تمـرّ الأزمات بنا متتابعة متتالية
حتى يظلّ الحكيم حيراناً ، ويقف الهميم عاجزاً
ويَرِد السؤال ويتكرر : ماذا أستطيع
فعله في الأزمات ؟
والبعض يُلقي بالعبء الأكبر على غيره ، ويُخلي غيره من المسؤولية ليقول : ما
بيدي شيء !
أو يقول : ليس لي من الأمر شيء !
وما علِم أن بيده خيراً كثيراً .
وربما تنصّل من السؤولية محتجاً بمقارفة الذنوب
وما علِم أن هذا لا يُعفيه ، بل قد أضاف ذنباً على ذنوب !
إذاً ماذا بأيدينا ؟
وماذا بوسعنا أن نُقدّم ؟
وكيف ؟
ومتى ؟
فأقول :
بوسعنا الكثير ، سواء كان على ذلك
مما يعم أو مما يخص ، ومن ذلك :
1- سهام الليل
، والسلاح المعطّل الذي انتصر به رُسل الله عليهم الصلاة والسلام .
وهو سِلاح فعّال لا يملكه سوى المسلم المؤمن الموقن بوعد الله ونصره .
ومع ذلك كثيراً ما نترك هذا السلاح أو نُفرّط فيه ونهمله .
نطالِب أئمة المساجد بالقنوت ، ولكننا نعجز عن الدعاء ونتكاسل أن نرفع أيدينا
وهذا غاية العجز ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام : أعجز الناس من عجز عن
الدعاء . رواه ابن حبان وغيره ، وحسنه الألباني .
أين نحن من أوقات الإجابة ؟
( بين الأذان والإقامة – في السجود –
قبل السلام من الصلاة – في جوف الليل – آخر ساعة من يوم الجمعة ... ) إلى غير
ذلك من الأوقات والأحوال التي هي مظانّ إجابة الدعاء .
2- مجاهدة الكفار
وليست المجاهدة مُقتصرة على السلاح ،
بل هي باليد وباللسان وبالمال وبالقلب .
لقوله عليه الصلاة والسلام : جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم .
رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
وقال عليه الصلاة والسلام : ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من
أمته حواريون وأصحاب ، يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم
خلوف ، يقولون مالا يفعلون ، ويفعلون مالا يؤمرون ؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن
، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك
من الإيمان حبة خردل . رواه مسلم .
فمن عجز عن جهاد الكافرين بيده جاهدهم بلسانه وماله وأضعف الإيمان أن
يُجاهدهم بقلبه .
فالجهاد باللسان بالدعوة والمحاجة
والدعوة بالأموال بدعم إخواننا المضطهدين ، ولا يُتركون لقمة سائغة للصليب
يُنصّرهم كيف شاء !
فالجهاد بالمال قرين الجهاد بالنفس في كتاب الله عز وجل .
ومن هذا الباب تحديث النفس بالغزو ، لقوله عليه الصلاة والسلام : من مات ولم
يغز ، ولم يحدث به نفسه ، مات على شعبة من نفاق . رواه مسلم .
3- النكاية بالكافرين وإغاظتهم
كيف ذلك ؟
أشد ما تكون النكاية بأئمة الكفر أن تتزايد أعداد المسلمين على حساب تعداد
الكافرين أياً كانوا !
قال عمر رضي الله عنه : ما عاقبت من عصى الله فيك ، مثل أن تطيع الله فيه .
رواه البيهقي في شعب الإيمان .
فمن وقف مواقف الدعوة إلى الله ولو بكلمة أو جهد أو كتاب أو شريط أو محاجة أو
بيان حق فقد وطئ موطئاً يغيظ الكفار .
أما أغاظوك يوم تسلّطوا على ديار ورقاب المسلمين ؟
إذاً أغظهم أنت بالدعوة إلى دين الله عز وجل ، بل أغظهم بصلاح نفسك والرجوع
إلى الله
أما سمعت قول الله عز وجل في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم :
( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) ؟
ثم إن الإصلاح مما يدفع العقوبات .
تأمل قوله عليه الصلاة والسلام وقد سُئل : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم
، إذا كثُر الخبث . رواه البخاري ومسلم .
والخبث إذا كثُر ، والمنكر إذا ظهر ، والمعاصي إذا فشت ، والفجور إذا انتشر ،
كان ذلك سببا في الهلاك ، وهو أعظم من الحرب .
قال عليه الصلاة والسلام : إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم
عذاب الله . رواه الحاكم ، وصححه .
وقال : إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمهم الله
بعقاب منه . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .
فالصلاح في النفس ، والإصلاح في الغير مما يدفع الله عز وجل به العقوبة .
4- توعية الناس بالقضية ، وتعرية
مزاعم قوى الكفر
وتبصير الناس بحقائق دعاوى الكفار ،
كتبجّحهم بالديموقراطية والعدل والمساواة إلى غيرها مما أُلغيت في التعامل مع
قضايا المسلمين في سائر أقطار الأرض !
وهذه الحرب قد أسقطت الكثير من الأقنعة ، وتبين لكثير من الناس – حتى مَن
خُدِعوا فيهم – الوجه الكالح لأمم الكفر ولأئمة الكفر !
ويتبع ذلك تبنّي قضايا الأمة ، وليست قضية الساعة ، فإحياء قضايا الأمة مما
يقض مضاجع الأعداء ؛ لأنهم يُشغلون الأمة بقضية عن قضايا .
5- تحقيق التوكل وعدم الإرجاف ،
وإخافة الناس بالوهم !
فإن الإرجاف والتخويف سمة من سمات
المنافقين ، فاحذر أن تكون ممن قال الله فيهم : ( لَئِن لَّمْ يَنتَهِ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي
الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا
قَلِيلًا {60} مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا
تَقْتِيلا )
وربّ إرجاف وتخويف أورث الضعف والهوان .
وإنما كان قول المؤمنين على مر الزمان ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ
فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )
6- الالتفاف حول العلماء والصدور عنهم
تنفيذاً للتوجيه الرباني : ( وَإذَا
جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ )
وعدم التفرّق والتناحر والتنازع ؛ لأن الضعف مرهون بالتنازع ( وَأَطِيعُواْ
اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )
وتفويت الفرصة على المنافقين المتربصين الذين يتحيّنون الفُرص لبث سمومهم ،
والعدو إنما يدخل من خلال الثغرات التي يصنعها له الطابور الخامس .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : " ما من ثلاثة نفر في قرية ولا بدو لا تقام
فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان ، فعليك بالجماعة ، فإنما يأكل الذئب
من الغنم القاصية " رواه الإمام أحمد وغيره وحسنه الألباني .
ويجب ان نُفرّق بين التخاذل واعتزال الفتن ، فالأول غير سائغ ، والثاني له
وجه .
ومن هنا يجب إحسان الظن بالعلماء ، بل والذبّ عن أعراضهم .
وعلى أقل الأحوال أن نكفّ ألسنتا عنهم
لا خيل عندك تُهديها ولا مالُ *** فليسعد النطق إن لم يُسعد الحال
7- ضبط الحماس ، وطرح التصرفات
الفردية ؛ لأنها تضرّ أكثر مما تنفع .
وترك الاجتهاد لمن هم أهل للاجتهاد .
فالعاطفة إذا لم تُضبط بالشرع صارت عاصفة ! كما يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه
الله .
وعدم التطلّع للفتن والاستشراف لها .
قال عليه الصلاة والسلام : ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم ، والقائم
فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، ومن يشرف لها تستشرفه ،
ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به . رواه البخاري ومسلم .
8- الإقبال على العبادة ، وإصلاح
النفس ، وترك القيل والقال ، ونبذ الشائعات .
والإكثار من العبادة .
قال عليه الصلاة والسلام : العبادة في الهرج كهجرة إلي . رواه مسلم .
قال الإمام النووي : المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس وسبب كثرة
فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها ولايتفرغ لها إلا أفراد
.
9- صدقة السر
لأن صدقة السر لها أثر عجيب ، وبها
يدفع الله عن العباد والبلاد .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وصدقة
السر تطفيء غضب الرب . رواه الطبراني في الكبير ، وحسنه الألباني .
فإن لم يتصدّق فليكفّ يده ولسانه
قال أبو ذر رضي الله عنه : قلت : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال :
الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله . قال : قلت : أي الرقاب أفضل ؟ قال :
أنفسها عند أهلها ، وأكثرها ثمناً . قال : قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : تُعين
صانعاً ، أو تصنع لأخرق . قال : قلت : يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض
العمل ؟ قال : تكفّ شرك عن الناس ، فإنها صدقة منك على نفسك . رواه البخاري
ومسلم .
ألا ترى أن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم من بكى حينما
لم يجد ما يُنفق ، ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه ؟
حتى عُرفوا بـ " البكائين "
وسُطّرت أخبارهم في كتاب الله عز وجل ، فقال الله تبارك وتعالى فيمن رُفع
عنهم الحرج ( وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ
قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ )
حتى جاء في سيرة علبة بن زيد أنه خرج من الليل فصلى وبكى ، وقال : اللهم إنك
قد أمرت بالجهاد ، ورغّبت فيه ، ولم تجعل عندي ما أتقوّى به مع رسولك ، وإني
أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في جسد أو عرض .
فهذه إشارات لما نستطيع عمله .
وصاحب الهمة ليس بحاجة إلى أن يُشار له نحو القمّـة !
والمعصية ليست عُذراً للتخلّف عن ركب السائرين ، ولا القعود عن مشاركة
العاملين
بل الاحتجاج بالمعصية والتعذّر بها عن خدمة هذ االدين ذنب يُضاف إلى ذنوب
صاحب العُذر .
والله أسأل أن يُهيئ لأمة الإسلام من أمرها رشدا .