كثير من الناس لا يتوقّى الظُّلم ولا دعوة المظلوم
ويتناسى أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب .
وأن الله يرفعها فوق الغمام ، ويقول : وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين . رواه
الإمام أحمد وغيره .
فـ لله كم هلك بسببها من هالك
وكم شقي بسببها من سعيد
وكم افتقر بسببها من غني
وكم زال بسببها من مُلك
هذا أحد السابقين إلى الإسلام ، وأحد العشرة المبشرين يدعو على من ظلمه ، فما
مات الظالم حتى رُئى أثر دعاء المظلوم على من ظلمه .
عن عبدُ الملكِ بنُ عُميرٍ عن جابرِ بنِ سَمُرةَ قال : شَكا أهلُ الكوفةِ
سَعدَ بن أبي وقاص إِلى عمرَ رضي الله عنه ، فعزَلَهُ واستعملَ عليهم
عَمّاراً ، فشَكَوا حتى ذَكروا أَنّهُ لا يُحسِنُ يُصلّي ، فأَرسلَ إِليه
فقال : يا أبا إسحاق ! إنّ هَؤلاء يَزعُمونَ أَنّكَ لا تُحسِنُ تُصلّي ! قال
أبو إِسحاق ( سعد ) : أمّا أنا واللهِ فإني كنتُ أُصلي بـهم صلاةَ رسولِ
اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما أخرِمُ عنها ، أُصلّي صلاةَ العِشاءِ
فأَركُدُ في الأُولَيَيْنِ ، وَأُخِفّ في الأُخرَيَينِ . قال : ذاكَ الظنّ
بكَ يا أبا إِسحاقَ ، فأَرسلَ معه رجُلاً – أو رجالاً – إلى الكوفةِ فسألَ
عنه أهلَ الكوفةِ ، ولم يَدَعْ مسجداً إِلاّ سـألَ عنه ، وَيُثنونَ مَعروفاً
، حتى دخلَ مسجداً لِبني عبسٍ ، فقامَ رجلٌ منهم يُقالُ له : أُسامةُ بنُ
قَتادةَ ، يُكْنىَ أَبا سَعدةَ قال : أمّا إِذ نَشَدْتَنا ! فإِنّ سَعداً كان
لا يَسيرُ بالسرِيّةِ ، ولا يَقسِمُ بالسّوِيّة ، ولا يَعدِلُ في القَضيّة .
قال سعدٌ : أَما وَاللهِ لأدْعوَنّ بثَلاثٍ : اللّهمّ إِن كان عبدُكَ هذا
كاذباً قامَ رِياءً وَسُمعةً ، فأَطِلْ عمرَهُ ، وَأَطِلْ فَقرَهُ ،
وَعَرّضْهُ للفِتَنِ ، وكان بَعدُ إِذا سُئلَ يقول: شَيخٌ كبيرٌ مَفتون
أصابَتْني دَعوةُ سعد . قال عبدُ الملكِ بن عمير : فأنا رأيتُه بعدُ قد سَقطَ
حاجِباهُ عَلَى عَينيهِ منَ الكِبَرِ ، وإِنه ليَتعرّضُ للجواري في الطّرقِ
يغمزهُنّ .
وفي رواية : فما مـات حتى عميَ ، فكان يلتمس الجدران ، وافتقر حتى سأل ،
وأدرك فتنة المختار فقُتِلَ فيها . رواه البخاري ومسلم مختصراً .
وسعد رضي الله عنه كان مُجاب الدعوة
فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : أقبل سعدٌ من أرضٍ له ، فإذا الناس عكوفٌ
على رجل ، فاطّلع فإذا هو يسبُّ طلحة والزبير وعلياً ، فنهاه ، فكأنما زاده
إغراءً ، فقال : فقال : ويلك ! تريدُ أن تسـبَّ أقواماً هم خيرٌ منك ؟
لتنتهينّ أو لأدعونّ عليك . فقال :كأنما تخوفُني نبيّ من الأنبياء ! فانطلق
فدخل داراً فتوضأ ، ودخل المسجد ثم قال : اللهم إن كان هذا سبّ أقواماً قد
سبقت لهم منك حسنى ، أسخطك سبُه إياهم ، فأرني اليوم آيةً تكونُ للمؤمنين
آيةً . قال : وتخرج بُختيةٌ من دار بني فلان لا يردُها شيء حتى تنتهي إليه ،
ويتفرّقَ الناسُ ، وتجعلَه بين قوائمها وتطـأه حتى طفـي ، قال : فأنا رأيت
سعـداً يتبعـه الناس يقولون : استجـاب الله لك يا أبا إسحـاق .
قال الإمام الذهبي : في هذا كرامة مشتركة بين الداعي ، والذين نِيلَ منهم .
و عن قَبيصة بن جابر قال : قال ابن عـمّ لنا يوم القادسية :
ألم تر أن الله أنـزل نصـره = وسعدٌ بباب القادسيـة معصَمُ
فأُبنا وقد آمت نساءٌ كثيرةٌ = ونسوةُ سعد ليس فيهن أيّـمُ
فلما بلغ سعداً . قال : اللهم اقطع عنّي لسانه ويده ، فجاءت نُشّابَةٌ أصابت
فاه ، فخرس ، ثم قُطعت يدُه في القتال ، وكان في جسد سعد قروح فأخبر الناس
بعذره عن شهود القتال ، فعذروه ، وكان سعد لا يجبن ، وقال : إنما فعلت هذا
لما بلغني من قولكم .
وهذا أحد السابقين ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة يدعو على امرأة ظلمته
فيستجيب الله دعاءه
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنّ أَرْوَىَ بِنْتَ أُوَيْسٍ
ادّعَتْ عَلَىَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَنّهُ أَخَذَ شَيْئاً مِنْ أَرْضِهَا ،
فَخَاصَمَتْهُ إِلَىَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ ، فَقَال سَعِيدٌ : أَنَا
كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئاً بَعْدَ الّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ
اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟ قال : وما سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ
اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟ قَال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى
الله عليه وعلى آله وسلم يَقُولُ : مَنْ أَخَذَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ
ظُلْماً طَوّقَهُ إِلَىَ سَبْعِ أَرضِينَ . فَقَال لَهُ مَرْوَانُ : لاَ
أَسْأَلُكَ بَيّنَةً بَعْدَ هَذَا ، فَقَال سعيد : اللّهُمّ إِنْ كَانَتْ
كَاذِبَةً فَعَمّ بَصَرَهَا ، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا . قَال : فَمَـا
مَاتَتْ حَتّىَ ذَهَبَ بَصَرُهَا ثُمّ بَيْنَا هِيَ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا
إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ .
وفي رواية : قال : فرأيتها عمياء تلتمس الجدر ، تقول : أصابتني دعوة سعيد بن
زيد فبينما هي تمشي في الدار مرّت على بئر في الدار ، فوقعت فيها فكانت قبرها
. رواه البخاري ومسلم ، واللفظ له .
فهذه نماذج لدعوات من ظُلموا فانتصروا بدعواتهم ، فاستجاب الله لهم .
ألا ترون أن الظلم الذي صدر من هؤلاء إنما كان الأساس فيه اللسان ؟
فكيف بغيره من الظُّـلم ؟؟؟
والظُّلم عاقبته وخيمة .
قال محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله :
فلا تعجل على أحد بظلم = فإن الظلمَ مرتَعُه وخيمُ
ولا تفحش وإن بُليت ظلما = على أحد فإن الفحش لُوم
ولا تقطع أخا لك عند ذنب= فإن الذنب يغفرُه الكريم
ولكن دارِ عورتَه بِرِفْقٍ = كما قد يُرقعُ الخَلَقُ القديم
ولا تجزع لريب الدهر واصبر = فإن الصبر في العقبى سليمُ
فما جزعٌ بِمُغْنٍ عنك شيئا = ولا ما فات تُرْجِعُهُ الهموم
قال ابنٌ ليحيى البرمكي - وهم في السجن والقيود - : يا أبتِ بعد الأمر والنهي
والنعمة صرنا إلى هذا الحال ؟!
فقال : يا بنى دعوة مظلوم سَرَتْ بليل ونحن عنها غافلون ، ولم يغفل الله عنها
، ثم أنشأ يقول :
رب قوم قد غَدَوا في نعمةٍ = زمناً والدهرُ ريانُ غَدَق
سَكَتَ الدهرُ زمانا عنهمُ = ثم أبكاهم دماً حين نَطَق
( ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية ) .
فحذار – رحمني الله وإياكم – من عواقب الظُّلم .
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
إذا ظالمٌ أبدى من الظلم مذهبا = ولج عتوا في قبيح اكتسابه
فكِِلْه إلى ريب الزمان فإنها = ستبدي له ما لم يكن في حسابه
فكم قد رأينا ظالما متجبرا = يرى النجم تيها تحت ظل ركابه
فلما تمادى واستطال بظلمـه = أناخت صروف الحادثات ببابه
فأصبح لا مالٌ ولا جاه يُرتجى = ولا حسناتٌ تُلتقى في كتابه
وعوقب بالظلم الذي كان يقتفي = وصَبّ عليهِ الله سوط عذابه
فحذارِ حذارِ من دعوة مظلوم ، يسهر ليله يدعو على من ظَلَمَه .
روي أن بعض الملوك رقـم على بساطه :
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا = فالظلم عقباه تُفضي إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه = يدعوا عليك وعين الله لم تَنمِ
وعذراً عن الإطالة .
والله يتولاكم .