عندما تُعلن الأمم مبادئها
وتُعلن الدّول دساتيرها
وتُشهر الشعوب عاداتها وتقاليدها
فإننا نُبرز ديننا على أنه دين الكمال
وعلى أنه الدّين الذي كفل للجميع حقوقهم
وأعطى كل ذي حق حقه
إذا تطاول بالأهرام مُنهزمٌ *** فنحن أهرامنا
سلمان أو عمر
لقد أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد في التعامل بجميع صوره
تعامل العبد مع ربِّـه
تعامل الناس مع بعضهم
تعامل الرجل مع أهله
تعال الرجل مع جيرانه
تعامل الشخص مع أُجرائه
تعامل السيد مع مولاه
تعامل القوي مع الضعيف
ومن هنا أعلن النبي صلى الله عليه وسلم وشدّد على حقوق الضعفاء
فقال :
اللهم إني أحرج حق الضعيفين :
اليتيم والمرأة .
رواه الإمام أحمد وابن ماجه والنسائي في الكبرى
.
بهذه القوّة
وبهذه الجزالة
يُعلنها عليه الصلاة والسلام
بل ويؤكّدها بمؤكِّدات :
أولها : اللهم الدّالة على القسم
وثانيها : " إن " الدّالة على التوكيد
وثالثها : التحريج وهو التضييق ووضع الحرج على من فعل ذلك
أما لماذا ؟
فلأن هؤلاء ( الأيتام والنساء ) غالبا يكتفهم الضعف
فما بالكم بمخلوق خُلق من ضعف ، وهو الرجل ؟ ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم
مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ
قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ
الْقَدِيرُ )
ثم خُلق من هذا الضعف مخلوق آخر ؟ ( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا )
ولأن الرجل مُحتاج إلى المرأة ، وهي
محتاجة إليه ، فلا غِنى لأحدهما عن الآخر .
وما دام كذلك فلا يصلح ولا يليق أن يقع الظّلم من الرجل على المرأة .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : لا يجلد أحدكم امرأته جَلْد العبد ، ثم
يجامعها في آخر اليوم . رواه البخاري ومسلم .
وبّوب عليه الإمام البخاري رحمه الله :
باب ما يُكره من ضرب النساء وقول الله : ( وَاضْرِبُوهُنَّ ) : أي ضربا غير
مبرح .
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري :
والمجامعة أو المضاجعة إنما تستحسن مع
ميل النفس والرغبة في العشرة ، والمجلود غالبا ينفر ممن جَلَدَه ، فوقعت
الإشارة إلى ذمّ ذلك ، وأنه أن كان ولا بُـدّ فليكن التأديب بالضرب اليسير،
بحيث لا يحصل منه النفور التام ، فلا يفرط في الضرب ، ولا يفرط في التأديب .
اهـ .
وفيه إشارة إلى حُسن المعاشرة
وأن يتذكّر الزوج ما كان بينه وبين زوجته
ولذا قال سبحانه وتعالى فيما يتعلّق بالعشرة الزوجية : ( وَلاَ تَنسَوُاْ
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ )
وإن تعجب فاعجب لحال أُناس يُعاشر أحدهم زوجته السنوات الطّوال ثم إذا وقع
الفراق فكأنه لم يُعاشرها لحظة واحدة !
إن الكلب - وهو الحيوان البهيم – يُساكن القوم فترة من الزمن فيحفظ لهم الودّ
!
والضّرب إنما يكون آخر العلاج
فإذا لم تُجْد النصيحة والموعظة فيلجأ إلى الهجر في المضجع ، فإذا لم يُجد
ذلك شيئا في الزوجة الناشز فإنه يلجأ حينئذ للضرب
ولذا قال العليم الخبير سبحانه وتعالى : ( وَاللاَّتِي تَخَافُونَ
نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ
كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا )
وختم سبحانه وتعالى الآية بقوله : ( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ
عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا )
فإن كان بكم قوّة فالله أقوى منكم
وإن كنتم أكبر من النساء فالله هو العليّ الكبير القادر عليكم ، فتذكّروا ذلك
.
ولما وقف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الموقف العظيم في حجة الوداع أعلن
للناس حقوق النساء فقال :
فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة
الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن
ضربا غير مبرح . رواه مسلم .
قال عطاء : قلت لابن عباس : ما الضرب غير المُبَرِّح ؟
قال : بالسواك ونحوه .
قال القرطبي في التفسير : أي لا يُدخلن منازلكم أحدا ممن تكرهونه من الأقارب
والنساء الأجانب . اهـ .
ثم إذا قُدِّر أن الزوج ضرب زوجته فإنه يتجنّب الوجه ولا يُعنِّف ولا يُقبِّح
، ولذا لما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال
: أن تُطعمها إذ طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت أو اكتسبت ، ولا تضرب الوجه ، ولا
تقبِّح ، ولا تـهجر إلا في البيت . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
قال أبو داود : ولا تقبح أن تقول : قبحك الله .
ثم إن ضرب النساء ليس فيه مندوحة ، ولا يُعدّ شجاعة أو قوّة .
وبعض الأزواج أسدٌ في بيته ، نعامة خارجه !
ينطبق عليه قول القائل :
أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة *** فتخاء تنفر من صفير الصافر !
ولذا لما نـهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ضرب النساء جاء عمر رضي الله عنه
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ذئرن النساء على أزواجهن ، فرخّص
في ضربهن ، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن
، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن
، ليس أولئك بخياركم . رواه أبو داود وغيره .
ومعنى ( ذئرن ) : أي اجترأن .
ولما استشارت فاطمة بنت قيس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خطبها ، فقال
: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له ، انكحي
أسامة بن زيد . قالت : فكرهته ، ثم قال : انكحي أسامة . فنكحته ، فجعل الله
فيه خيراً ، واغتبطت . رواه مسلم . قال النووي : قوله صلى الله عليه وسلم : "
أما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه " فيه تأويلان مشهوران أحدهما : أنه
كثير الأسفار ، والثاني : أنه كثير الضرب للنساء ، وهذا أصح بدليل الرواية
التي ذكرها مسلم بعد هذه أنه ضرّاب للنساء .
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينصح فاطمة بنت قيس رضي الله عنها بالزواج من
أبي الجهم لما عُرف عنه من ضربه للنساء ، والمستشار مؤتَمَن .
أيعجز الزوج العاقل الحصيف أن يُعبّر
عما في نفسه بتعابير وجهه ؟!
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كَرِهَ شيئاً عُرِفَ ذلك في وجهه .
ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم أشدّ حياء من العذراء في خدرها ، وكان إذا كَرِهَ شيئاً
عرفناه في وجهه .
قال الإمام النووي : ومعنى عرفنا الكراهة في وجهه ، أي : لا يتكلم به لحيائه
بل يتغير وجهه فنفهم نحن كراهته . اهـ
ومِن ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم مما أنكره حتى عُرف ذلك في وجهه .
قالت عائشة رضي الله عنها : اشتريت نمرقة فيها تصاوير ، فلما رآها رسول الله
صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخله ، فعرفت في وجهه الكراهية ، فقلت
: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ماذا أذنبت ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال هذه النمرقة ؟ قلت : اشتريتها لك
لتقعد عليها وتوسّدها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أصحاب هذه
الصور يوم القيامة يعذبون ، فيّقال لهم : أحيوا ما خلقتم ، وقال : إن البيت
الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة . رواه البخاري ومسلم .
ولما كان الزوج العاقل يستطيع أن يعيش حياة هنيئة دون اللجوء لضرب حليلته
وكان الضّارب ليس من خيار المسلمين
وكان الضارب لا يُشار بِهِ في النّكاح
ولما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم القدح المعلّى في مكارم الأخلاق
وكان صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم
لم يُنقل عنه أو يُذكر أنه ضرب امرأة من نسائه على كثرتهن وكثرة غيرتهن .
قالت عائشة رضي الله عنها : ما ضَرَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط
بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نِيلَ منه شيء قطّ
فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل . رواه
مسلم .
وحق اليتيم يحتاج إلى وقفة أخرى غير هذه الوقفة .
والله تعالى أعلى وأعلم .