أولئك أقوام لا قيمة لهم في موازين الجاهلية
حتى كان أحد صناديد الجاهلية يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إن سرّك أن
نتبعك فاطرد عنك فلانا وفلانا ، ناسا من ضعفاء المسلمين .
فجاء الأمر من فوق سبع سماوات : ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )
كان هذا في مكة قبل الهجرة
وما زاد بعد ذلك إلا شدّة
قال ابن القيم رحمه الله :
وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان
يُجرّ في الرمضاء على جمر الفتنة ، فنشر بَـزّاً طُوي عن القوم من يوم قوله :
أحد أحد ، ورفع صوته بالأذان فأجابته القبائل من كل ناحية ، فاقبلوا يؤمون
الصوت ، فدخلوا في دين الله أفواجا .
إنني سوف أتحدّث عن رجال أفذاذ الواحد منهم بألف
وواحد كالألف إن أمر عنى
وربما كانوا رجالاً لا قيمة لهم في موازين الجاهلية والجاهلين
ولكنهم انفردوا بالصدارة زمناً ، وبقي ذكرهم أزماناً
حتى كان بعض الخلفاء يتمنى أنه مكان ذلك العالم
لما ابتنى معاوية بالأبطَح مجلسا جلس عليه ومعه ابنه قُرَظَة ، فإذا هو
بجماعة على رحال لهم ، وإذا شاب منهم قد رفع عقيرته يتغنى :
من يساجلني يساجل ماجداً *** يملأ الدلو إلى عقد الكُرب
قال : من هذا ؟ قالوا : عبدالله بن جعفر ، قال : خلُّوا لـه الطريق ، ثم إذا
هو بجماعة فيهم غلام يتغنى :
بينمـا يذكـرنني أبصـرنني *** عند قِيد الميل يسعى بي الأغر
قلن تعرفن الفتى ؟ قلن : نعم *** قد عرفناه وهل يخفى القمـر
قال : من هذا ؟ قالوا : عمر بن أبي ربيعة ، قال : خلُّوا لـه الطريق فليذهب .
قال : ثم إذا هو بجماعة وإذا فيهم رجل يُسأل ، فيقال لـه : رميت قبل أن أحلق
؟ وحلقت قبل أن أرمي ؟ في أشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج ، فقال : من هذا ؟
قالوا : عبد الله بنُ عمر ، فالتَفَتَ إلى ابنه قُرَظَة وقال : هذا الشرف .
هذا والله شرف الدنيا والآخرة .
هكذا يُثير معاوية في ابنه ما يُثير
ويُربي فيه ما يُربي
من حُبّ العلم ، ورفعة أهله
حتى حلف له : إن هذا لهو الشرف !
وكأنه يُشير إليه من طرف خفي : ليس فيما فيه أبوك !
وهذا خليفة آخر يُشير بتلك الإشارة
قال إبراهيم الحربي كان عطاء ابن أبي رباح عبداً اسود لامرأة من مكة ، وكان
أنفه كأنه باقلاّء ! فجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو
وابْـنَـاهُ ، فجلسوا إليه وهو يصلي ، فلما صلى انفتل إليهم ، فما زالوا
يسألونه عن مناسك الحج ، وقد حول قفاه إليهم ، ثم قال سليمان لابْنَيه : قوما
، فقاما ، فقال : يا بَنيّ ! لا تَـنِـيا في طلب العلم ، فإني لا أنسى ذلّـنا
بين يدي هذا العبد الأسود !
إن الذي رفعه هو العلم
قال أبو العالية : كنت آتي ابن عباس وهو على سريره وحوله قريش ، فيأخذ بيدي
فيجلسني معه على السرير ، فتغامز بي قريش ، ففطن لهم ابن عباس فقال : كذا هذا
العلم ، يزيد الشريف شرفا ، ويجلس المملوك على الأسرّة !
وذاك مولى ! رفعه القرآن وعلم الكتاب والسنة
روى مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يستعمل نافع بن عبد الحارث على
مكة فَلَقِيَه عمر بعسفان فقال : من استعملت على أهل الوادي ؟ فقال : ابن
أبزى . قال : ومَنْ ابن أبزى ؟! قال : مولى من موالينا ! قال : فاستخلفت
عليهم مولى ؟ قال : إنه قارئ لكتاب الله عـز وجل ، وإنه عالـم بالفرائض . قال
: عمر أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال : إن الله يرفع بهذا الكتاب
أقواما ، ويضع به آخرين .
وهذا عالم آخر وعَلَم فـذّ أصله مولى !
نعم أبوه كان عبداً يُباع ويُشترى !
ولكنه علا وارتفع بالعلم النافع ، علم الكتاب والسنة
لما قَدِم هارون الرشيد الرَّقة انجفل الناس خَلْفَ عبد الله بنِ المبارك و
تقطعت النعال و ارتفعت الغَبَرَة ، فأشرفت أمُّ ولدِ أمير المؤمنين من برجٍ
من قصر الخشب فلما رأت الناس قالت : ما هذا ؟ قالوا : عالمٌ من أهل خراسان
قدم الرَّقة يُقال لـه عبدُ الله بنُ المبارك ، فقالت : هذا والله الملك لا
ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان . رواه الخطيب البغدادي في
تاريخ بغداد .
ذلكم هو العالم المجاهد البطل الذي لا يُشقّ له غبار ، والعالم الذي فاق
الأقران ، هو عبد الله بن المبارك رحمه الله
وذاك علم آخر من أعلام الإسلام ، وإمام من أئمة التابعين
وهو مولى !
لكنه سيّـد من سادات التابعين ، سـاد بالعلم النافع
ذلكم هو الإمام محمد بن سيرين رحمه الله
فمن الذي لا يعرف ابن سيرين رحمه الله ؟
( ولعله يُفرد له ترجمة في مشكاة أعلام النبلاء )
وهذا عالم تولى القضاء بمكة عشرين سنة ، وكانت تهابه الخصوم .
ذلكم هو : محمد بن عبد الرحمن الأوقص عُنقُه داخل في بدنه ، وكان منكباه
خارجين كأنهما زُجّـان فقالت أمه : يا بني لا تكون في مجلس قوم إلا كنت
المضحوك منه المسخور به ، فعليك بطلب العلم ، فإنه يرفعك ، فولى قضاء مكة
عشرين سنة ، وكان الخصم إذا جلس إليه بين يديه يرعد حتى يقوم قال : ومرت به
امرأة وهو يقول : اللهم اعتق رقبتي من النار فقالت له : يا ابن أخي وأيّ رقبة
لك ؟!
فبأي شيء ارتفع هؤلاء ؟
إنما رفع الله قدرهم ، وأعلى ذِكرهم ، بالعِلم النافع
(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
دَرَجَاتٍ )
العلم الذي يُورث الخشية
( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )
العِلم الذي لا يكون مقصوراً ولا محصوراً
بل هم علماء عامّـة
يُعلّمون الناس ، ويُخالطون الناس ، ويصبرون على أذاهم
" المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا
يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم "
وأختم بكلمة إمام أهل السنة يوم قال لأهل البدع :
قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز !
فكم شهِد جنازة ذلك العالم الرباني ؟
على أقل تقدير !
قال فتح بن الحجاج : سمعت في دار الأمير أبي محمد عبد الله بن طاهر أن الأمير
بعث عشرين رجلا فحزروا كم صلى على أحمد بن حنبل ؟ قال : فحزروا فبلغ ألف ألف
وثمانين ألفا ، وقال غيره وثلاث مائة ألف سوى من كان في السفن في الماء .
ذلكم هو الشرف !
ذلكم هو العِلم
وكـفـى .