كنت كتبت مقالا بعنوان : واعـظ على فـراش المـوت
واليوم سمعت آيات طالما سمعتها ، وكان الحديث فيها عن واعظ آخر
استوقفتني الآيات وما تحمله من نبأ عظيم
هزّتني وكأنني أسمعها لأول مرة
وما ذلك بمستغرب على كتاب لا كالكتب
( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )
وهو كتاب لا تنقضي عجائبه ، ولا يَخلَق على كثرة الترداد .
ذلكم الواعظ هو مؤمن آل يا سين
الذي وعظ قومه حيا وميتا
أما حال حياته فقد جاء ساعياً مُسرعاً ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ
رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ )
وأما بعد مماته فإنه لما قيل له : ( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ )
فلما أفضى إلى الجنة
( قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي
وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ )
تمنى أن يعلم قومه أن الله غفر له وأكرمه ليرغبوا في دين الرسل .
قال ابن الجوزي رحمه الله في قوله تعالى (بِمَا غَفَرَ لِي ) :
وفي " ما " قولان :
أحدهما : أنها مع غفر في موضع مصدر ، والمعنى : بغفران الله لي .
والثاني : أنها بمعنى الذي ، فالمعنى ليتهم يعلمون بالذي غفر لي به ربي
فيؤمنون ، فنصحهم حيا وميتا . اهـ .
حَـمَلَ هـمّ الدعـوة حيّـاً وميّـتـاً
وأراد لقومه الهداية مع ما كادوه به حتى قتلوه
قال الزمخشري :
وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ ، والحلم عن أهل الجهل ، والترؤّف على
من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي ، والتشمر في تخليصه ، والتلطف في
افتدائه ، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه ، ألا ترى كيف تمنى
الخير لِقَتَلَتِه والباغين له الغوائل ؟ وهم كفرة عبدة أصنام ! ويجوز أن
يتمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره ، وأنه كان على صواب
ونصيحة وشفقة ، وأن عداوتهم لم تُكسِبه إلا فوزا ، ولم تُعقبه إلا سعادة ؛
لأن في ذلك زيادة غبطة له ، وتضاعف لذة وسرور ، والأول أوجه . اهـ .
وقال القرطبي رحمه الله :
وفي معنى تمنيه قولان :
أحدهما : أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته .
الثاني : تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله . قال ابن عباس
: نصح قومه حيا وميتا . اهـ .
هذا واعظ وعَظَ قومه حيا وميتا
وآخر وَعَظ أمّـه حياً وميتا
وعزّاها في مصابها بعد موتها
ذلكم هو : ذو القرنين
فإنه كتب إلى أمه كتاباً قبل موته ، وكان في كتابه إليها :
يا أماه ! اصنعي طعاما واجمعي من قدرت عليه من نساء أهل المملكة ولا يأكل
طعامك من أصيب بمصيبة ، فصنعت طعاما وجمعت الناس ، وقالت : لا يأكل من أصيب
بمصيبة قط ، فلم يأكل أحد ، فعلمت ما أراد .
فلما حُمِل تابوته إليها تلقته بعظماء أهل المملكة ، فلما رأته قالت : يا
ذا الذي بلغ السماء حلمه ، وجاز أقطار الأرض ملكه ، ودانت الملوك عنوة له .
مَالَكَ اليوم نائما لا تستيقظ ؟ وساكتا لا تتكلم ؟
من بلّغك عَنِّي بأنك وعظتني فاتعظت ، وعزيتني فتعزيت ، فعليك السلام حيا
وميتا ، ثم أمرت بدفنه .
وفي رواية لهذه القصة أنها قالت : فنِعْم الحيّ كنت ، ونِعْم الهالك أنت .
وعظوا أحياء وأمواتا
وعظوا وهم على فُرش الموت
ووعظوا وهم جثث هامدة
ووعظوا وهم تحت أطباق الثرى
فـ لله درّهـم !
لقد خُـلِّد ذِكرهم
وسُـطِّر خـبرهم
28/1/1425 هـ .
وكان من آخر مَنْ وَعَظَ حياً وميتاً الشيخ المجاهد أحمد ياسين رحمه الله
وأسكنه فسيح جناته
وذكرت بعض موعظته في هذا الموضوع :
طبع الذئب محبة الدم !