اطبع هذه الصفحة


داء الأمم

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

 
 

الحمدُ للهِ (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

ألاَ وإن مِن أعظَم الإحسان : صِلَةَ الأرحام . ومِن أعظَم الْمُنكَر : قطيعة الأرحام التي أمَرَ اللهُ بِوَصْلِها ، ونَهَى عن قطْعِها ، ولو قَطَعَت .

قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ)

قَالَ الضَّحَّاكُ : وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي بِهِ تَعَاقَدُونَ وَتَعَاهَدُونَ ، وَاتَّقُوا الأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا، وَلَكِنْ بِرُّوهَا وصِلُوها (ابن كثير)

والواصِل هو الذي يصِل ما قُطِع مِن الرّحِم .

قال رسول الله : لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا . رواه البخاري .

وجاء رَجُل فقال : يَا رَسُولَ اللهِ ، إنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ ، فَقَال: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ . رواه مسلم . الْمَلّ : هو الرّماد الْحَارّ .

 

وقد شَخّصَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الداءَ ، ووَصَفَ الدواءَ

فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ : دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ : الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ ، هِيَ الحَالِقَةُ ، لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا . أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ . رواه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ ، وحسّنَه الألبانيُّ .

 

وفي حديثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ قال : أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنَ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا : بَلَى ، قال : صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ . رواه الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ في " الأدبِ المفْرَدِ " والترمذيُّ وأبو داودَ ، وَصحّحَه الألبانيُّ والأرنؤوطُ .

وفي حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ قال : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُسْلِمُوا ، وَلا تُسْلِمُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، وَأَفْشُوا السَّلامَ تَحَابُّوا، وَإِيَّاكُمْ وَالْبُغْضَةَ ، فَإِنَّهَا هِيَ الْحَالِقَةُ ، لا أَقُولُ لَكُمْ : تَحْلِقُ الشَّعْرَ ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ . رواه الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ في " الأدبِ المفْرَدِ " .

 

وأمَر الله بإصلاحِ ذاتِ البَيْن ، فقال عزّ وجَلّ : (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا تَحْرِيج مِن الله على المؤمنين أن يَتّقُوا الله وأن يُصْلِحوا ذات بينهم . رواه ابن أبي شيبة والبخاري في " الأدب المفْرَد " وابن جرير في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره .

 

وقال سَعِيدُ بنُ الْمُسَيَّبِ : أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ ؟

قَالُوا : بَلَى .

قَال: إصلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْبِغْضَةَ ، فَإِنَّهَا هِيَ الْحَالِقَةُ . رواه الإمامُ مالكُ .

 

وجاءَ الحثُّ على التسليمِ والمصافَحَةِ ؛ لِمَا فيها مِن التحابِّ ودَفْع العداوة والبغضاء

قال رسولُ اللهِ : لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ . رواه مسلمٌ .

وقالَ رسولُ اللهِ : إنَّ المسلمَ إذا صافَحَ أخَاه تَحاتَّتْ خَطَاياهُمَا كَمَا يتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ . رواه البزارُ ، قال الألبانيُّ : صحيحٌ لغيرِهِ .

 

مَنْ هَجَرَ أُخْوانَه ، فماذا بَقيَ لَهُ ؟

أخاك أخاك إنَّ مَنْ لاَ أَخَا لَهُ *** كَسَاعٍ إلَى الهَيجَا بغَيرِ سِلاَحِ

وَإِنَّ ابْنَ عَمِّ المرءِ - فَاعْلَمْ - جَنَاحُهُ *** وَهَل يَنْهَضُ البَازِي بِغَيرِ جَنَاحِ ؟!

 

خُطورةُ التهاجُرِ :

إذا كانَ التّهاجُرُ بين ذوي الأرحامِ ؛ فهو كبيرةٌ مِن كبائرِ الذنوبِ؛ لأنَّه قَطِيعَةٌ للرَّحِمِ ، وقاطِعُ الرَّحِم مَلْعونٌ مَطرود مِن رَحمةِ الله .

قال اللهُ عزّ وجَلّ : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) .

وقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ . رواه البخاريُّ ومسلمٌ وزادَ مسلم : قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ : قَال سُفْيَانُ : يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ .

 

واسْتَجَارَتِ الرَّحِمُ بِاللهِ مِنَ القَطِيعةِ ، فقالَ اللهُ عزّ وجَلّ لها : أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ؟ قَالَتْ : بَلَى يَا رَبِّ ، قَال : فَذَاكِ . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) . رواه البخاريُّ ومسلم .

 

مَنْ هُمُ الأرحامُ الذين تَحْرُمُ قطيعتُهُم ؟

 

وقطيعةُ الرّحِمِ مِنَ الذّنوبِ الْمُعجّلةِ عقوبتُها في الدنيا ، مع ما يَنْتَظِرُ صاحِبَها في الآخرةِ .

قالَ رسولُ اللهِ : مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ الْعُقُوبَةَ لِصَاحِبِهِ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ : مِنَ الْبَغْيِ ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ . رواه الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ في " الأدبِ المفْرَدِ " والترمذيُّ وابنُ ماجَه ، وصححَه الألبانيُّ والأرنؤوطُ .

وفي روايةٍ لأحمدَ : ذَنْبَانِ مُعَجَّلان لا يُؤَخَّرَان : الْبَغْيُ ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ .

 

ومِن عقوباتِ القَطيعةِ والتّهاجُرِ : إعراضُ الرّبِّ تباركَ وتعَالى عمّنْ هَجَرَ أخَاه المسلمَ بِلا عُذرٍ شرعيٍّ، ولا تُرفَعُ أعمالُه، ولا تُعرَضُ على اللهِ عزّ وجَلّ .

قالَ رسولُ اللهِ : تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا ، إِلاّ رَجُلا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ ، فَيُقَالُ : أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. رواه مسلم .

 

وقالَ رسولُ اللهِ : لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُصَارِمَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلاثٍ ، فَإِنَّهُمَا نَاكِبَانِ عَنِ الْحَقِّ مَا دَامَا عَلَى صِرَامِهِمَا ، وَإِنَّ أَوَّلَهُمَا فَيْئًا يَكُونُ كَفَّارَةً عَنْهُ سَبْقُهُ بِالْفَيْءِ، وَإِنْ مَاتَا عَلَى صِرَامِهِمَا لَمْ يَدْخُلا الْجَنَّةَ جَمِيعًا أَبَدًا ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ تَسْلِيمَهُ وَسَلامَهُ ، رَدَّ عَلَيْهِ الْمَلَكُ ، وَرَدَّ عَلَى الآخَرِ الشَّيْطَانُ . رواه الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ في "الأدبِ المفْرَدِ " ، وَصحّحَه الألبانيُّ والأرنؤوطُ .

وهذا الحديث وأمثاله مِن أحاديث الوعيد تُمَرّ كما جاءت مِن غير تفسير ؛ لأنه أبْلَغ في الترهيب مِن الكبائر .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وَقَدْ نُقِلَ كَرَاهَةُ تَأْوِيلِ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ عَنْ سُفْيَانَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ وَجَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ . اهـ .

 

وفي حديثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللهِ قالَ : يَطَّلِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلاّ لاثْنَيْنِ : مُشَاحِنٍ ، وَقَاتِلِ نَفْسٍ . رواه الإمامُ أحمدُ . وقالَ شعيبٌ الأرنؤوطُ : صحيحٌ بشواهِدِه .

ورَواه ابنُ أبي عاصمٍ في كتابِ " السُّنةِ " مِن طَرِيقين ؛ مِن حديثِ معاذٍ ومِن حديثِ أبي موسى رضي اللهَ عنهما . وصححَه الألبانيُّ .

وفي حديثِ معاذٍ رضي الله عنه : يَطَّلِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ فِي اللَّيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِن .

 

ومِن عُقوباتِ القطيعةِ : ذَهَابُ بَرَكةِ العُمرِ .

قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ . رواه البخاريُّ ومسلم .

قالَ النوويُّ : يُنْسَأَ مهموزٌ أي : يُؤخَّرُ . والأثَرُ الأجَلُ ؛ لأنه تابِعٌ للحياةِ في أثرِها. وبَسْطُ الرِّزْقِ تَوْسِيعُهُ وَكَثْرَتُهُ . وَقِيلَ : الْبَرَكَةُ فِيهِ . اهـ .

 

وإن العاقِلَ ليَعجَب : فِيمَ يتنافسُ الناسُ ، وعلى أيِّ شيءٍ يُتحاسَدون ؟ فيَبْغِي بَعضُهم على بعضٍ ، ويَقَعُ بينهم التهاجُرُ والتقاطعُ ، وتَدُبُّ بينهم البغضاءُ ؟

إنهم يَتَنَافَسُونَ ويَتَحَاسَدُونَ ويَتَقَاطَعُونَ ويَقْتَتِلونَ على جَناحِ بعوضةٍ !

لو قيل لك : إن عُقلاءَ الناسِ يَختَصِمون على بَيْضَةٍ لعُدَّ ذلك مِن الْسَّفَهِ ونَقْصِ العَقْلِ !

فكيف وهم يَختَصِمون على ما لا يُساوي جَناحَ بعوضةٍ ؟!

مَرَّ رسولُ اللهِ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ ، فَقَال : أَتُرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَا ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا ، وَلَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا . رواه الترمذيُّ وابنُ ماجه ، وَصحّحَه الألبانيُّ وحسّنَه الأرنؤوطُ .

وفي روايةٍ : لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا .

الدّنيا مِن أوَّلِها إلى آخرِها لا تعدِلُ جناحَ بعوضةٍ !

فَكَم يَملِكُ الناسُ اليومَ مِن هذا الجناحِ ؟! فالناسُ يتنافسونَ ، ويتحاسَدون ، ويتقاطَعون على جُزءٍ لا يَكادُ يُذكَرُ مِنْ جناحِ بعوضةٍ !

وواللهِ لو كانتِ الدنيا تَجْرِي على صاحِبِها ذَهَبًا ، ويُدرِكُ كُلَّ كَرَامٍ ، ويحصُلُ له كلُّ مقصودٍ ؛ فإنها لا تُساوي لحظةً واحدةً مِن عذابِ اللهِ .

قال رسولُ اللهِ : يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لا وَاللهِ يَا رَبِّ . رواه مسلم .

والحسَد خُلُق ذميم مِن أخلاق اليهود .

قال الله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) ؟ وقال عنهم : (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ).

والْحَسَد شرّ ، ولذا يُستعاذ بالله من الحاسِد كما يُستعاذ بالله من الشياطين !

وفي سورة الفَلَق : (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) .

والحسد صِفَة مِن صِفات المنافقين !

قال الْفُضَيْل بن عِيَاضٍ: الْغِبْطَةُ مِنَ الإِيمَانِ وَالْحَسَدُ مِنَ النِّفَاقِ , وَالْمُؤْمِنُ يَغْبِطُ وَلا يَحْسِدُ , وَالْمُنَافِقُ يَحْسِدُ وَلا يَغْبِطَ . وَالْمُؤْمِنُ يَسْتُرُ وَيَعِظُ ، وَيَنْصَحُ وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيُعَيِّرُ وَيُفْشِي . رواه أبو نُعيم في " حلية الأولياء " .

والحاسِد لئيم .

قال ابن حِبّان : الحسَد مِن أخلاق اللئام، وتَرْكه مِن أفعال الكرام ، ولِكُلّ حَرِيق مُطْفِيء ، ونار الحسد لا تُطْفأ .

ومِن الحسد يَتَولّد الْحِقد ، والْحِقْد أصل الشرّ ، ومَن أضْمَر الشرّ في قَلْبه أنْبَت له نَبَاتًا مُرّا مَذَاقه : نَمَاؤه الغَيْظ ، وثَمَرَته النّدم . (روضة العقلاء)

والحاسِدُ مُعتَرِضٌ على اللهِ عزّ وجَلّ ؛ لأنَّ القِسْمَةَ قِسْمَتُه ، والرّزقَ رِزْقُه ، والأمْرَ أمْرُه .

(نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .

وفي بعضِ الآثارِ الإلهيةِ : الْحَاسِدُ عَدُوُّ نِعْمَتِي ، مُتَسَخِّطٌ لِقَضَائِي ، غَيْرُ رَاضٍ بِقِسْمَتِي الَّتِي قَسَمْتُ بَيْنَ عِبَادِي . رواه البيهقيُّ في " شُعبِ الإيمانِ " .

 

وفي وَصَايا سُفيانَ الثوريِّ : إِيَّاكَ وَالشَّحْنَاءَ , فَإِنَّهُ لا تُقْبَلُ تَوْبَةُ عَبْدٍ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءٌ, وَإِيَّاكَ وَالْبَغْضَاءَ , فَإِنَّمَا هِيَ الْحَالِقَةُ , وَعَلَيْكَ بِالسَّلامِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَخْرُجُ الْغِلُّ وَالْغِشُّ مِنْ قَلْبِكَ , وَعَلَيْكَ بِالْمُصَافَحَةِ تَكُنْ مَحْبُوبًا إلى النَّاسِ . رواه أبو نُعيمٍ في " حليةِ الأولياءِ " .

 

وكان السلفُ يَحْرِصُونَ على تَنْقِيَةِ قُلُوبِهم في كلِّ آنٍ .

جَرَى بَيْن ابنِ السَّمَّاكِ وبَيْن صديقٍ له كلامٌ ، فقالَ له صديقُه : الميعادُ غَدًا نَتَعَاقَبُ ! فقالَ : بلِ الميعادُ غدًا نَتَغَافَرُ !

 

فاعفوا واصفَحوا عِبادَ اللهِ ، يَعفُ اللهَ عنكم .

وأصلِحوا ذاتَ بينكِم .

وصِلُوا أرحامَكم ، واحذروا مِنْ قَطيعَةِ الأرحامِ ، ومِن التقاطُعِ .

 

وأمّا علاجُ التهاجُرِ والتقاطُعِ ؛ فجاءَ في القرآنِ وفي السُّنّةِ

بِإفشاءِ السلامِ والتواصلِ ، كما تقدّمَ .

وبأنْ يَدفَعَ الإنسانُ بالتي هي أحسَنُ ، كما أمَرَ اللهُ عزّ وجَلّ .

قال مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ : (ادْفَعْ بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال : هُوَ السَّلامُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ . رواه البيهقيُّ في " شُعبِ الإيمانِ " .

 

وأنْ يَحرِصَ المسلمُ على نَيْلِ الخيريةِ ؛ فيَكونَ هو الذي يَبْدأُ بِالسلامِ ، كما في قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ : لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أنْ يَهْجُرَ أخَاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ ، يَلْتَقِيَان فَيُعْرِضُ هذا ويُعْرِضُ هذا ، وخَيْرُهُمَا الذي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ . رواه البخاريُّ ومسلمٌ .

وأنْ يتذكّرَ أنْ عَفْوَ اللهِ أقْربُ إلى مَنْ عَفَا

كان أبو بكرٍ الصدّيقُ رضي الله عنه يُنْفِقُ على مِسْطَحِ بنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَلِفَقْرِهِ ، فَلَمَّا خَاضَ مسْطحُ في عِرْضِ عائشةَ رضي اللهُ عنها ، حَلَفَ أبو بكرٍ أَنْ لاَ يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى) الآيَةَ قال أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :  بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي ، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَال: وَاللَّهِ لاَ أَنْزِعُهَا عَنْهُ أَبَدًا . رواه البخاريُّ ومسلمٌ .

قال ابنُ كثيرٍ : وَكَانَ الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعْرُوفًا بِالْمَعْرُوفِ ، لَهُ الْفَضْلُ وَالأَيَادِي عَلَى الأَقَارِبِ وَالأَجَانِبِ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إِلَى قَوْلِهِ : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) الآية ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ، فَكَمَا تَغْفِرُ عَنِ الْمُذْنِبِ إِلَيْكَ نَغْفِرُ لَكَ ، وَكَمَا تَصْفَحُ نَصْفَحُ عَنْكَ . فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ الصَّدِّيقُ : بَلَى وَاللَّهِ إِنَّا نُحِبُّ - يَا رَبَّنَا- أَنْ تَغْفِرَ لَنَا ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ مَا كَانَ يَصِلُهُ مِنَ النَّفَقَةِ ، وَقَالَ : وَاللَّهِ لا أَنْزَعُهَا مِنْهُ أَبَدًا ، فِي مُقَابَلَةِ مَا كَانَ قَالَ : وَاللَّهِ لا أَنْفَعُهُ بِنَافِعَةٍ أَبَدًا .

فَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ هُوَ الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ بِنْتِه . اهـ .

 

وأنْ يتذكّرَ أنَّ الدنيا لا تساوي عندَ اللهِ شيئا .

وأنَّ خيرَ الكَسْبِ فيها وخيرَ ما يُغْنَمُ : طاعةُ اللهِ .

قال رسولُ اللهِ : أَلا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالاهُ ، وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ . رواه الترمذيُّ وابنُ ماجه ، وحسّنَهُ الألبانيُّ والأرنؤوطُ .

وأن الآخرة هي الأبقَى .

(وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى)

قال ابن كثير : أَيْ: وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ . وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ أَزْهَدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا ، وَأَعْظَمَهُمْ لَهَا إِطْرَاحًا . اهـ .

 

قُومُوا فَاسْتَعِينُوا بِربِّكم ، وَأَخْسِئوا شَيَاطِينَكم

وصِلُوا أرْحامَكم قبلَ مَغيبِ شمسِ هذا اليوم .




 

عبدالرحمن السحيم
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • إنه الله
  • محمد رسول
  • المقالات العَقَدِيَّـة
  • قضايا الأمّـة
  • مقالات تربوية
  • مقالات وعظية
  • تصحيح مفاهيم
  • قصص هادفة
  • موضوعات أُسريّـة
  • تراجم وسير
  • دروس علمية
  • محاضرات مُفرّغة
  • صفحة النساء
  • فتاوى شرعية
  • الصفحة الرئيسية