، وبين آخر اطمأنت النفس إِلَى وقوعه وهو ما يسميه جمهور الفقهاء بغالب الظن، فكيف إذا تيقن المرء وقوعه وَفْق الأسباب المتاحة والمقايسات المحسوسة، فإن ذَلِك آكد وهو بالحكم أولى. ثم قال - يرحمه الله -:
 ’’الثالث: أن يكون مما يتضرر به ضرراً كثيراً، كالقتل والضرب الشديد والقيد والحبس الطويل، فأما الشتم والسب فليس بإكراه؛ رواية واحدة – أي عَنْ الإمام أحمد-يرحمه الله-، وكذَلِك أخذ المال يسير، فأما الضرب اليسير فإن كان مِنْ حق مِنْ لا يبالي به فليس بإكراه، وإن كان في بعض ذوي المروءات عَلَى وجه يكون إِخراقاً – أي حمقاً – وما إليه وغضاً له وشهرةً في حقه فهو كالضرب الكثير في حق غيره، وإن توعد بتعذيب ولده فقد قيل ليس بإكراه؛ لأن الضرر لاحق بغيره؛ والأَوّلى أن يكون إكراها؛ لأن ذَلِك عنده أعظم مِنْ أخذ ماله، والوعيد بذَلِك إكراه فكذَلِك هَذَا‘‘.
فتلك الشروط وإن كانت مذكورة في سياق شروط الإكراه في مَسْأَلَة الطلاق؛ إلا أن أصلها مُعْتَمَد في مَسْأَلَة الردة والتَكْفِيْر عَلَى ما ذكره الفقهاء، وقد قرره عَنْ الشـافعية جماعة ومن أولئك:الرملي الصغير كما في [نهاية المحتاج] ، وكذا قرره عَنْ الحنابلة جماعة؛ ومن أولئك الرحيباني في[شرحه عَلَى غـاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى]( وبمثله البهوتي في [كشاف القناع]. بل هو مشهور عند الأئمة وشرَّاح الأحاديث، وقد أتى عَلَى ذَلِك جماعة تعداد لتلك الشروط المذكورة،ومن أولئك الحـافظ ابن حجر-يرحمه الله- كما في[فتح الباري] ).
 الشرط الرابع : هو ما يتعلق بالتأويل: فإن المرء إذا كان متأولاً في إلقائه قالة كفر أو المجيء بفعل ردة؛ فإنه يعذر ولا يكفر، ويدل عَلَى الأخذ بشرط عدم كونه متأولاً دلالتان:
 الدِلالَة الأَوّلى: فالعفو عَنْ الخطأ؛ إذ يدخل فيه التأول عند عامة الفقهاء، وقد تواترت الأدلة الشَّرْعِيَّة عَلَى العفو عَنْ الخطأ،
 الدِلالَة الثانية: فهي دِلالَة الوقائع زمن التشريع حيث إن هُنَاك وقائع -وقعت زمن التشريع- عذر أصحابها بتأولهم، ولم يُدْخل عليهم وصم التَكْفِيْر، أو يوقع عليهم.
.
ومن ذَلِك قصة حاطب ابن أبي بلتعة  ورحمه
الدلالة الثالثة: ما عليه جماعات من أهل السنة من عدم تكفير المتأول ومن أولئك شيخ الإسلام كما في( منهاجه) وكذا الموفق في ( المغني ) والخطابي في ( السنن الكبرى )

فائدة:
إذا تَبَيَّنَ ذَلِك، وأن التأويل لا بد مِنْ ثبوته -عند إنزال التَكْفِيْر-: أي مِنْ تحقق كون المرء متأولاً أم لا ؟.
فإن للتأول السائغ ضابطاً فما كل تأول يعذر صاحبه فالتأويل السائغ له ضوابط وجماعها ضابطان:
 الأَوّل: فهو أن يكون سائغا في لسان العرب – أي عَلَى ما قرره العرب- ومعرفة ذَلِك يرجع فيها إِلَى القواعد العربية، وفي ذَلِك قواعد متبعة وضوابط معروفة، فلا يصار إِلَى تقعيد جديد، فيبتدع شيء مِنْ الضوابط -يأتي به الإنسان-؛ تسويغاً لفلتة لسان أو لرأي وقع في الجنان، ولا ريب أن المعوّل عَلَى القواعد .
 وأما الثاني: فهو أن يكون له وجه في العلم ، و(أل) هنا عهدية ؛ أي العلم المعهود عَنْ العلماء في تَقْرِير مَسَائِل العلم ,وتقنين مباحثه وإلى ذَلِك يرجع؛ لا أن المراد أن يحدث الإنسان لرأي أو النص الشرعي مطلقاً فهوماً محدثة، ثم يبني عليها أنه علم، فيأخذ رأي جهم بن صفوان الأفين ، أو يأخذ رأي الجعد بن درهم أو غير ذَلِك، ثم يقول: تلك قالات قيلت ونبني عليها صحائح المَسَائِل.
وقد قرر ذلك جماعات ومن أولئك الحافظ ابن حجر كما في ( الفتح )والإمام الأصفهاني كما في ( الحجة في بيان المحجة ).
 
الشرط الخامس: أن تقوم الحجة وتبين المحجة لمن يراد تَنْزِيْل التَكْفِيْر عليه لقالة قالها أو لفعل فعله يوجب الكفر في ذَلِك.
واعتبار الحجة وتبين المحجة في ذَلِك قرره الأئمة ومن ألئك الحافظ ابن حجر كما في الفتح ناقلا قول الامام الشافعي وكذا ابن قدامة في ( المغني ) وشيخ الاسلام في ( الفتاوي ).

فوائد وتنابيه:
 أَوَّلُهَا: أن بلوغ الحجة وبيانها يختلف مِنْ شخص لآخر وبلد لآخر وحال الأخرى وزمن لتال له، وهَذَا أمر مقرر عند الأئمة ومن أولئك ابن القيم كما في [طريق الهجرتين]
 ثانيها: أن محل العذر بالجهل إذا لم يفرط المرء أو يقصر في معرفته للحجة, وإلى ذَلِك أشار الفقهاء ومن أولئك ابن اللحام "يَرْحَمُه الله"-يرحمه الله-كما في [القواعد والفوائد الأصولية] الله"وقرر ذَلِك أيضا المقري المالك -يرحمه الله- "يَرْحَمُه الله"في كتابه [القواعد]
ثالثا: ضابط الجهل
بيّنه الإمام القرافي المالكي -يرحمه الله- "يَرْحَمُه الله"كما في [الفروق] حيث قال: (وضابط ما يعفى عنه مِنْ الجهالات الجهل الذي يتعذر الاحتراز عنه عادة وما لا يتعذر الاحتراز عنه ولا يشك لم يعف عنه) كذا قال وأصل هَذَا الضابط أن يحمل عَلَى الفروع إذ إن الفروق عَلَى هَذِه الباذة وعَلَى تلك الجاذة، ولكن هو صالح للعموم والعقائد أصل ثابت في عدم عذر الإنسان بها أعني أصل الدين أصل الإيمان واجب الذي به يدخل الإسلام وبفقده يخرج منه
رابعاً : أن بلوغ الحجة دون فهما لا تكفي وقد دل على ذلك دل شيئان:
 الشيء الأَوّل: فهو ما جاء في الأخبار مِنْ عذر غير العاقل
 الشيء الثاني: فما ذكره الأئمة مِنْ الصحابة فمن بعد في مراعاة عقول الناس عند مخاطبتها بالشريعة ومن ذَلِك ما خرجه البخاري معلقا أن سيدنا عليا  ورحمه قال خاطبوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله...
خامساً: ما يتعلق بمَسْأَلَة ما هو مِنْ الدين بالضرورة علما وما هو منه عَلَى ذَلِك الحكم الموصوف معرفة، فإن إنكاره وجحده لا ريب أنه كفر أكبر يخرج مِنْ ملة الإسلام مِنْ حيث الأصل، وقد قرر الأئمة ذَلِك اتفاقا، وممن قرر ذَلِك: الإمام النووي -يرحمه الله- "يَرْحَمُه الله"كما في شرحه عَلَى [مسلم]
إلا أنه لا بد أن يعلم في ذَلِك شيئان:
 الشيء الأَوّل: أن حكم كون كذا قد علم مِنْ الدين ضرورة وانتشر واشتهر أمر يتفاوت الناس فيه في أحوال وأماكن وأزمنة أحيانا؛ وقد قرر ذلك جماعات ومن أولئك شيخ الإسلام في ( الفتاوي )
 الشيء الثاني: فهو أن الأصل هو الحكم عَلَى جاحد مبادئ الدين وضروراته المعروفة الحكم عليه بالكفر إن هو جحدها التمسك بالأصل شيء ومراعاة الاستثناءات الواردة نبه إليه سابقا ,وقد قرر ذلك جماعات؛ ومن أولئك الموفق_ يرحمه الله_ في ( المغني )
سادساً: أن الأخذ بالتَكْفِيْر بالمآل غلط و شطط وقد حكم عليه الأئمة بالغلط، والمراد بالتَكْفِيْر بالمآل هو ما شرحه الأئمة شرحا مبينا؛ ومن أولئك ابن رشد الحفيد -يرحمه الله- "يَرْحَمُه الله"في كتابه [بداية المجتهد ونهاية المقتصد] حيث قال: (والمعنى بالتَكْفِيْر بالمآل أنهم لا يصرحون بقول هو كفر ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر وهم لا يعتقدون ذَلِك اللزوم) وعليه فإن المآل للتَقْرِيرات شيء وما يقرر نصا شيء.

وحقيقة التَكْفِيْر بالمآل مركبة مِنْ شيئين:
 الأَوّل: أن لا ينص عَلَى هَذَا المآل ممن يراد تكفيره به.
 الثاني: فهو أن يكون مقتضيا للقول أو لوازمه وتبعاته.
ومن أمثلة ذَلِك: أن يأتي إنسان إِلَى دولة مسلمة ذات حاكم مسلم يحكم بشرع الله ثم يقول: إننا نرى البنوك الربوية قائمة وعليها حراس شداد وهَذَا يدل عَلَى الاستحلال، فأخذ باللازم والمقتضى وهَذِه مغالطة لما سبق؛ إذ إن التَكْفِيْر لا يكون بذَلِك؛ ولِذَلِك قال الأئمة ومن محاسن عباراتهم ما قاله ابن حزم -يرحمه الله- "يَرْحَمُه الله"في كتابه [الفصـل في الملل والنحل] حيث قال: (وأما مِنْ كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ؛ لأنه كذب عَلَى الخصم وتقويل له ما لم يقل به وإن لزمه فلم يحصل عَلَى غير التناقض فقط والتناقض ليس كفرا بل قد أحسن إذ قد فر مِنْ الكفر) وقرر ذلك الشاطبي في ( الإعتصام )
سابعاً: أن يؤخذ بقاعدة المقاصد وهي قاعدة عامة في الشرع مبنية عَلَى إجماعات
ثامناً: أن الأصل عند أَهْل السُنَّة والأثر وعند الفقهاء جملة أنهم يرعون أن الحكم عَلَى الظواهر وأن البواطن توكل إِلَى الله.
تاسعاً: ما يتعلق بالمَسَائِل العلمية الفرعية التي تذكر عادة في الفروع فإن ذَلِك مما حكم الشارع بكفر صاحبه أو ذكر الأئمة أنه يكفر بتلك القالة أو ذَلِك الفعل وما إليه مرجعه أصالة إِلَى كتب الأئمة الثقات والفقهاء وقد بوب الفقهاء بابا سموه (باب الردة) جمعوا فيه ما به يحكم عَلَى المرء بالردة مِنْ أعمال وأقوال وما إليهما وقد ذكر جمع مِنْ الأئمة كالبهوتي -يرحمه الله- "يَرْحَمُه الله"في كشاف القناع

المحور الثالث: : شبهات وردود
شبهات التكفير كثيرة ؛ إلا أن جماع ذَلِك عَلَى وجه اشتهار ثلاثة شبه:
 الشبهة الأَوّلى:
أن كثيرين يتساهلون في تكفير الأفراد, أو الآحاد, أو الجماعات بناء عَلَى شبهة عندهم وهي أننا نسوّي بين الدخول في الإسلام والخروج منه، فنقبل مِنْ المرء الذي هو كافر أصلي أن يتشهد الشهادتين ونحكم حينئذ بعصمة دمه, وماله وما يتبعه، ونقول إنه مسلم عَلَى ما يتبعها مِنْ استكمال أصل الدين المعروف اشتهارا أو اظهارا، فكذَلِك هو العمل مَع مِنْ نريد أن نخرجه، يكفي أن نأخذ منه قالة أو نظفر منه بفعل يظهره أو نحو ذَلِك تسوية بين المدخل والمخرج، ولا ريب أن ذَلِك خطأ إذ إن الشارع منه تؤخذ الأحكام، ومضى تَقْرِير شيئين:
 الشيء الأَوّل: فهو أن التَكْفِيْر مَسْأَلَة شرعية لا بد أن تؤخذ مِنْ الشارع لا مِنْ غيره، والشارع قد فرق بين المدخل والمخرج، في الإسلام، فهَذَا يقبل فيه بما يظهره والنطق بالشهادتين أوله.
 الشيء الثاني: فهو المخرج – أي الخروج مِنْ الدين أو الردة، فهَذَا لا بد فيه مِنْ أحكام وتَنْزِيْل مِنْ ثبت له عقد الإسلام بيقين، فلا يخرج منه إلا بيقين، وهَذِه القاعدة سبق التدليل عليها وتثبيتها، فإذا كان ذَلِك كذَلِك فلا يصح أن يقال: المخرج كالمدخل ونكتفي بالظاهر ولا نبحث عَنْ تلك الضوابط أو الشروط التي تعبنا مِنْ ملاحقة فهمها ومعرفة قيودها ولا شك أن هَذِه مغالطة.

 الشبهة الثانية: هو أن يتحجج المرء بالمطلقات, أو بالعمومات سواء أكان في نص الشارع, أم كان في نصوص الأئمة، فيأخذ بعض النصوصات الشَّرْعِيَّة في التَكْفِيْر مِنْ فعل كذا فهو كافر ونحوها، فينزلها منزلة التعليم، وكذَلِك يأخذ عَنْ الأئمة كالإمام أحمد مِنْ قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر أو مِنْ قال بالقدر – أي نفى العلم القديم فهو كافر وهكذا، فيأخذ بهَذِه المطلقات لينزلها عَلَى أربابها أو يقول: كفر الجهمية فكل مِنْ انتسب إليهم فهو عَلَى حكمهم وهكذا، وهَذِه مغالطة؛ إذ إن هُنَاك تفريقا ومضى تَقْرِير مَسْأَلَة أن فرق الأمة: أمة الإجابة المسماة بأَهْل القبلة لا تخرج مِنْ دائرة الإسلام بأعيانها؛ وإنما هي متوعدة بالنار، ومضى حديث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المخرج عند أحمد في [المسند] وعند أصحاب السنن الأربعة سوى النسائي وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح وصححه الحاكم في آخرين وفيه يقول عليه الصلاة والسلم: [وستفترق أمتي عَلَى (73) فرقة كلها في النار إلا واحدة] يقول عَنْ ذَلِك شيخ الإسلام ابن تيمية-يرحمه الله- "يَرْحَمُه الله" في [مجموع فتياه] في  [الإيمان] يقول: (ومن قال إن الثنتين والسبعين فرقة كل واحدة منهم تكفر تكفيرا ينقل عَنْ الملة فقد خالف الكتاب والسُنَّة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم مِنْ كفر كل واحدة مِنْ الثنتين والسبعين فرقة؛ وإنما يكفر بعضهم بعضا مِنْ تلك الفرق ببعض المقالات) كذا قال -يرحمه الله- "يَرْحَمُه الله"، ومن ثم يستبين أن التمسك بالمطلقات في نص الشارع أو نصوص الأئمة الثقات المتقدمين مَع ترك القيود والشروط والضوابط مغالطة، المغالطة اصطلاح منطقي عند أَهْل النظر يقصد به رد الحجة البينة بالصدر، وهَذَا هو ما يسمى بالمغالطة وعليه فإن تلك الشبهة تكون هاوية بما سبق.

 ثالث الشبه: أن يقع تثبيت التلازم بين الظاهر والباطن، فيقول المرء: لا يقولنَّ امرؤ بكذا إلا وهو معتقد له، ولا يمكن أن يفعل كذا إلا وقد تبطَّن به، فيحكم عليه بالكفر الأكبر والردة ويخرجه مِنْ دائرة الإسلام؛ لهَذَا التلازم الذي ذكره، لا ريب أن هُنَاك تلازما مِنْ حيث الجملة والأصل في مَسْأَلَة الظاهر والباطن سبق طرف منها كالذي يدعي الإيمان وليس عنده شيء مِنْ جنس العمل، هَذَا ممتنع كما ذكره جمع ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية "يَرْحَمُه الله"-يرحمه الله-، وسبق قريبا.
وأما الغلو في ذَلِك، فيجعل التلازم حتما في آحاد الأشـياء ومع كل في جميع الحالات، فإن ذَلِك هو فعل الخوارج كما ذكره شيخ الإسـلام ابن تيمية في [مجموع فتياه) في موضعه السابق وكذا جماعة، وقد عرف الخوارج بشيئين مِنْ حيث العمل:
 الأَوّل: فعدم سعة العلم؛ إذ إن لهم فقها ضيق النطاق لا يأخذون إلا بالظواهر دون تعريج عَلَى ما يثبته الفقهاء والأئمة مِنْ الصحابة والسلف الصالح فمن بعد.
 الثاني: فهو أنهم يجعلون التلازم بين الظاهر والباطن تلازما لا محيز عنه، فكفروا أصحاب الكبائر ووقعوا موقعا معلوما اشتهارا؛ ولِذَلِك وقع منهم القتل لأصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أو لأبناء الصحابة وقتل لجماعات مِنْ الصدر الأَوّل.
وهنا ينبه إِلَى زلَّة يقع فيها بعض مِنْ الناس وهو ينافح عَنْ ذَلِك، ألا وهو أن يفرط في مَسْأَلَة التَكْفِيْر، فلا يعمل مَسْأَلَة التَكْفِيْر عملها بضوابطها وشروطها التي سبقت فيأخذ بالمذهب الإرجاء الباطن فيجعل أن الإنسان ما دام أنه عنده مجرد المعرفة أو أنه قال لا إله إلا الله كاف بذَلِك وقد اشتهر عَنْ الإمام المجدد داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب "يَرْحَمُه الله"-يرحمه الله-وأئمة الدعوة في ذَلِك أنهم كانوا ينكرون هَذَا الإرجاء وهَذَا التفريط الذي وقع فيه كثير مِنْ الناس وقت إذ فترى أحدهم ينخدع بقول بعضهم لا إله إلا الله وعنده كفريات توجب خروجه مِنْ ملة الإسلام فلا إله إلا الله لا ينتفع بها قائلها إلا إذا كان قد نطق بها حقا وأتى بشروطها صدقا فإن ذَلِك وثيق الإيمان صحيح المجيء بأصل الدين مَع ما يعتبر في مَسْأَلَة أصل الديانة التي نوه إليها مرارا فبين الغلو والجفاء مسلكك يا صاحب السُنَّة بين الإفراط والتفريط لتكن كذَلِك في أمرك وشأنك هي الوسطية التي عرف بها خير البرية ومن سلك مسلكه مِنْ أصحاب السُنَّة والهدى تاركين البدعة والهوى تلك شبهات هي جماع ما اشتهر مِنْ شبهات عمن وقع في التَكْفِيْر مَع التذيل الأخيرة الذين فرطوا ولم يعملوا التَكْفِيْر عمله الصحيح.
وهَذَا والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك عَلَى سيدنا محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

تلخيص الفقير إلى عفو ربه:
أبو عزام
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
صالح الأسمري
  • زاوية الفتاوى
  • زاوية المقالات
  • زاوية المحاضرات
  • زاوية الكتب
  • الصفحة الرئيسية