يتلذذ الناس بما يتلذذون به
ويستمتعون بما يستمتعون به
ويجدون لـذة أنفسهم فيما يشتهون ويرغبون
غير أن تلك اللذائذ زائلة فانية بل منها ما ينقلب إلى حسرات باقية
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها = من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها = لا خير في لذة من بعدها النار
فتحصيل المعصية له تعب وتبِعات
والقيام بالطاعة يكتنفه تعب ومشقة
وفي المعصية لـذّة ، وفي الطاعة لـذّة
ولكن بعد المعصية انقباض نفس وضيق صدر وتأنيب ضمير
وبعد الطاعة لـذّة وفرح وسرور بأداء العبادة
فما الذي يبقـى ؟
وأي لـذة تبقى ؟
تبقى لـذة العـبادة
تبقى لـذة طلب العلم
تبقى لـذة الأُنس بالله
تبقى لـذة مرافقة الأخيار
وتلك لعمر الحق أكمل لـذّات الدنيا
أنظر إلى حال أكمل البشر
انظر إلى حال سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام أين وجـد اللـذة ؟
وكيف سأل ربها إيـاهـا ؟
كان عليه الصلاة والسلام يجـد راحة نفسه وقـرّة عينه في الصلاة
فقد كان يقول لبلال : أرحـنـا بها . يعني بالصلاة
وكان يقول : وجُعِلت قـرّة عيني في الصلاة .
وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام : اللهم وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق
إلى لقائك في غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة . رواه الإمام أحمد والنسائي .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وَلَيْسَ لِلْقُلُوبِ سُرُورٌ وَلا
لَذَّةٌ تَامَّةٌ إلا فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِمَا
يُحِبُّهُ .
وقال أيضا : فَإِنَّ اللَّذَّةَ وَالْفَرْحَةَ وَالسُّرُورَ وَطِيبَ
الْوَقْتِ وَالنَّعِيمَ الَّذِي لا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ إنَّمَا
هُوَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ
وَالإِيمَانِ بِهِ : وَانْفِتَاحِ الْحَقَائِقِ الإِيمَانِيَّةِ
وَالْمَعَارِفِ الْقُرْآنِيَّةِ .
كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ : لَقَدْ كُنْت فِي حَالٍ أَقُولُ فِيهَا :
إنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ إنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ
طَيِّبٍ .
وَقَالَ آخَرُ : لَتَمُرُّ عَلَى الْقَلْبِ أَوْقَاتٌ يَرْقُصُ فِيهَا
طَرَبًا وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا نَعِيمٌ يُشْبِهُ نَعِيمَ الآخِرَةِ إلا
نَعِيمَ الإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَة . انتهى كلامه رحمه الله .
ولك أن تتصوّر أين قال شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك الكلام ؟
قاله وهو في السـجـن !
وتوجد اللذة في طلب العلم وتحصيله
قال الإمام العلم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله :
سهري لتنقيح العلوم ألـذّ لي = من وصل غانية وطيب عنـاق
وصرير أقلامي على صفحاتها = أحلى مـن الدّّوْكـاء والعشـاق
وألذ من نقر الفتـاة لدفهـا = نقري لألقي الـرمل عـن أوراقي
وتمايلي طربـا لحل عويصة = في الدرس أشهى من مدامة ساق
وأبيت سهـران الدجى وتبيته = نومـا وتبغي بعـد ذاك لحـاقي
وتأمل هذا المجلس من مجالس العلم
والمناظرة
قال أبو الحسن بن فارس : سمعت الأستاذ
ابن العميد يقول : ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوةً ألـذَّ من الرياسة
والوزارة التي أنا فيها حتى شهدت مذاكرة سليمانَ ابنِ أيوب بن أحمد الطبراني
وأبي بكر الجِعَابي بحضرتي فكان الطبراني يَغلب بكثرة حفظه ، وكان الجعابي
يَغلب الطبراني بفطنته وذكاء أهل بغداد ،حتى ارتفعت أصواتُهما ولا يكاد
أحدهما يغلب صاحبَه فقال الجعابي : عندي حديث ليس في الدنيا إلا عندي ، فقال
: هاتِه ، فقال : حدثنا أبو خليفة حدثنا سليمان بن أيوب وحدّث بالحديث ، فقال
الطبراني : أنا سليمان بن أيوب ومني سمع أبو خليفة ، فاسمع مِنِّي حتى يعلو
إسنادك
فإنك تروي عن أبي خليفة عني ، فخجل الجعابي وغلبه الطبراني .
قال ابن العميد : فودِدتُّ في مكاني أن الوزارة والرياسة ليتها لم تكن لي
وكنت الطبراني وفرحت مثل الفرح الذي فَرِح الطبراني لأجل الحديث . رواه
الخطيب في تاريخ بغداد .
قال ذلك ابن العميد ، ومن هو ابن العميد ؟
قال عنه الذهبي في السير : الوزير الكبير ، وقال أيضا : كان عجباً في الترسّل
والإنشاء والبلاغة ، يُضرب به المثل ، وقيل : بُدئت الكتابة بعبد الحميد
وخُتِمت بابن العميد .
بل تأمل مجلس خليفة من خلفاء المسلمين
قال يحيى ابن اكثم : قال الرشيد : ما أنبل المراتب ؟
قلت : ما أنت فيه يا أمير المؤمنين .
قال : فتعرف أجل مني ؟
قلت : لا .
قال : لكني اعرفه ! رجل في حلقه يقول : حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله .
قلت : يا أمير المؤمنين أهذا خير منك ؟ وأنت ابن عم رسول الله وولي عهد
المؤمنين ؟
قال : نعم . ويلك هذا خير مني ؛ لأن اسمه مقترن باسم رسول الله لا يموت أبدا
، ونحن نموت ونفنى ، والعلماء باقون ما بقي الدهر .
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله :
لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا إذاً
بالسيوف .
أتدرون متى قال ذلك ؟
بعد أن فرغ من أكل كُسيرات يابسات ثم شرب من النهر !
قال بعض الصالحين : مساكين أهل الدنيا ! خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها .
قيل له : وما هو ؟
قال : معرفة الله عز وجل .
فحُـقّ للصالحين أن يبحثوا عن اللـذّة الحقيقية ، كما يبحث عُـبّـاد الشهوات
عن اللذائذ المُحرّمة
والله ولي الصالحين .