يتشوّف الإسلام إلى الستر ، ويتطلّع إلى إخفاء الزلات ، وكتمان العيوب .
إذ أن إفشاء ذلك يعيب صاحبه بالدّرجة الأولى
وهو سبب لفشوّ الفاحشة ، وانتشار الفساد .
ولذلك لما جاء هَـزَّال بن يزيد الأسلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورفع
له شأن ماعز
والله يا هزال لو كنت سترته بثوبك كان خيرا مما صنعت به . رواه الإمام أحمد
وأبو داود والنسائي في الكبرى .
ومِن هُنا جاء الحث على ستر المسلمين والمسلمات .
فقال عليه الصلاة والسلام : من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة . رواه
البخاري ومسلم .
وفي الحديث الآخر : من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة .
وهذا الستر مُتعلّق بالمعاصي والآثام لا أن يستره بالكسوة ونحوها .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
قوله " ومن ستر مسلما " أي رآه على
قبيح فلم يظهره ، أي للناس ، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما
بينه وبينه .
وقال الإمام النووي رحمه الله :
في هذا فضل إعانة المسلم وتفريج الكرب
عنه ، وستر زلاته .
وقال حافظ المغرب ابن عبد البر رحمه
الله :
فإذا كان المرء يؤجر في الستر على
غيره ، فستره على نفسه كذلك أو أفضل ، والذي يلزمه في ذلك التوبة والإنابة
والندم على ما صنع ، فإن ذلك محو للذنب إن شاء الله .
وروى في التمهيد بإسناده أن عمار بن ياسر رضي الله عنه أخذ سارقا ، فقال :
ألا أستره لعل الله يسترني .
ولكن مَـنْ هـو الذي يُستر عليه ؟
قال الإمام النووي رحمه الله :
المراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ، ممن ليس معروفا بالأذى والفساد .
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله
:
واعلم أن الناس على ضربين :
أحدهما :
من كان مستوراً لا يُعرف بشيء من
المعاصي ، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة ، فإنه لا يجوز هتكها ولا كشفها ولا
التحدث بها ؛ لأن ذلك غيبة محرمة ، وهذا هو الذي وردت فيه النصوص ، وفي ذلك
قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي
الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ )
والمراد إشاعة الفاحشة على المؤمن فيما وقع منه واتُّهم به مما بريء منه ،
كما في قضية الإفك .
قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف : اجتهد أن تستر العصاة ،
فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام ، وأولى الأمور ستر العيوب .
ومثل هذا لو جاء تائبا نادماً وأقرّ بحده لم يفسره ولم يستفسر ، بل يؤمر بأن
يرجع ويستر نفسه ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً والغامدية ، وكما
لم يستفسر الذي قال : أصبت حداً فأقمه عليّ ، ومثل هذا لو أخذ بجريمته ولم
يَبلغ الإمام ، فإنه يُشفع له حتى لا يبلغ الإمام ، وفي مثله جاء في الحديث
عن النبي صلى الله عليه وسلم : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم . خرجه أبو داود
والنسائى من حديث عائشة .
والثاني :
من كان مشتهراً بالمعاصي ، مُعلناً
بها ولا يبالي بما ارتكب منها ، ولا بما قيل له هذا هو الفاجر المعلن ، وليس
له غيبة كما نصّ على ذلك الحسن البصري وغيره ، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن
أمره ، لتُقام عليه الحدود ، وصرح بذلك بعض أصحابنا ، واستدل بقول النبي صلى
الله عليه وسلم : واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها . ومثل
هذا لا يُشفع له إذا أُخِذَ ولو لم يبلغ السلطان ، بل يُترك حتى يُقام عليه
الحدّ لينكّف شـرّه ، ويرتدع به أمثاله . قال مالك : من لم يُعرف منه أذى
للناس ، وإنما كانت منه زلة ، فلا بأس أن يُشفع له ما لم يبلغ الإمام ، وأما
من عُرف بشرّ أو فساد ، فلا أحب أن يَشفع له أحد، ولكن يُترك حتى يُقام عليه
الحدّ . انتهى .
وقد صحّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : إن الله ستّـير يُحب الستر .
والعجب من أُناس يسترهم الله فيأبون إلا هتك الأستار !
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من
المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ، ثم يصبح وقد ستره الله ، فيقول : يا
فلان عملت البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره ربه ، ويصبح يكشف ستر الله عنه .
رواه البخاري ومسلم .
ومن هذا الباب أن يقع المسلم الفاحشة ، أو يُسافر في لهوه الفتّان ، ثم يرجع
يُحدّث أصحابه بما فعل ، فهذا يحمل الوزر مُضاعَفاً ، فيجمع على خطيئته خطايا
:
فيحمل الوزر من حيث أنه ارتكب ما حرّم الله عز وجل ، ومن حيث جُرأته على
محارم الله جل جلاله .
ويحمل الوزر من حيث أنه هتك ستر الله عليه ، وجاهر بمعصيته .
ويحمل الوزر من حيث أنه زيّن الفاحشة لغيره ، وجرّاه عليها ، وربما تكفّل له
بالدلالة على الشرّ !
وأسوأ من هذا أن يُفاخر بالجريمة ، ويفتخر بالفاحشة .
وأسوأ منه أن يُفاخر في جرائم آثام لم يفعلها ! ليظهر بين أقرانه بصورة البطل
المغوار ، صاحب المغامرات ، والليالي الملاح !
ومن هتك الأستار أن تضع المرأة ثيابها في غير بيت زوجها .
ولذا لما دخل نسوة من أهل الشام على عائشة رضي الله عنها فقالت : أنتن اللاتي
تدخلن الحمامات ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من امرأة تضع ثيابها
في غير بيتها إلا هتكت الستر فيما بينها وبين الله عز وجل . رواه الإمام أحمد
وغيره .
ونحن لم نؤمر أن نتتبع عورات عباد الله ، ونهتك ما ستر الله عنا منهم
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ، ولا أشق
بطونهم . رواه البخاري ومسلم .
وهذا على جميع المستويات
فعلى مستوى الجماعة
قال معاوية رضي الله عنه : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنك إن اتّبعت عورات الناس أفسدتهم ، أو كدت
أن تفسدهم . فقال أبو الدرداء : كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله
عليه وسلم نفعه الله تعالى بها . رواه أبو داود بإسناد صحيح .
وعلى مستوى الأفراد
قال عليه الصلاة والسلام : يا معشر من
أعطى الإسلام بلسانه ، ولم يدخل الإيمان قلبه ، لاتؤذوا المؤمنين ، ولا
تتبعوا عوراتـهم ، فإنه من تتبع عورات المؤمنين تتبع الله عورته ، ومن تتبع
الله عورته يفضحه في بيته .
وفي رواية : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا
المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم [ – وفي رواية – : لاتؤذوا المسلمين ولا
تُعيّروهم ، ولا تتّبعوا عوراتـهم - ] فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم يتتبع
الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته . رواه الإمام أحمد
وأبو داود والترمذي ، وهو حديث صحيح .
فليحذر الذين يخوضون في أعراض عباد الله ويتتبّعون عوراتهم ، ولو زيّن لهم
الشيطان أعمالهم أنهم لا يقصدون من وراء ذلك إلا النُّصح لعباد الله ، وتحذير
الأمة !
فاجتهدوا – عباد الله - في ستر الآثام
.
" من أصاب من هذه القاذورات شيئا ،
فليستتر بستر الله " رواه الإمام مالك .
فمن ابتُلي بشيء من هذه القاذورات – وهي ما يوجب الحدّ – فليستتر بستر الله .
نسأل الله أن يسترنا فوق الأرض ، وتحت الأرض ، ويوم العرض .