ضرب الله عز وجل مثالاً لنور الإيمان في قلب المؤمن فقال :
( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا
مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ
دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا
غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ
عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء )
قال ابن عباس رضي الله عنهما : (
مَثَلُ نُورِهِ) مثل هُداه في قلب المؤمن ( كَمِشْكَاةٍ ) يقول : موضع
الفتيلة . كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار فإذا مسته النار
ازداد ضوءاً على ضوئه كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ،
فإذا أتاه العلم ازداد هدى على هدى ونورا على نور .
وجاء في تفسير ( المشكاة ) : كـوّة البيت .
وأنها : موضع الفتيلة من القنديل .
وقال مجاهد : الصُّفر الذي في جوف القنديل .
وقال : المشكاة القنديل .
وقال آخرون : المشكاة الحديد الذي يعلق به القنديل .
قال الإمام ابن جرير الطبري : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك
مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به ، فقال : مثل نور الله الذي أنار
به لعباده سبيل الرشاد الذي أنزله إليهم فآمنوا به وصدقوا بما فيه في قلوب
المؤمنين مثل مشكاة ، وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة ، وذلك هو نظير
الكوة التي تكون في الحيطان التي لا منفذ لها .
وإنما جعل ذلك العمود مشكاة لأنه غير نافذ ، وهو أجوف مفتوح الأعلى فهو
كالكوّة التي في الحائط التي لا تنفذ .
ثم قال : ( فيها مصباح ) وهو السراج ، وجعل السراج وهو المصباح مثلا لما في
قلب المؤمن من القرآن والآيات المبينات .
ثم قال : ( المصباح في زجاجة ) يعني أن السراج الذي في المشكاة في القنديل
وهو الزجاجة ، وذلك مثل للقرآن . يقول : القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار
الله قلبه في صدره .
ثم مثّل الصدر في خلوصه من الكفر بالله والشك فيه واستنارته بنور القرآن
واستضاءته بآيات ربه المبينات ومواعظه فيها بالكوكب الدري ، فقال : ( الزجاجة
) وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه ( كأنها كوكب دري ) . اهـ .
وقال الحافظ ابن كثير :
( مثل نوره ) في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه عائد إلى الله عز وجل ، أي مثل هداه في قلب المؤمن ، قاله ابن
عباس .
والثاني : أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دلّ عليه سياق الكلام ، تقديره :
مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة ، فشبّه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من
الهدى وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه كما قال تعالى :
(أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ )
فشبّه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري ،
ومايستمد من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل الذي لاكدر
فيه ولاانحراف . اهـ .
وقال ابن القيم :
فالإيمان كله نور ، ومآله إلى نور ،
ومستقره في القلب المضيء المستنير والمقترن بأهله الأرواح المستنيرة المضيئة
المشرقة ، والكفر والشرك كله ظلمة ، ومآله إلى الظلمات ، ومستقره في القلوب
المظلمة والمقترن بها الأرواح المظلمة . اهـ .
مشكاة
في قصة الهجرة الأولى إلى الحبشة ومبعث الوفد القرشي إلى النجاشي لإعادة
المهاجرين ، وفي القصة :
فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له : أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية
نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار
، يأكل القوى منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف
نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن
نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء
الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكفّ عن المحارم والدماء ، ونهانا عن
الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله وحده
لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قال : فعدد عليه أمور
الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به ، فعبدنا الله وحده فلم
نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا
فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله ، وأن
نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا
بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك
ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك . فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن
الله من شيء ؟ فقال له جعفر : نعم . فقال له النجاشي : فاقرأه عليّ ، فقرأ
عليه صدراً من ( كهيعص ) فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته ، وبكت أساقفته
حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا والله
والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة . ثم قال للوفد : انطلقا فوالله لا
أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد . رواه الإمام أحمد .
وفي رواية : قال النجاشي : إن هذا الكلام والكلام الذي جاء به عيسى ليخرجان
من مشكاة واحدة
قال ابن الأثير : في حديث النجاشي إنما يخرج من مشكاة واحدة : المشكاة الكوة
غير النافذة ، وقيل : هي الحديدة التي يُعلق عليها القنديل ، أراد أن القرآن
والإنجيل كلام الله تعالى وأنهما من شيء واحد . اهـ .
وكذا قال ابن منظور في لسان العرب .