قال ابن رجب – رحمه الله – :
الأقسام ثلاثة :
راشد ، وغاو ، وضال
فالراشد
عرف الحق واتبعه
والغاوي
عرفه ولم يتبعه
والضال
لم يعرفه بالكلية
فكلُّ راشدٍ هو مهتد ، وكل مهتدٍ هدايةً تامة فهو راشد ؛ لأن الهداية إنما
تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضا . انتهى كلامه .
وقال رحمه الله :
وإنما وَصَـفَ – يعني النيّ صلى الله
عليه وسلم - الخلفاءَ بالراشدين – في الحديث - ؛ لأنهـم عـرفـوا الحق وقضوا
به ، والراشد ضد الغاوي ، والغاوي من عرف الحق وعمل بخلافه . اهـ .
وقد وصَف الله أتباع إبليس بأنهم من الغاوين ، فقال : ( إِنَّ عِبَادِي
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ )
وقال : ( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا
كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ
يَنتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ
إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ )
ووصَف الله الذي أوتيَ الآيات فردّها بأنه من الغاوين ، فقال : ( وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا
فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ )
وفَرْقٌ بين الغواية والضلالة .
فلم يَـرِد وصف أحد من أنبياء الله بالغواية ولا بالضلال البعيد ولا بالضلال
المبين .
وقد قال قوم نوح لنوح عليه الصلاة والسلام : ( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ
مُّبِينٍ ) فنفى عن نفسه الضلال ، وقال : ( يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ
)
وقال الخليل عليه الصلاة والسلام لقومه : ( لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ
وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ )
ولما قال فرعون لموسى : ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ
مِنَ الْكَافِرِينَ )
ردّ عليه موسى بقوله : ( فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ )
أي قبل النبوة وقبل أن يمتنّ الله عليّ بالرسالة .
وأما قوله تعالى في شأن نبيِّه صلى الله عليه وسلم : (وَوَجَدَكَ ضَالاً
فَهَدَى ) فهذا يُفسّره قوله تعالى : ( مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ
وَلا الإِيمَانُ ) أي قبل النبوة ( وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ
مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا )
وقد نفى الله عز وجل الضلال والغواية عن نبيّـه ، فقال سبحانه : ( مَا ضَلَّ
صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى )
وهذا نفي للضلال ، ويُراد به أحد أمرين :
الأول : نفي الضلال بعد البعثة .
والثاني : نفي الضلال المبين ، والذي وصفه سبحانه بـ ( الضلال البعيد ) وبـ (
الضلال المبين )
فهذا منفيٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير – رحمه الله – :
وقوله تعالى ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ
وَمَا غَوَى ) هذا هو المقسم عليه وهو الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم
بأنه راشد تابع للحق ليس بضال وهو الجاهل الذي يسلك طريق بغير علم ، والغاوي
هو العالم بالحق العادل عنه قصدا إلى غيره فنـَـزّه الله رسوله وشرعه عن
مشابهة أهل الضلال كالنصارى ، وطرائق اليهود وهي علم الشيء وكتمانه والعمل
بخلافه، بل هو صلاة الله وسلامه عليه وما بعثه به من الشرع العظيم في غاية
الاستقامة والاعتدال والسداد . انتهى كلامه .
ولما كانت السبل ثلاثة ( راشد وضال وغاوي ) كانت الطرق ثلاثة
ولذا فإن المصلّي يقرأ في كل ركعة : ( اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ *
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ
الضَّالِّينَ )
فيسأل ربّـه هداية الصراط المستقيم الأقوم
ويستعيذ بالله من صراط المغضوب عليهم ، وهم ( اليهود )
ومن صراط الضالين ، وهم ( النصارى )
وإن أعجب فعجبي من أقوام يُكررون هذه الاستعاذة ما يزيد على سبع عشرة مرة في
كل يوم وليلة ثم تراهم يسيرون بسير الغرب الكافر ، ويهتدون بهديه ، ويقتدون
ببغاياه وبُغاتـه !
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق
والعصيان ، واجعلنا من الراشدين .