اطبع هذه الصفحة


أمَا واللهِ لَو عَلِم الأنَام .. ؟

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

 
يُرْوى في ذلك مِن أخْبَار الصالحين بَعض مَا يُستَنْكَر .. ففي خَبَر امْرأة عَابِدَة زاهِدَة .. أطالَتِ السَّهَر .. فقال لها زَوجُها : ألا تَنَامِين ؟ فقالت : كيف يَنَام مَن عَلِم أنَّ حَبِيبَه لا يَنَام ؟

وفي خَبَر آخر تُحدِّث به ابنة أحد الصَّالِحين .. قالت : كنت أقول لأبي : يا أبتاه ألا تَنام ؟
فيَقُول : يا بُنَـيَّـة كيف يَنَام مَن يَخَاف البَيَات .

ونحو ذلك ..

وهذا لا شكّ أنه خِلاف السُّـنَّـة ..
فقد كان مِن هَدِيه صلى الله عليه وسلم أنّه يَنام ويَقوم .. ويأكل الطَّيِّبَات .. ويتزوّج النِّسَاء ..
جَاء ثَلاثة رَهْط إلى بُيُوت أزْوَاج النبي صلى الله عليه وسلم يَسْألُون عَن عِبَادَة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلمَّا أُخْبِرُوا كأنّهم تَقَالُّوهَا ، فقالوا : وأين نَحْن مِن النبي صلى الله عليه وسلم قد غَفَر الله لَه مَا تَقَدَّم مِن ذَنْبِه ومَا تَأخَّر ؟ قال أحَدُهم : أمَّا أنَا فإني أُصَلِّي الليل أبَدًا ، وقال آخَر : أنَا أصُوم الدَّهْر ولا أُفْطِر ، وقال آخَر : أنَا أعْتَزِل النِّسَاء فلا أتَزَوَّج أبْدًا . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَال : أنتم الذين قُلْتُم كَذا وكَذا ؟ أمَا والله إني لأخْشَاكُم لله وأتْقَاكُم لَه لَكِنِّي أصُوم وأُفْطِر ، وأُصَلِّي وأرْقُد ، وأتَزَوَّج النِّسَاء ؛ فَمَن رَغِب عن سُنَّتِي فَلَيْس مِنِّي . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لِمُسْلِم : وقَال بَعْضُهم : لا آكُل اللَّحْم .

ولَمَّا دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة وعِنْدَها امْرَأة . فَقَال : مـَن هَذه ؟ قالت : فُلانة - تَذْكُرُ مِن صَلاتِها - قَال : مَـه ! عَليكم بِمَا تُطِيقُون ، فو الله لا يَمَلُّ الله حتى تَمَلُّوا . رواه البخاري ومسلم .

وفي رواية لْمُسْلِم : قالت عائشة : فَقُلْتُ : هذه الْحَولاءُ بنتُ تُويت ، وزَعَمُوا أنَّها لا تَنامُ الليل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تَنامُ الليل ! خُذُوا مِن العَمَل مَا تُطِيقُون ، فوالِله لا يَسْأمُ الُله حَتى تَسْأمُوا .

ودَخَل النبي صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِد ، فإذا حَبْلٌ مَمْدُود بَيْن السَّارِيَتَين ، فقال : مَا هَذا الْحَبْل ؟ قَالوا : هَذا حَبْل لِزَيْنَب ، فإذا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ بِه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا . حُلُّوه . لِـيُصَلِّ أحَدُكم نَشَاطَه ، فإذا فَتَرَ فَلْيَقْعُد . رواه البخاري ومسلم .

قال بعضُ الحكماء : إنَّ لِهَذه القُلُوب تَنَافُرًا كَتَنَافُرِ الوَحْشِ ؛ فَتَألَّفُوهَا بالاقْتِصَادِ في التَّعْلِيم ، والتَّوسُّطِ في الـتَّقْدِيم ، لِتَحْسُنَ طَاعتُها ، ويَدُوم نَشَاطُها .
وكان ابن عباس يَقُول لأصْحَابه إذا دَامُـوا في الدَّرْس : أَحْمِضُـوا . أي : مِيلُوا إلى الفَاكِهَة وهَاتُوا مِن أشْعَارِكم ، فإنَّ الـنَّفْس تَمَلّ .

فما يُذْكَر مِن أخْبَار الصَّالِحين – إنْ صَحَّتْ – في هذا الباب فهو خِلاف السُّـنَّـة .. وخِلاف هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم ..
ثمّ هو خِلاف الطَّبِيعَة البشرية ..
فإنَّ مِن كَمَال الإنسان أن يَنَام !
ثم إن في الـنَّوْم قُوّة على الطاعة والعِبادة ..
شأن الـنَّفْس كشأن أجاوِيد الْخَيْل ..
إن أُنْهِكَتْ هَلَكَتْ .. وإنْ أُجِمَّتْ جَرَتْ ..

ولا تَسْتَجِمّ الْخَيْلُ حَتى نُجِمَّها *** فَيَعْرِفها أعْدَاؤنا وهي عُطَّفُ
لذلك كَانت خَيْلُنا مَرةً تُرى *** حِسَانا ، وأحْيانا تُقَاد فَتعجَفُ

وثَمّ تنبيه آخر .. هو في قوْل القائل :

أمـَا والله لَو عَلِم الأنَام *** لِمَا خُلِقُوا لَمَا هَجَعُوا ونَامُوا
لَقَد خُلِقُوا لأمْرٍ لَو رَأتْـه *** عُيُون قُلُوبِهم تَاهُوا وهَامُوا
مَمَات ثُم قَـبْر ثُم حَشْر *** وتَوْبِيخ وأهْـوَال عِظَـامُ

وأعْرَف الْخَلْق بالله .. وبِما خُلِقوا له .. هم الأنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام
فالأنبياء والرُّسُل أعْرَف الْخَلْق بالله .. وهُم أنْذَرُوا وبشَّروا .. وخوّفُوا وحذَّرُوا ..
عَلِمُوا ما يَجِب لله .. وما يَكُون بعْد الْمَوْت ..
وهُم مع ذلك يَنامُون .. ويأكُلون ويشْرَبُون ..
وقد عَاب الْمُشْرِكُون على الأنْبِياء أكْلَهم وشُرْبَهم !
(وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ) ؟
فأتَاهُم الْجَواب .. مِن العَزِيز الوَهَّاب : (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ) .. إذْ هَذه طَبِيعَة البَشَر التي لا يَنْفَكُّون عَنْها ..

فكأن قَوْل القائل :
أمـَا والله لَو عَلِم الأنَام *** لِمَا خُلِقُوا لَمَا هَجَعُوا ونَامُوا
كأن فيه إزْرَاء بِمَنْصِب الـنُّـبُوَّة ..
إذ قد عَلِم الأنْبِيَاء لِمَا خُلِقُوا .. وقَد نَامُوا وهَجَعُوا .. وأكَلُوا وشَرِبُوا .. وتَزوَّجُوا النِّسَاء ..
قال ربّ العِزّة سُبْحَانه : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) .
قال الإمَام القُرطبي في تَفْسِير الآية : أي : جَعَلْنَاهُم بَشَرًا يَقْضُون مَا أحَلَّ الله مِن شَهَوات الدُّنْيَا ، وإنَّمَا الـتَّخْصِيص في الوَحْي . اهـ .

هذه إشارة إلى ما تضَمَّنَتْه هذه الأبيات .. وما تضمّنه قَول بَعض الصَّالِحِين والصَّالِحَات مما تقدَّم..
وقد يُقال : هذه أخْبَار أوْرَدَها بعضُ أهْل السِّيَر في كُتُبهم ..
فأقول : وهل اشْتَرَط أهل السِّيَر والتَّراجم صِحّة ما يُورِدُونه ويَنقُلُونه ؟
فإنّهم قد يُورِدُون مِن الأخْبَار ما يَصِحّ وما لا يَصِحّ .. وقد يَنْشَط العَالِم فيتعقّب ويُنقد .. وقد لا ينشَط لذلك ..

والْمُؤمِن يَنْشُد الْحَقّ ..
والْحِكْمَة ضالَّة الْمُؤمِن أنّى وَجَدَها فهو أحَقّ بِها ..

الرياض – 19/9/1427 هـ
 

عبدالرحمن السحيم
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • إنه الله
  • محمد رسول
  • المقالات العَقَدِيَّـة
  • قضايا الأمّـة
  • مقالات تربوية
  • مقالات وعظية
  • تصحيح مفاهيم
  • قصص هادفة
  • موضوعات أُسريّـة
  • تراجم وسير
  • دروس علمية
  • محاضرات مُفرّغة
  • صفحة النساء
  • فتاوى شرعية
  • الصفحة الرئيسية