الحمد لله الذي وعد أولياءه بالنصر والتمكين ، وتوعّد أعداءه بالذُّلِّ
والخُذلان المبين
في مثل هذا الشهر تواعد حزب الشيطان ، وتوعّدوا أولياء الرحمن
فجُمِعت الجموع ، وحُشِدت الحشود ، وجُيّشت الجيوش
فاستعدّ رأس الكُفر ورئيسه لاستئصال الفئة المؤمنة
قال ربنا تبارك وتعالى : ( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ
حَاشِرِينَ )
لماذا يحشد جُنوده ؟
( إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ
قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ
حَاذِرُونَ )
عجيب أمرُه !
أوَ يخشى الإله ويُحاذر ؟ أين ما كان
يدّعيه من الربوبية ؟
ولكنهم على أنفسهم يجنون ، وللنعمة هم يُزيلون
قال سبحانه : ( فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ
وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ *
فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ )
أي عند طلوع الشمس .
ثم ماذا ؟
( فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ )
ورأى كل فريق خصمَه .
( قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) أي لا محالة ، ولا مفرّ ،
فالبحرُ من أمامنا ، والعدوُ مِن خلفنا بقضّه وقضيضه ، بخيله ورجِلِه ،
بعُدّته وعتاده .
فماذا كان موقف نبيُّ الله موسى عليه الصلاة والسلام ؟
هو موقفُ الواثق بالله ونصرِه .
( قَالَ كَلاّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) فيأتيه الفَرَجُ والجواب :
( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ ) ماذا يضربُ بها ؟
عصا صغيرة كان يتوكأ عليها ، ويهشّ بها على غنمه .
يضرب بها البحرَ العظيم المتلاطم .
( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ
فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ
الآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ
أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ )
لتبقى هذه القصة عِظة وعِبرة ، ولذلك قال الله بعد سياق هذه القصة : ( إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )
قال رب العِزّة سبحانه في أخبار آل فرعون : ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى
نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ
وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي
يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا
زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ
الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ )
فكانت العاقبة للمتقين ، كما كان موسى يقول لقومه من قبل : ( اسْتَعِينُوا
بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ
عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )
قال الله عز وجل : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ
يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا
فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ
بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ
وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ )
فهل شكر بنو إسرائيل هذه النّعمة يوم أنْ أنجاهم ربهم سبحانه وتعالى من
عدوّهم ؟
استمع إلى قول الله جل جلاله : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ
الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ َلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ
قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ
إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ
وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ
إِلَـهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ )
أما نبيّ الله موسى عليه الصلاة والسلام فقد شكر الله عز وجل على ما أولاه
مِن نِعْمَـة ، فصام ذلك اليوم شُكراً لله عز وجل .
وفي هذا دليل على أن الشكر العمليّ أبلغُ من الشكر بالقول فحسب .
أيها الكرام :
تلك كانت عاقبة قومِ فرعون .
وهي نهاية من طغى وبغى وتجبّر وعتى عتواً كبيراً وأفسد في الأرض فساداً عظيما
.
ولذا قال الله عز وجل : ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ )
ولما ذكر الله عاقبة الظالمين : ( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ )
فقوة الله لا تقف أمامها قوةّ مهما بلغت في العتو والجبروت والعظمة .
ولكننا نحتاج إلى أن نستمد النصر والعز والتمكين من العزيز الحميد .
وإننا نستفتح عامنا هذا بشهرنا هذا ، وهو من الأشهر الحُـرُم
وقد قال الله تبارك وتعالى فيهن : ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ
اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات
وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ
تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ )
قال قتادة : الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم في سواها .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن شهرِ محرم : أفضلُ الصيام بعد
رمضانَ شهرُ الله المحرم ، وأفضلُ الصلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ الليل . رواه
مسلم
قال ابن عباس رضي الله عنهما : قدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة
واليهودُ تصوم عاشوراء . فقال : ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ فقالوا : هذا
يومٌ عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه ، وغرّق فرعونَ وقومَه ، فصامه موسى
شكراً ، فنحن نصومه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فنحن أحقُّ وأولى
بموسى منكم . فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه . رواه البخاري
ومسلم .
ولكنّ نفس نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لم تَطِب بمُشابهة اليهود ، فأمر
بمخالفتهم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع .. يعني
مع العاشر . رواه مسلم .
ولما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه . قالوا : يا
رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى . فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع . فلم يأت العام
المقبل حتى توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم .
وهذا من حرصه عليه الصلاة والسلام على مُخالفة أهل الكتاب .
وقد أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من مُخالفة أهل الكتاب حتى قالت اليهود :
ما يريد هذا الرجل أن يدعَ من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه . رواه مسلم .
إذاً القضية تمايز وتباين بين أمة الإسلام وأمم الأرض .
وفي مسألة التّشبّه لا يُشترط القصد في المشابهة .
إخواني :
ونحن نستفتح هذا العام حريٌّ بنا أن
نستغلَّ مواسم الخيرات ، ومن ذلك صيام يوم عاشوراء ، فإن صيامَه يُكفّر ذنوب
سنة ماضية .
قال صلى الله عليه وسلم : صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة
التي قبله . رواه مسلم .
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن صيام يوم عاشوراء . فقال : ما علمت أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم صام يوما يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم ، ولا
شهراً إلا هذا الشهر . يعني رمضان . رواه مسلم .
ولا يُشرع في مثل هذا اليوم إقامة احتفالات أو جعله عيداً .
روى مسلمٌ عن أبي موسى رضي الله عنه قال :كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء
يتخذونه عيداُ ويُلبسون نساءهم فيه حُلِيّهم وشارتهم . فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : فصوموه أنتم .
فلنستفتح عامنا هذا بتوبة صادقة ، وأوبةٍ وعودة وإنابة لعلّ الله أن يُغيّر
ما بنا وما بأمتنا .
فإن الله لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم .
وهذه سُنة ربانية ماضية .
وإن أعداء الأمة لا يتسلّطون على أمة الإسلام إلا نتيجة للذنوب .
قال الله جل جلاله : ( وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )
قال ابن القيم رحمه الله :
فالآية على عمومها وظاهرها ، وإنما
المؤمنون يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضادّ الإيمان ما يصير به
للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة ، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل
عليهم .
وقال رحمه الله :
اقتضت حكمة الله العزيز الحكيم أن
يأكل الظالم الباغي ويتمتع في خفارة ذنوب المظلوم المبغي عليه ، فذنوبه من
أعظم أسباب الرحمة في حق ظالمه . انتهى .
فالأمة اليوم بحاجة ماسة إلى العودة إلى كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه
وسلم
وهي بحاجة إلى التوبة من الموبقات سواء ما كان منها على مستوى الدول أو على
مستوى الشعوب أو على مستوى الأشخاص .
إن نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما بنى البيت هو وابنه إسماعيل قال
: ( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .
وإن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم كان مِن دُعائه : رب اغفر لي خطيئتي
وجهلي ، وإسرافي في أمري كله ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي خطاياي
وعمدي ، وجهلي وهزلي وكل ذلك عندي ، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما
أسررت وما أعلنت ، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير . رواه
البخاري ومسلم .
إذا كان مِن غُفِر له ما تقدّم مِن ذنبه وما تأخر يقول ذلك ... فماذا نقول
نحن ؟
* أصل الموضوع كان خُطبة جمعة في 4/1/1424 هـ