مراقبةُ الله حال الخلوة أعظم ، ولذا قال سبحانه :
( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم
بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ )
ولهم المغفرة
( إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ
الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ
وَأَجْرٍ كَرِيمٍ )
ولهؤلاء
أُزلِفت الجنات : ( وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ
أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ
مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا
يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ )
وعلى النقيض من ذلك من انتهكوا
محارم الله وهتكوها
قال عليه الصلاة والسلام : لأعلمن
أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً ، فيجعلها
الله عز وجل هباء منثورا . قال
ثوبان : يا رسول الله صفهم لنا ، جلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم .
قال : أما إنهم إخوانكم ، ومن
جلدتكم ، ويأخذون من الليل كما تأخذون ، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله
انتهكوها . رواه ابن ماجه .
فالتعبير بـ " إذا " يدلّ على الكثرة والاستمرار ، وأن هذا هو شأنهم وديدنهم
مع محارم الله فجعلوا الله أهون الناظرين إليهم .
ولفظ " إذا " يدلّ على الكثرة كما في صفة المنافق : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد
أخلف ، وإذا أؤتمن خان .
وهذا كحال المنافقين الذين قال الله عز وجل عنهم :
( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ
يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ
يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا )
قال رجل لوهب بن الورد : عظني فقال له :
اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك
.
وكان بعض السلف يقول :
أتراك ترحم من لم يقرّ عينيه بمعصيتك حتى علم أن لا عين تراه غيرُك .
وقال بعضهم :
ابن آدم إن كنت حيث ركبت المعصية لم تَصْفُ لك من عينٍ ناظرةٍ إليك ، فلما
خلوت بالله وحده صفت لك معصيته ، ولم تستحي منه حياءك من بعض خلقه ، ما أنت
إلا أحدُ رجلين :
إن كنت ظننت أنه لا يراك فقد كفرت .
وإن كنت علمت أنه يراك فلم يمنعك منه ما منعك من أضعف خلقه لقد اجترأت عليه .
وكان بعض السلف يقول لأصحابه :
زهدنا الله وإياكم في الحرام زهد من قدر عليه في الخلوة ، فَعَلِمَ أن الله
يراه فتركه من خشيته .
وقال الشافعي :
أعز الأشياء ثلاثة : الجود من قلة ، والورع
في خلوة ، وكلمة الحق عند من يُرجى أو يخاف .
وكتب ابن السماك الواعظ إلى أخ لـه :
أما بعد أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيّك في سريرتك ورقيبك ، فاجعل الله من
بالك على كل حال في ليلك ونهارك ، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك ،
واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ، ولا من ملكه إلى ملك
غيره ، فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك ، والسلام .
وكان ابن السماك ينشد :
يا مدمن الذنب أما تستحي = والله في الخلوة
ثانيكا
غـرّك من ربك إمهالُـه = وستره طولَ مساويكا
ومراقبة الله
عز وجل حال الخلوة أعظم
وفي قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار ... فقال أحدهم :
اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إليّ ، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني
حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي
بيني وبين نفسها ، ففعلت ، حتى إذا قدرت عليها قالت : لا أُحل لك أن تفض
الخاتم إلا بحقه ، فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ
وتركت الذهب الذي أعطيتها . اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن
فيه ، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها ... الحديث . رواه
البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : فلما وقعت بين رجليها قالت : يا عبد الله اتق الله ولا
تفتح الخاتم إلا بحقه ، فقمت عنها ، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك
فافرج لنا منها فرجة ، ففُرِج لهم .
فلما ذكرته بالله تذكّر وانتفض وتذكّر أن الله مطّلع عليه ناظر إليه .
ودخل رجل غيضة فقال : لو خلوت ها هنا بمعصية من كان يراني ؟ فسمع صوتا ملأ ما
بين لابتي الغيضة ( أَلا يَعْلَمُ
مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )
؟
ولقي رجل أعرابية فأرادها على نفسها فأبت ، وقالت : أي ثكلتك أمك أمالك زاجر
من كرم ؟ أمالك ناه من دين ؟
قال : والله لا يرانا إلا الكواكب !
قالت : ها بأبي أنت ! وأين مكوكبها ؟ . رواه البيهقي في الشعب .
قال محمد بن إسحاق : نزل السَّرِيُّ بن دينار في درب بمصر وكانت فيه امرأة
جميلة فتنت الناس بجمالها ، فعلمت به المرأة ، فقالت : لأفتننه ؛ فلما دخلت
من باب الدار تكشفت وأظهرت نفسها ، فقال : مَالَكِ ؟! فقالت : هل لك في فراش
وطي ، وعيش رخي ، فأقبل عليها وهو يقول :
وكم ذي معاص نال منهن لذة = ومات فخلاّها
وذاق الدواهيا
تصرمُ لذّات المعاصي وتنقضي = وتبقى تِباعاتُ المعاصي كما هيا
فيا سوءتا والله راءٍ وسامع = لعبدٍ بعين الله يغشى المعاصيـا
كان لسليمان بن
عبد الملك مؤذّن يؤذنه في قصره بأوقات الصلاة ، فجاءته جارية له مولّدة فقالت
: يا أمير المؤمنين إن فلاناً المؤذن إذا مررت به لم يُقلع ببصره عني ، وكان
سليمان أشد الناس غيرة ، فهمّ أن يأمر بالمؤذّن ، ثم قال : تزيني وتطيبي
وامضي إليه فقولي له : إنه لم يخفَ عني نظرك إليّ ، وبقلبي منك أكثر مما
بقلبك مني ، فإن تكن لك حاجة فقد أمكنك مني ما تُريد ، وهذا أمير المؤمنين
غافل ، فإن لم تُبادر لم أرجع إليك أبدا .
فمضت إلى المؤذن وقالت له ما قال لها
فرفع طرفه إلى السماء وقال : يا جليل أين سترك الجميل ؟
ثم قال : اذهبي ولا ترجعي ، فعسى أن يكون الملتقى بين يدي مَن لا يخيّب الظنّ
.
فرجعت إلى سليمان وأخبرته الخبر فأرسل إليه ، فلما دخل على سليمان قال له
الحاجب : إن أمير المؤمنين رأى أن يهب لك فلانة ، ويحمل إليك معها خمسين ألف
درهم تنفقها عليها .
قال : هيهات يا أمير المؤمنين ! إني والله ذبحت طمعي منها من أول لحظة رأيتها
، وجعلتها ذخيرة لي عند الله ، وأنا أستحيي أن أسترجع شيئا ادّخرته عنده .
فجهد به سليمان أن يأخذ المال والجارية فلم يفعل ، فكان يعجب منه ، ولا يزال
يُحدّث أصحابه بحديثه .
يقول أبو محمد عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني في نونيته :
وإذا خلوت بريبة في ظلمة = والنفس داعية إلى
الطغيانِ
فاستحي من نظر الإله وقل لها : = إن الذي خلق الظلام يراني
قال ثعلب
النحوي : كنت أحب أن أرى أحمد بن حنبل ، فدخلت عليه ، فقال لي : فيم تنظر ؟
فقلت : في النحو والعربية والشعر ، فأنشدني أحمد بن حنبل رحمة الله تعالى
عليه :
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل = خلوت ولكن
قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة = ولا أن ما يخفى عليه يغيب
عن قيس بن عباد
قال : صلى عمار بن ياسر بالقوم صلاة أخفها ، فكأنهم أنكروها ، فقال : ألم أتم
الركوع والسجود ؟ قالوا : بلى . قال : أمَـا إني دعوت فيها بدعاء كان النبي
صلى الله عليه وسلم يدعو به :
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني
إذا علمت الوفاة خيرا لي ، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وكلمة الحق في
الرضا والغضب ، وأسألك نعيما لا ينفد ، وقرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضاء
بالقضاء ، وبرد العيش بعد الموت ، ولذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك ،
وأعوذ بك من ضراء مضرة ، وفتنة مضلة . اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا
هداة مهتدين . رواه الإمام أحمد وغيره .
فاللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة .